«الموريسكي الأخير» ... أسئلة الرواية والتاريخ
السبت، ١٣ فبراير/ شباط ٢٠١٦
جريدة الحياة
منير عتيبة
غاص الكاتب المصري صبحي موسى في حنايا التاريخ بعيداً وعاد حاملاً حكاية موجعة عن معاناة بعض المسلمين الذين تصادف أن قرأت في وقت متقارب رواية «البشرات» لإبراهيم أحمد عيسى، ورواية «الموريسكي الأخير» لصبحي موسى، والروايتان تتناولان - كلٌ بطريقتها - ثورة الموريسكيين في البشرات لاستعادة الأندلس، تلك الثورة التي كانت آخر المحاولات الكبرى، والتي باءت بالفشل. وذلك أثار لديّ عدداً من الأسئلة حول أسباب لجوء الرواية إلى التاريخ، واختيار الروائي فترة زمنية معينة للكتابة عنها، وطريقة تناول هذا التاريخ. ففي فترة من الفترات كانت الأندلس بالنسبة إلى الرواية هي الفردوس المفقود، وهي المعادل الموضوعي والرمزي لفلسطين الضائعة والتي تجب استعادتها. لكنها الآن رمز للثورة التي تبدأ بآمال عريضة وتنتهي إلى موات. فليس من العبث أن يتناول كاتبان من جيلين مختلفين ثورة البشرات بعد أحداث ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، والتي كانت في رواية «الموريسكي الأخير» لصبحي موسى والتي وصلت أخيراً إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد في فرع الآداب، هي الخط الروائي الموازي لثورة البشرات أو هي ثورة البشرات في مصر في شكل أو آخر.
عندما يصبح الحاضر أكثر غموضاً وضبابية يلجأ الكاتب إلى التاريخ ليجد أرضاً صلبة يقف عليها ليفهم حاضره، لكن صبحي موسى وقف بقدم في الماضي وأخرى في الحاضر ليصل كل منهما بالآخر، إذ إن الماضي ليس فقط معادلاً رمزياً للحاضر، بل هو لم يزل يؤثر فيه إن لم يكن في شكل مباشر؛ ففي شكل غير مباشر من خلال طرائق التفكير والتعاطي مع القضايا التي لم يتغير الكثير منها.
تبدو رواية «الموريسكي الأخير»؛ الصادرة حديثاً عن الدار (المصرية اللبنانية في القاهرة)، وكأنها تسير في خطين سرديين متوازيين، ثورة البشرات وأحداثها التي يرويها محمد بن عبدالله بن جهور، وثورة 25 كانون الثاني (يناير) التي يرويها الراوي العليم من خلال تأثيرها في بطل الرواية؛ آخر الموريسكيين وعميدهم مراد. لكن قراءة متعمقة للقصص الكبرى والقصص الفرعية في الرواية تضعنا أمام خيط سردي واحد قدمه الكاتب على جرعات بأكثر من راوٍ من دون التزام بتسلسل زمني واحد، ما جعل القارئ مشاركاً في إعادة ترتيب أحداث الرواية زمنياً ليتتبعها منذ ثورة البشرات حتى ثورة يناير. يحدث ذلك من خلال أسرة عبدالله بن جهور؛ حفيد الأمراء والوزراء والعقل المدبر لثورة البشرات حتى حفيده المشارك في ثورة 25 يناير.
تطغى أحداث التاريخ على ما يخص الفترة التاريخية من ثورة البشرات التي كان مآلها الفشل بسبب الخيانة في المقام الأول والصراعات السياسية في العالم الإسلامي في المقام الثاني، لكن مساحة التخييل الروائي تزيد في الجزء الذي يحكي أحداثاً عصرية من الرواية، وقد ابتكر الكاتب شخصية مدهشة سماها «العين الراعية» تظهر للموريسكيين عند الخطر لتساعدهم، وتعاقبهم عندما يخطئون. وهذه الشخصية هي عبدالله بن جهور نفسه بعد استشهاده، حيث ظهر لابنه محمد ولابن أخيه فرناندو، ولحفيده مراد، كما ظهر للكثير من شخصيات الرواية في عصور مختلفة. وهذه الشخصية إضافة إلى القطط التي استخدمها الكاتب كرمز للموريسكيين الذين غادروا بيتهم وتركوا أرواحهم في صورة قطط، مستفيداً من كل ما يحيط بالقطط من أساطير شعبية، أعطت الرواية بعداً نفسياً وميتافيزيقياً عمّقها وارتقت بها من مجرد سرد لأحداث تاريخية وأحداث عصرية إلى سرد للطبيعة الإنسانية في كل زمان ومكان.
في حكاياته الفرعية، يتناول صبحي موسى عدداً من الثورات الأخرى التي باءت بفشل أيضاً، وكأنه يريد أن يحشد كل المرايا التاريخية الممكنة لرؤية مقدمات وأحداث ونهايات ثورة 25 يناير حتى يتم إعادة النظر فيها من جديد في ضوء شبيهاتها التي تدخلت الكثير من المصالح فيها لتشوهها وتقضي عليها، في لحظات تاريخية كان كثير من الرجال أقل قيمة وقامة من لحظتهم تلك فأضاعوها.
