الأحد 2 سبتمبر 2018
جريدة رأي اليوم الإلكترونية
ثقافة - راي اليوم
في ذكرى مرور ربع قرن على رحيله.. عبقرى النغم… بليغ حمدى
في الثاني عشر من شهر سبتمبر 2018، سيكون قد مر ربع قرن على رحيل الموسيقار الكبير بليغ حمدي (1932-1993) الذي يعد من مشاهير الموسيقيين والملحنيين في القرن العشرين، بل في تاريخ الموسيقى العربية على الإطلاق؛ بما قدمه من أعمال خالدة ستبقي ما بقي الدهر.. كانت الموسيقى بالنسبة له لا تمثل عمل أو مهنة، بل كانت حالة حب وعلاقة عشق متواصلة…عشق فيه الحب والغضب..
ولد بالقاهرة بحى شبرا العريق ، فى السابع من أكتوبر 1932م ، لأسرة عريقة ، تنحدر من محافظة سوهاج بالصعيد، كان والده مفتشاً بوزارة المعارف، كان له أبحاث علمية منشورة بالصحف والمجلات الأدبية والعلمية وترجم العديد من الكتب العلمية، وكان مغرماً بالفن وأهله، يعقد فى منزله صالوناً يدعو فيه أعلام الفن من أمثال: الشيخ درويش الحريري، وزكريا أحمد، والسنباطي، وصالح عبدالحى، وغيرهم، وكان الطفل ينصت لهم باهتمام ودهشة يلتهم ما يسمعه من موشحات وأدوار وقصائد، بل تعلم مباشرة من الشيخ درويش الحريرى فن المقامات والموشحات، وكذلك كانت مكتبة والده زاخرة بمئات الإسطوانات من الموسيقى الغربية الذي سمعها أيضا، وقرأ فيها أمهات الكتب مثل: كتاب “سفينة شهاب”، و”الموسيقى الشرقى” لكامل الخلعي.
التحق بكلية الحقوق وبالمعهد العالى للموسيقى العربية لينال ليسانس الحقوق ودبلوم الموسيقى في وقت واحد، فلم يفلح في الجامعة وطرده معهد الموسيقى، وهام على وجهه في شارع علوي مقر الإذاعة في ذلك الوقت، باحثا عن صوت يؤدى الألحان المزدحمة في رأسه، فلم يجد أحداً، ولم يجد موئلاً له غير فرقة (ساعة لقلبك) الشهيرة فى الخمسينات، وعمل مطرباً بها، وقد غنى من تلحين غيره من أمثال: عبدالعظيم محمد، ورؤوف ذهني، وتعرف خلال تلك الفترة على الفنانة فايدة كامل، ولحن لها بعض الألحان.
طرق بليغ ابواب الإذاعة لاعتماده ملحناً، فنصحته اللجنة التي استمعت إليه بأن يترك التلحين إلى الغناء، فلم يقتنع بهذا الرأى، وصمم على اقتحام هذا المجال بنفسه، فاعتمد على صديقه المطرب والموسيقار محمد فوزي، والذي ساعده بطبع أغانيه في شركته (مصر فون) للمطربات الناشئات وقتئذ: شادية، ونجاة، وفايزة أحمد.
كان بليغ صديقا للشاعر الغنائى عبدالوهاب محمد، الذى ظهر على الساحة حديثا آنذاك، وكان يعمل مهندساً فى شركة “شل”، وكان أن أعطاه كلمات ليلحنها (حب ايه اللى انت جاى تقول عليه)، وقد كثرت الأقوال حول الدافع الذى جعل بليغ يقنع بليغ ومطربى عصره
مع ام كلثوم:بتأليف هذه الأغنية منها:
أولها: أنه وقع فى حب الراقصة الشهيرة سامية جمال، وكان فى بداياته، وأقنع أخيه الأكبر د. مرسى سعد الدين بأن يذهب معه كى يخطبها له، وألح عليها فى الطلب إلى أن ملته وسخرت منه قائلةً (حب إيه اللى أنت جاى تقول عليه).
