جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 07-03-2018
المدن - ثقافة
وجدي الكومي
هكذا تخيّلت جيوكوندا بيللي بلداً تحكمه النساء..
فإذا كان هنالك شيء تحتاج إليه هذه البلاد، فإنه الحاجة إلى من يهدهدها، من يدللها، من يعاملها معاملة طيبة، بحاجة إلى أم حانية.
تقع بسهولة في غرام هذه الرواية التي ينتمي إليها السطر السابق، "بلد النساء"(*) للكاتبة النيكارواغية جيوكوندا بيللي. ففي الوقت الذي تعشق فيه الحلم الذي تخططه جيدا بيلي عن بلد متخيل هو “فاجواس” تصل النساء فيه إلى السلطة، ويقررن إقصاء الرجال، وإزاحتهن عن مواضع صنع القرار، تجد أن أحد أسباب عشقك لهذا الحلم، هو تماسه مع واقع إحدى البلدان البعيدة كل البعد عن نيكاراغوا.
يستورد أحد “المولات الشهيرة” في مصر شحنة بطاريق لاستخدامها في ألعاب مائية وثلجية ترفيهية لزواره، في بلد تعاني فيها الحيوانات من التشرد في الشوارع بطولها وعرضها. يحرز الإبداع هدفاً حينما يكون عابراً، وصالحاً للقراءة في بلدان مختلفة، وبثقافات مغايرة. فبينما نقرأ في الأخبار واقعة البطاريق التي جاءت مصر، لإمتاع ثلة من الباحثين عن اللعب مع الكائنات الثلجية التي تنتمي إلى بيئة أخرى، نقرأ في رواية “بلد النساء” عن المذيعة “بيبانا سانسو” التي تبث تقريراً تلفزيونياً عن القاضي الفاسد، الذي استورد بطريقاً وحبسه في منزله، لإمتاع دائرة ضيقة من ضيوفه. وحينما تنشر المذيعة التقرير، لمحاربة الفساد في نخبة البلد المتخيل “فاجواس”، تزداد شعبيتها وتتلقى الكثير من شكاوى الفساد. الكثير من رسائلها الإلكترونية كانت شهادات حزينة ومؤلمة عن الجور والظلم، وطلبات مساعدة، وقصصاً عن الخذلان والقرف العاجز لمواطنين غير قادرين على رؤية أي ضوء في نهاية نفق هذه البلاد المنكوبة: إننا بحاجة إلى أناس مثلك في فاجواس، لماذا لا تترشحين للرئاسة؟
تستهل جيوكوندا بيللي الرواية بخطاب تلقيه “بيبانا سانسون” في الجماهير، ثم تتلقى رصاصة غادرة من رجل يتقدم صوبها بكل جرأة، قبل أن يستل سلاحه ويرديها، فتعجز الحراسة النسائية المصطفة أمام بيبانا عن إنقاذها. تدخل بيبانا في غيبوبة، وهنا تبني بيللي عملها على خطين متوازين من الحكي، خط يستعرض الأحداث التي تقع في البلاد بعد محاولة الاغتيال، وخط ترويه الرئيسة المغتالة بيبانا نفسها خلال غيبوبتها الطويلة التي تمتد بطول الرواية، وتسترجع فيه ما قبل ترشحها للرئاسة، وتأسيسها حزب اليسار الإيروتيكي. تبني جيوكوندا بيللي فرضيتها على ثورة بركان “ميتري” الخامد منذ قرون، وحارس المدينة، وكان مصدر أساطير في فاجواس، لكن “ميتري” هذا المساء تخلى عن وداعته، فامتلأ بعروق حُمر، ونفث من فوهته سحابة كثيفة وقاتمة، تتخللها هنا وهناك خطوط نار نحيلة. فغرقت البلاد في سواد ورماد الحمم البركانية. ورغم أن غازات البركان لم تقتل أحداً، إلا أنها ألزمت الناس بيوتهم، وتلطخت وجوه أهل فاجواس بالسواد، وغطاهم الرماد والغبار، وجعلهم أشبه بالزومبي. إنها نهاية العالم على نحو ما.
تعيد بيللي خلق العالم بعد قيامته، لكن هذه المرة على أيدي النساء، إذ يصاب الرجال في فاجواس بالخمول والنعاس. تكتشف بيبانا ورفيقات حزبها أن مؤشر هرمون التستوسترون الذي يجب أن يكون لدى الرجال بين 350 و1240 نانو غرام، لم يسجل سوى نسبة 50 أو 60 نانوغرام فقط، في عينات أخذت من رجال من كافة الأعمار. إنها فرصة النساء. تقفز إحدى رفيقات بيبانا فرحاً وتقول: سوف أؤمن بالله.. سوف أؤمن بالله.