والقول الآخر: وهو رأى الموسيقار صلاح عرام صديق عمر بليغ إذ قال: (كانت هذه الاغنية معدة خصيصاً كى تغنيها الفنانة ثريا حلمى).
والقول الأخير: هو إعداد بليغ لهذا اللحن كي يغنيه ابن أخ ام كلثوم، ابراهيم خالد الذي حاول امتهان الغناء ولكنه تعثر في الطريق.
خلاصة القول: إن الموسيقار محمد فوزي استمع إلى مطلع الأغنية فأعجبه، ومن فرط إعجابه دعا بليغ للسهر فى منزل د. زكى سويدان، وكان بها أعلام الغناء والتلحين منهم: أنور منسى، وعبدالغنى السيد، وغيرهم، وكان على راس المدعوين كوكب الشرق أم كلثوم، التى دعت بليغ للجلوس بجانبها، ليسمعها آخر ألحانه، ومال عليه محمد فوزى وهمس فى أذنه: قول مطلع “حب ايه” وبدأ بليغ يدندن، وإذ بالست تعيره أذنيها وتطلب منه أن يعيدها أكثر من خمس مرات. وانتهت السهرة وسط إعجاب المدعوين وكوكب الشرق، وتأهبت للانصراف وقالت:
” يا واد يا بليغ أنا عايزاك بكرة الصبح الساعة 12 “، وذهب إليها بليغ فى الميعاد، وأكمل اللحن وعمل (البروفات) وغنته فى الموسم الغنائى 1960م وأعقبته بروائع:
– ” انساك”، ” كل ليلة وكل يوم”، “بعيد عنك” من كلمات مأمون الشناوى، و” سيرة الحب”، “فات الميعاد”، “ألف ليلة وليلة” من كلمات مرسى جميل عزيز، و”أنا وانت ظلمنا الحب”، ” حكم علينا الهوى” من كلمات عبدالوهاب محمد، و”الحب كله ” من كلمات أحمد شفيق كامل، و”إنا فدائيون ” من كلمات عبد الفتاح مصطفى، والحق يقال أن محطته مع ام كلثوم هى التى دفعته وجعلته يتبوأ القمة مع العمالقة، وصار صنواً لأعلام الموسيقى: زكريا أحمد، والسنباطى، والقصبجى، وعبدالوهاب…..وغيرهم.
بليغ وعبدالحليم حافظ:
تعرف بليغ إلى حليم مبكراً، وكانت أغنية “تخونوه” هى بداية المشوار، وهى فى الأصل ملحنة لتغنيها المطربة الكبيرة (ليلى مراد). وتتابعت محطات النجاح مع عبدالحليم مروراً بأغنيات: “خايف مرة احب”، و”خسارة…خسارة” وفى نهاية الستينات طرق عبدالحليم ولأول مرة الأغنية الطويلة، وكانت أغنية (موعود) فاتحة الأغنيات التى كان بليغ فارسها الأول بلا منازع ، أعقبها أغنيات: “اى دمعة حزن لا”، “مداح القمر”، “حاول تفتكرنى”، “زى الهوا”، “حبيبتى من تكون”، “سواح”.
وكان حليم يحلو له أن يطلق على بليغ (أمل مصر فى الموسيقى) ، وحول هذه العلاقة يقول بليغ: ” كنا أنا وحليم بمثابة رحلة طويلة بدات بـ(تخونوه- خسارة-خايف مرة احب) وتعددت اللقاءات، كنا أحيانا نختلف فى وجهات النظر ولكننا لم نختلف أبداً كأصدقاء، وعندما اتجهت إلى الغناء الشعبى ابتعدنا بعض الشيء عن العمل معاً، ثم التقينا فى التفكير الشعبى باغنية (على حسب وداد)، و(انا كل ما اقول التوبة)، وبدأنا رحلة عمل عظيمة، كم كنت اتمنى أن نستمر، حيث أنه من خلال صوت حليم كنا سننطلق للعالم بألحان لها قومية موسيقية، حقيقى قدمنا الأغنية الطويلة حتى لا تحدث فجوة فى الغناء المصرى الشرقى”.
مجلة الكواكب 2199، 21سبتمبر 1993 ص48.
تعاون بليغ مع وردة (بحبك فوق ما تتصور):
كون بليغ مع المطربة وردة ثنائياًً شهيراًً في تاريخ الغناء العربي، وتعود معرفته بوردة في بداية كل منهما، فقد سمعها قبل أن يلتقيها، إذ أحضر له عازف الكمان أنور منسي شريطاً من لبنان به أغان لوردة مسجل عليه بصوتها أغنية “يا ظالمنى” لأم كلثوم ، وأيضا اسمعه المذيع جلال معوض حفلات لها فى دمشق، فأعجبه صوتها وانجذب إليه إلى أن جاءت إلى مصر للاشتراك في فيلم “ألمظ وعبده الحامولى” مع المرحوم حلمى رفلة، فاتصل به الأستاذ الشجاعي كى يقدم لها لحناً “بحبك فوق ما تتصور” ثم أغنية “يا نخلتين في العلالى” حيث كانت الأغنية المهيمنة فى الفيلم ، فعندما نتذكر هذا الفيلم تتبادر هذه الأغنية إلى الاذهان التى استمرت شهرتها حتى الان، وفجاة اختفت وقيل إنها ذهبت إلى بيروت أو الجزائر وشغف بليغ بها حبا، وعاش اللوعة بعد رحيلها من مصر وانعكس ذلك على ألحانه فى تلك الفترة حيث اتصفت بالشجن، وكان أثناء الإندماج فى البروفات تنتابه نوبات بكاء حزنا على فراقها.
وفي الذكرى العاشرة لإستقلال الجزائر، دعته حكومتها لإحياء هذه المناسبة، وكانت المفاجاة أن وجد وردة ضمن المشاركين فى الحفل، الذى اشترك فيه العديد من نجوم مصر ، وأقنعها بالرجوع إلى مصر وغــنت “والله زمان يا مصر” و”قد العيون السود”، وارتبطا عائلياًً وفنياًً وعاشا سنوات من الحب والود أبدعا فيها أحلى الأغانى التى زادت على الثمانين، ونتيجة للغيرة تم الانفصال بينهما سنة1979 بعد اقتران دام سبع سنوات.
إن التعاون بين بليغ ووردة أثمر العديد من الأعمال الرائعة والألحان العظيمة هى التاريخ الحقيقى لوردة منها:(وحشتونى- حكايتى مع الزمان- قد العيون السود- اسمعونى- اشترونى- معجزة- احضنوا الايام- خليك هنا- دندنة- ليالينا- لو سالوك- حنين..حنين – بودعك – ليل يا ليالي- مسا النور والهنا – ولاد الحلال – سلام سلاح – من بين الوف) ، كما لحن أوبريت “تمر حنة” وأغانى مسلسل ” اوراق الورد ” والموسيقى التصويرية والألحان لأفلام (حكايتى مع الزمان – آه يا ليل يا زمن) ، ومسلسل (أوراق الورد) واستمر التعاون بينهما حتى بعد الانفصال.
وكما شكل بليغ ثنائيات مع حليم ووردة ، تعاون أيضا مع كل المطربين الموجودين على الساحة فى مصر والدول العربية منهم:
شــــــادية:
بدأ التعاون معها مبكرا ، حيث لحن لها أغان خفيفة ، كانت تتلائم مع هذه المرحلة التى تمر بها مثل: (مكسوفة – الصبحية – معلش النوبادى) وقدم لها أعمال أخرى خالدة، تنوعت ما بين أعمال فولكورية وعاطفية ووطنية وهو الذى طور من صوت الدلوعة الشقية فى الخمسينات حتى الفخامة فى الستينات مثل :(والنبى وحشتنا – الحنة – قولوا لعين الشمس – عطشان يا صبايا – خلاص مسافر – آخر ليلة – يا حبيبتى يا مصر – خدنى معاك ) وغيرها…
نجـــــــاة:
قدم لها عدة أغانى رائعة منها: (أنا بستناك – كل شيء راح – الطير المسافر- سلم على – ليلة من الليالى- حلاوة الحب – فى وسط الطريق – نسى – مسير الشمس – سكة العاشقين).