بخمول الرجال وانسحابهم في دوامة نعاسهم، يتصدر حزب اليسار الإيروتيكي صدارة استطلاعات الرأي. تُنتخب بيبانا رئيسة للجمهورية، بعد وضع برنامج يستهدف إصلاحات ديموقراطية، ومناقشة وإقرار قوانين لتغيير البلاد. تثير بيللي في الرواية، قضية النسويات، على لسان إحدى رفيقات “بيبانا” وتدعى “إيفا”، فتقول: سينتهي الأمر بالداعيات النسويات إلى القول لنا إننا نريد أن نرسخ ونؤيد كل ما يجري التفكير فيه عن النساء. ترد بيبانا: الأمر يعتمد على تحديد أي نسويات هن، فالحركة النسوية شديدة التنوع، والمشكلة في نظري ليست في ما يفكرون به عن النساء، وإنما في تقبّلنا نحن أنفسنا التفكير به عن أنفسنا بالذات، لقد تقبّلنا إدانة أنفسنا كوننا نساء، وسمحنا بأن يقنعونا بأن الضعف هو أفضل خصالنا.
تقود بيبانا ثورة تشريعات، تنطلق من مبادئ السلوك النسوي. تضع الرئيسة مبدأ أن العناية بالحياة، بالبيت، بالعواطف، والانفعالات، وبهذا الكوكب التابع الذي ندمره، هو ما يجب علينا جميعاً القيام به، إنه العمل على تحويل الرعاية التي نحن متخصصات بها إلى مهمة اجتماعية، وأن نتقدم باعتبارنا الخبيرات، والأكثر أهلية للقيام بذلك.
جيوكوندا بيللي، صاحبة رواية “الكون في راحة اليد” التي دارت حبكتها الرئيسية عن آدم وحواء وخروجهما من الجنة، تصنع عالماً فانتازياً في “بلد النساء”، تردّ فيه الاعتبار إلى النسوة اللواتي عوملن بازدراء، أو تعرضن لوقائع اعتداء جنسي وحشية، إذ يقرر حزب اليسار الإيروتيكي عقوبات للمتحرشين والمغتصبين، تتمثل في وضعهم في أقفاص، واستعراضهم في الشوارع والميادين، لوصمهم، كما توصم ضحاياهم من النساء بعد وقائع الاغتصاب المريرة. كما تفتح بيللي، الباب، على فكرة إزاحة الرجال تماماً من الوظائف العامة، وجعلهم يلعبون أدوار زوجاتهم، سواء بإرضاع الأطفال، أو الطبخ والكنس وتنظيف المنازل. وتستعرض بيللي كل احتمالات هذه القرارات الثورية، فتفتح نقاشاً بين عضوات شابات في الحزب، وناشطات كبيرات في السن في المجال النسوي، كذلك تستعرض احتمالات أن تلقى هذه القرارات رفض بعض النساء في “فاجواس” ممن لا يرضين بهذه المهانة لأزواجهن، وهذه هي قمة المتعة الروائية. فأنت حينما تؤسس عالماً روائياً، تمرح فيه وفقاً للمعطيات الجديدة التي يتطلبها هذا العالم، تمرح وتذهب بعيداً، وتناقش كل الأفكار التي يستتبعها مرحك. فمن بين ما طرحته جيوكوندا بيللي في روايتها هذه من أفكار ثورية، هو تفكيك أسلحة الجيش، والتخلص منها، لتعويض فقر الميزانية الناتج عن منح الرجال رواتب ستة تعويضاً عن إجازاتهم الإجبارية. ومن ذلك المرح الروائي الذي تمارسه بيللي هنا، ما ذهبت فيه من أفكار دعائية محرضة للنساء والرجال معاً، للانضمام إلى حزب اليسار الإيروتيكي، ومنها وضع لافتة خلف أبواب الحمّام كُتب فيها: “الشيء الوحيد الذي يُحسن الرجال صنعه وقوفاً، هو التبول، قومي بالخطوة الأولى، انضمي إلى حزب اليسار الإيروتيكي”. وعلى علب الفوط النسائية، عبارة أخرى تقول: “الرجال ينزفون في الحروب، نحن ننزف كل شهر من أجل الحياة، قومي بالخطوة الأولى، انضمي إلى حزب اليسار الإيروتيكي”. كما وُضعت عبارة على حفاضات الأطفال تقول: “البلاد ملطخة ببرازها أكثر من ابنك، قومي بالخطوة الأولى، انضمي إلى حزب اليسار الإيروتيكي”... مرح روائي لا ينتهي، حتى بعد أن تنتهي الرواية.
(*) صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، بترجمة صالح علماني.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.