صبــــــاح:
وكان لها نصيب من ألحانه مثل: (عاشقة وغلبانة – يانا يانا – زى العسل – جانى وطلب السماح – امورتى الحلوة – كل حب وانت طيب – ياخدوا عيونى يا حبيبى).
محـمد رشـدى:
وتعاون بليغ مع المطرب الشعبى الكبير محمد رشدى الذى بدأ بغناء الملحمة الشهيرة “أدهم الشرقاوى” فاحدثت ضجيج فى عالم الموسيقى، وكان بليغ قد بدأ يطرق أبواب الفولكلور فى هذا التوقيت، فوجد ضآلته مع رشدى، وكذلك ألتقى بالأبنودى، الذى كون معهما ثلاثى خالد أبدع أعظم الألحان التى ما زالت عالقة فى أذهان المستمع والمتذوق العربى حتى الآن، وقد لحن لرشدى أشهر أغانيه على الإطلاق مثل: (عدوية- ميتى اشوفك- وسع للنور- مغرم صبابه – بلديات – طاير يا هوى – بياع القناديل – بناديلك). وغيرها.
ولعل بليغ هو الملحن المصرى الوحيد، الذى لم يترك مطرباً واحداً إلا ولحن له مجموعة من أشهر وأنجح أغانيه، فقد لحن لفايزة أحمد وميادة الحناوى من سوريا، وعزيزة جلال وسميرة سعيد وعبدالهادى بلخياط من المغرب، ونعمه وعليا وأحمد حمزة ولطيفة من تونس، وسعدون جابر من العراق، وعلى عبدالستار من قطر، ورباب من الكويت، وخالد الشيخ من البحرين، وصباح ، ووليد توفيق، وماجدة الرومى، وجورج وسوف، ووديع الصافى من لبنان…. وغيرهم.
وطنيات بليغ حمدى
أدرك بليغ العديد من الأحداث الوطنية التي حدثت في مصر، فعندما كان فى المرحلة الثانوية كانت مصر تغلى وتطالب بالجلاء من خلال المظاهرات والجهاد ضد المحتل الغاشم، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.. فبريطانيا وعدت قبل الحرب بالجلاء ، ونكثت العهد والمواثيق بعد ان وضعت الحرب اوزارها ، كذلك شهدت مصر حرب فلسطين والنكبة التى حلت بالعرب عام 1948م..، وثورة 23 يوليو 1952م… والعدوان الثلاثى على مصر والمقاومة الوطنية الشرسة له، وكانت تلك الأحداث والمواقف قد اختزنت بوجدان بليغ ، وجعلت تفور بين جوانحه وتزدحم.
وصدم بليغ أشد صدمه عند هزيمة مصر عام 1967م ، وحزن وتألم كثيراً ولم يستسلم كغيره من الملحنين وأعلن حالة الطوارىء ، وكان يحث أصدقائه الشعراء على البذل والعطاء ، فكون كتيبة منهم كانت لا تغادر الاستوديوهات إلا نادراً منهم: عبدالرحمن الابنودى – عبدالرحيم منصور – محمد حمزة – محسن الخياط – مرسى جميل عزيز….. وغيرهم. وكانت باكورة هذه الأعمال ، الأغنية الخالدة “موال النهار” التى أعجبت الزعيم الخالد جمال عبدالناصر وكان يطالب المسئولين بإذاعتها يومياً ، وأغانى: (فدائى- أم الصابرين- والله زمان يا مصر) وغنت له أم كلثوم رائعتها “إنا فدائيون ” من أشعار عبد الفتاح مصطفى.
كما لحن بليغ أغان عاطفية ضمنّها معان وطنية، مثل أغنية: “خلاص مسافر- آخر ليلة – قطر الفراق – قولوا لعين الشمس – خدنى معاك “، وكلها من غناء الفنانة ذات الصوت الشجى الرخيم شادية.
وبعد حرب اكتوبر 1973 كان أول فنان يدخل الإذاعة، وكان يمكث بالأيام، يبدع لا يمل ولا يكل وكان باكورة تلك الأعمال النشيد الخالد “بسم الله.. الله اكبر” الذى غنته المجموعة، والجدير بالذكر أن الإذاعة فى هذا التوقيت رفضت إنتاج هذه الأغنية لعدم وجود ميزانية، فتحمل بليغ كل التكاليف من جيبه الخاص، وأصبح هذا النشيد علامة من علامات النصر ، ومنها أيضا : “ع الربابة – عبرنا الهزيمة – عاش اللى قال – منصورة يا بلدى”، وظل بليغ يبدع أغان وطنية حتى اخريات حياته منها : “ادخلوها امنين – انا من البلد دى – وحشتينى يا مصر – مصر لكل المصريين” وغيرها…
بليغ حمدى والفولكلور
نظر بليغ إلى موروثنا الشعبى الموسيقى والغنائى فى الوطن العربى، الذى يشبه (الديناميت) فى باطن الأرض، فأراد أن يفجر تلك الأرض ويستخرج من باطنها الدرر… حتى لا نستيقظ يوماً فنجد أنفسنا وقد فقدنا جذورنا وهويتنا ، فتتقاذفنا أموج المجهول ، ونصبح أمة بلا ماض.. امة تتعابث مع الحاضر والمستقبل لأنها تلهو لاستنزاف الوقت ، حيث انها تحب اللعب بعيداً عن المضمون.
وقد قام بليغ بدراسة طويلة للأدب الشعبى، وبدأ يكيف ألحانه بهذا الأسلوب، لأنه كان يؤمن بأن هذا هو الطريق السليم لوضع شخصية قومية لموسيقانا العربية، و يدرس تركيبات لحنية وإيقاعات وأساليب موجودة فى وجداننا وتعيش معنا، وأعتقد أن هذه الرؤية التى راها، قد اعتمد عليها سيد درويش عندما بدأ فى صياغة ألحانه الشعبية ، معتمداً على التراث ، وقد اتهمه البعض بأن الطريق فى بعث الفولكلور يعد نوع من الإفلاس، وعدم القدرة على الإبداع ، ودافع عن وجهة نظره بأن الطريق إلى بعث الفولكلور هو إيجاد شخصية قومية لموسيقانا مثلما فعلت الأمم الاخرى : كالهند واليونان وأسبانيا.
وكانت المرحلة هى بعث الفولكلور، فنجد أن الجامعات قد قدمت الدراسات عنه بواسطة الدكتور عبدالحميد يونس، ونجد أن زكريا الحجاوى يطوف البلدان ويجمع شتات الفرق الشعبية، ونجد عبدالرحمن الأبنودى يتصل بكل شعراء السير لجمع السيرة الهلالية من كل البلدان، وتجاوز ذلك البلدان العربية ، كل ذلك أغرى بليغ فطرق الفولكلور من ناحية الموسيقى ، فأخذ يهذب جمله ويعيد أحيائها فى صورة مبهرة ، أكثر جمالا ، وكان أول من غنى له محمد رشدى “عدوية- ع الرملة- مغرم صبابه- طاير يا هوى- وسع للنور- بلديات- بناديلك- ياللحيزرانه”، وغيرها والتى لا يزال يختزنها الجمهور فى وجدانه حتى الآن.
وكان التعاون بين بليغ والأبنودى ورشدى قد أغرى المطرب العاطفى الأول عبدالحليم، فحاول أن يطرق الفولكلور فلحن له بليغ: “مداح القمر وهى من الفولكلور الحلبى السورى- على حزب وداد قلبى – أنا كل ما اقول التوبة – سواح – حاول تفتكرنى ” وغيرها…
وقد غنت له شادية : “خلاص مسافر- قولوا لعين الشمس – قطر الفراق – اخر ليلة- اسمرانى اللون : (وهى من الفولكلور الشامى)، وغنى له محرم فؤاد: ” يا غزالى اسكندرانى – يا حبايب بلدى – كلو ماشى – تعب القلوب يا اهل الله “.
المحنة والغربة
فى منتصف الثمانينيات تعرض بليغ لحادث هز كيانه، وكان حديث الناس إذاك، وهو مقتل المطربة المغربية ” سميرة مليان”، وكان منزل بليغ مفتوحاً لمن يعرفه ومن لا يعرفه ، حتى خرجت الصحف فى 18 ديسمبر1984 تحمل خبر مقتلها، والتى وجدت جثتها عارية تماماً بعد أن ألقت بنفسها من شباك شقته، وكانت تلك الحادثة هى التي غيرت مسار حياته، وقتلت بداخله حلم الإبداع والابتكار، فقد ادخلته عالم القلق والخوف، لكنه ليس قلق النجاح، إنما هو القلق الإنسانى ، فالتهمة خطيرة تمسه كفنان وإنسان.
كان بليغ خجولاً امام أصدقائه لا يستطيع صدهم أو يقول لا لأحدهم فهو لم يحاول إفساد السهرة على أصدقائه وتركهم فى سهرتهم ودخل حجرته لينام ، وحدث ما حدث من إتهام له ومن حملة قاسية ظالمة عليه من الصحافة وأنقلب عليه كل من استفاد منه وتسلق على سلم شهرته، وانقض عنه المنافقون وتكتلوا ضده وأشاعوا عنه الأكاذيب والأراجيف، وكان يحز فيه أنه يجد المثل يتراقص أمام عينيه :”اتق شر من احسنت اليه”.
” بليغ مهتم بتسهيل الفجور والدعارة طالبت الصحف، وطالب الجميع بتشديد العقوبة إلى اقصى حد، ودخلت الحادثة ساحة القضاء وقبل ان يصدر الحكم بسجن بليغ سنة ، كان قد طار خارج البلاد ليعالج من آلام الكبد التى عاودته ، واختار أن يكون منفاه “باريس” ، وبدأت مدخراته القليلة تنفذ وهو يحتاج للعلاج ، فقد ذبحته الغربة وبدا المرض ينازله فى شراسه متضامنا معه الاصدقاء الذين فقدوا الوفاء.
يقول الفنان مجدى نجيب، الشاعر الغنائى: “وكنت وقتها أعمل بالخارج، وكانت اتصالاتنا التليفونية مستمرة، وكان صوته يجىء إلى اذنى مثل أهات الجريح الذى أصبح فريسة محاصرة بالصمت وظلام الوحدة.” وبعد خمس سنوات فى منفاه ومعاناته مع المرض لمدة 1825 يوما، حصل على صك البراءة والعودة الى القاهرة، وتغيرت حياته تماما حيث تجنب السهرات واللقاءات والصحافة التى ظلمته ، ولكنه بعد حين بدأ يحن للموسيقى وحدد مجتمع أصدقائه الى أقل من خمسة فقط، بعد أن كانوا بالمئات، ويعيش على ذكريات ألحانه:
ولا يصعب علينا إلا الفراق يا عنينا
أيام علينا تعدى وتمر زى السحاب
تاخد معاها وتودى محبة وفرح وعذاب
ايام بتحكم علينا الشوك يجرح ايدينا
الله يجازى الأيام الله يهون علينا.
بليغ والاوبريت والمسرح الغنائى
ازدهر الأوبريت والمسرح الغنائى في مصر في بداية القرن العشرين على أيدى أعلام: (سلامه حجازى- منيرة المهدية- سيد درويش- وفرق “أمين صدقى- نجيب الريحانى- على الكسار”) ، وقدموا أروع الأعمال التى لو كتب لها البقاء والأستمرار، لكان حال موسيقانا أعظم شأنا، ولكن عند ظهور أم كلثوم وعبدالوهاب بدا ينحسر المسرح الغنائى واهتما بالاغانى الفردية التى تبرز شخصية كل منهما، وقد اتهم بعض النقاد عبدالوهاب وأم كلثوم بأنهما السبب فى اختفاء المسرح الغنائى.
وأعجب بليغ أيما إعجاب بفنان الشعب سيد درويش، وحاول ان يحذوا حذوه فى بعث المسرح الغنائى من جديد ، وكانت ثلاث تجارب تستحق الإشادة والتقدير: “مهر العروسة” التى قدمها عام 1963، وهى من تأليف الكاتب الكبير عبدالرحمن الخميسي وأخرجها للمسرح سعد أردش بأسلوبه المميز وفكره العميق والتى نعتقد أنها أهم الأوبريتات فى محاولة لاستكمال ما بدأه الشيخ سلامه حجازى وسيد درويش _ كما أسلفنا _ في بداية القرن العشرين من مسرح غنائى، وقد كان بليغ يحلم بهذا المسرح الغنائي، ولهذا فقد حاول مرة أخرى في “الزفة” وفي أوبريت “تمر حنة” الذى كتبه وصاغ أغانيه عبدالرحيم منصور، واسند بطولته للمطربة “وردة” زوجته ، وقدمه للمسرح فى إخراج متميز و مبهر الفنان جلال الشرقاوى، وهذا الأوبريت أعظم ما قدم ، حيث به روائع غنائية تزيد على 15 أغنية منها: ” سلام على الناس الحلوين – ابكى يا سما – ابعد يا ليل – زمان انا من زمان – الدار المهجور – يا عم يا صياد – حبايبنا جم بالسلامة ” وغيرها ، كذلك قدم الموسيقى والألحان لأوبريت ” ياسين ولدى ” من بطولة الفنانة الكبيرة “عفاف راضى”.
ثنائيات ناجحة ، ووجوه غنائية جديدة
وقد ساهم بليغ فى اكتشاف وجوه غنائية أصيلة اثرت الفن وأضافت إليه، منهم تلميذته الأثيرة:عفاف راضى التى تحدى بها الساحة الغنائية يومئذ ، وحولّها من الغناء الأوبرالى الغربى لتغنى الغناء الشرقى الأصيل، فقدمت معه أروع أغانيها بدءً من:( ردوا السلام – دورى بينا – مولد يادنيا – تعالى جنبى – كله فى الموانى – تساهيل – يمكن على باله – مصر لكل المصريين وغيرها…) ظلت عفاف مخلصة له ولذكراه حتى الآن حتى غنت أغنية له اكتفشت فى أدراج مكتبه بعد رحيله وهى (رغم البعد عنك)، كما اكتشف على الحجار ، وسميرة سعيد ، وهانى شاكر ، وميادة الحناوى حيث كان إنتاج العشر سنين الأخيرة من أغانيه موجها بشكل حصرى لصوتها ، التى غنت له ( الحب اللى كان- أنا أعمل إيه – سيدى أنا – أول وأخر حبيب – ثلج ونار – نعمة النسيان – مش عوايدك – أنا بعشقك – فاتت سنة ) وقد لحن لهؤلاء المطربين الذين كانوا فى بدايتهم الفنية ، أغان قوية دعمت من مكانتهم الفنية لدى الناس .
وكذلك كون ثنائيات شهيرة مع عدد من الشعراء وكتّاب الأغنية وأشهر هذه الثنائيات: مع محمد حمزة حيث كتب له أكثر من ستمائة أغنية ، ولم يتسنى لأى ثنائى فني أن أنتج هذا الكم الهائل من قبل ، بدأت رحلته معه بـ (سواح) مروراً بـ( جانا الهوى ، مداح القمر ، اى دمعة حزن لا ، موعود ، فدائى ، عاش اللى قال )، لعبدالحليم حافظ ، و( يارب توبة ، خلاص مسافر ، أخر ليلة ، يا حبيبتى يامصر ، خدنى معاك ، خطوة واحدة، عبرنا الهزيمة ) وكلها للمطربة شادية و( أنا مالى ، ليل يا ليالى ، خليك هنا ، والله زمان يا مصر ، قد العيون السود) لوردة ..
وكذلك كون ثنائيات مع شعراء آخرين مثل الأبنودى، ومعظمها من الفولكلور كما أسلفنا، وعبد الوهاب محمد الذى بدأ معه مبكرا فى أغانى (ما تحبنيش بالشكل ده ) لفايزة أحمد ، وشاركه مشوار نجاحه مع كوكب الشرق أم كلثوم مع أغانى : ( حب إيه – أنا وأنت ظلمنا الحب ) وكان مسك الختام لهما ولأم كلثوم أيضاً أغنية (حكم علينا الهوى ) وحسين السيد فى أغان خفيفة ورشيقة مثل: ( كل حب وأنت طيب – أمورتى الحلوة – طبيب الهوى – شمس الشموس ياصبوحة – دار يا دار وغيرها …) ومرسى جميل عزيز فى أروع اغانيه حيث كتب له ثلاثية أم كلثوم (سيرة الحب، وفات الميعاد، وألف ليلة وليلة ) وأغان (أعز الناس) للعندليب و(يانا يانا) للصبوحة وكذلك لحن: لسيد مرسى، ومحسن الخياط، والأمير خالد بن سعود، وإبراهيم موسى، وعصمت الحبروك، وإسماعيل الحبروك، ومنصور الشادى، ومانع سعيد العتيبة من الأمارات وغيرهم ..
ولم يقتصر بليغ حمدى فى ألحانه على التلحين فقط ، بل طرق مجالات أخرى مثل الموسيقى التصويرية للافلام والمسلسلات والأعمال المسرحية والتليفزيونية مثل أفلام: (العمر لحظة – أبناء الصمت – إحنا بتوع الاتوبيس – نحن لا نزرع الشوك – جفت الدوع – مولد يا دنيا – أبى فوق الشجرة – آه يا ليل يا زمن – حكايتى مع الزمان ) ، والمسلسلات مثل : (أوراق الورد- لعبة الفنجرى- بوابة الحلوانى) وهى آخر ما لحن من أعمال.
وبعد: عاد بليغ من الغربة فى أواخر الثمانينات، وجنح إلى الصمت واعتزال الناس، وتقلص عدد أصدقائه، وصار لا يهوى الظهور فى المنتديات أو الحفلات ، وبالتالى تقلصت أعماله… وفى بداية سبتمبر 1993م داهمه المرض وهاجمه مرة اخرى، فذهب إلى “باريس” لإجراء الفحوصات، وكله امل أن يعود عفياً، ولكنه عاد على لحن جنائزي، إذ رحل فى 12 سبتمبر 1993 وشيعه أحبابه وخلصائه إلى مثواه الأخير.
عن موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية
من تقديم مؤسس ورئيس تحرير جريدة رأي اليوم الإلكترونية
سياستنا في هذه الصحيفة“رأي اليوم”، ان نكون مستقلين في زمن الاستقطابات الصحافية والاعلامية الصاخب، واول عناوين هذا الاستقلال هو تقليص المصاريف والنفقات، والتمسك بالمهنية العالية، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بقدر الامكان، والانحياز الى القارئ فقط واملاءاته، فنحن في منطقة ملتهبة، تخرج من حرب لتقع في اخرى، في ظل خطف لثورات الامل في التغيير الديمقراطي من قبل ثورات مضادة اعادت عقارب الساعة الى الوراء للأسف.
اخترنا اسم الصحيفة الذي يركز على “الرأي” ليس “تقليلا” من اهمية الخبر، وانما تعزيز له، ففي ظل الاحداث المتسارعة، وتصاعد عمليات التضليل والخداع من قبل مؤسسات عربية وعالمية جبارة تجسد قوى وامبراطوريات اعلامية كبرى، تبرخ على ميزانيات بمليارات الدولارات، رأينا ان هذه المرحلة تتطلب تركيزا اكبر على الرأي المستقل والتحليل المتعمق، وتسمية الامور باسمائها دون خوف.