وقد استخدم الكاتب ضمائر السرد بحساسية كبيرة لتمنح الرواية أبعاداً فنية وموضوعية إضاقية، فاستخدم ضمير الغائب ليحكي حكاية مراد الآنية، لكنه استخدم ضمير المتكلم ليحكي محمد بن جهور حكايته. وكأن الكاتب يشير بذلك إلى إن الثورة القديمة عرفت نفسها ووجدت هويتها وبالتالي كان لها أن تعبر بنفسها عن نفسها بصرف النظر عما آلت إليه من نتائج حتّمها الظرف التاريخي وموازين القوى. أما مراد فهو لم يزل يبحث عن هوية مفتقدة لا يعرف كل ملامحها وسط ثورة تبحث هي أيضاً عن هويتها التي تتعرض لضربات من جهات شتى، وبالتالي فهو لا يستطيع أن يتحدث عن نفسه ويترك السارد العليم ليحكي عنه.
ستشعر مثلي بالإحباط وأنت تغلق آخر صفحات رواية «الموريسكي الأخير»، لأنك ستودع شخصيات حقيقية حيّة ارتبطت بها لأيامٍ تستوعب قروناً عدة، لكنك لن تتخلص من تأثير هذه الشخصيات ووجودها الحي في حياتك، والأهم أنك لن تتخلص من الأفكار التي تبثها فيك حكاياتهم لتعيد النظر من جديد في حكايتك الخاصة وبالذات في ارتباطها بحكاية الوطن الكبيرة.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.
’الموريسكي الأخير’ رواية الذين نجوا رغم زوال البلاد
جريدة العرب
نُشر في 18-09-2015، العدد: 10042، ص(14)
الصفحة : ثقافة
ياسمين مجدي
البداية الشعرية لكاتب مثل صبحي موسى ستصنفه كشاعر لفترة طويلة، لكن بالوصول إلى روايات مثل “رجل الثلاثاء” وأخيرا رواية “الموريسكي الأخير”، الصادرة حديثا عن “الدار المصرية اللبنانية” سيبدو كأنه وضع نقطة ليؤسس لسطر جديد في مسار روائي مصري يقتنص مراحل هامة من التاريخ وشائكة بقدر كاف.
ما الذي يختلف في رواية “ثلاثية غرناطة” لرضوى عاشور عما قدمه صبحي موسى في روايته “الموريسكي الأخير”. ربما المرأة تكتب بمشاعرها والرجل يكتب بعقله. ورغم عدم انطباق هذه الجملة تماما، لأننا أمام مفكرة مثل رضوى عاشور تستعمل الوقائع والحقائق.
وأيضا نتحدث عن شاعر منطقه هو العاطفة، إلا أنه بقدر ما يكتب موسى من منطلق الأحداث التاريخية بصياغة عقلية للنص الأندلسي أكثر من الجانب الخيالي، أو المسار الإنساني للشخصيات، ربما تكون رضوى عاشور قد لعبت على مساحة الوقائع التاريخية أيضا لكنها عولت على مشاعرها كامرأة لبعض اللقطات الإنسانية، والنسج الحساس كالحوار الشخصي مثلا لابنة الشيخ التي اتهموها زورا بأنها تضاجع ثورا.
وقد تدارك موسى ذلك وركز على الجوانب الإنسانية في الجزء الثاني من العمل، بالإضافة إلى ذلك يركز موسى على فترة معينة وهي ثورة الأندلسيين أو الموريسكيين لمحاولتهم استعادة الأندلس، ويمزج ذلك بقيام الثورة الأخيرة في مصر.
بركان الأندلس
تمثل رواية “الموريسكي الأخير” قفزة في الصياغة الروائية بالنسبة إلى مؤلفها، بالإضافة إلى تخلصه من الغموض الذي كان يشوب أعماله الروائية السابقة. يقدم فكرة كبرى لمعاناة الذين أرادوا الاحتفاظ بأرضهم ودينهم وانتمائهم. والرواية كلها هي محاولة لاستعادة الأندلس. ربما يطمح القارئ إلى أن يستعيد الأندلس ولو ورقيا في خاتمة الرواية. يحمل النص بالتالي معلومات تاريخية وتفاصيل بذل الكاتب مجهوده الواضح في تضفيرها بسياق الرواية عن التاريخ السياسي وتطور الثورة والمعارك على أرض الأندلس.
“كان يعلم أنه يقود أمة تسير على فوهة بركان سينفجر في أي لحظة”. فالرواية تبحث في غمار المحاولة الدائمة للحفاظ على الذات رغم كل ما يطرأ من أحداث ومحاكم تفتيش. والنجاة بالذات حين يسقط الحكام والنظم تبدو نجاة جزئية محكومة بمصالح يدفع ثمنها الناس. ومع ذلك يمكننا احتساب الانتصار لصالح الذين يموتون بالآلاف في المعركة المحسومة بقوة وأسلحة ملوك أوروبا، فنجد أمير الثوار ابن عبو وهو مهزوم ومحاصر ويرفض الاستسلام، يقول “الموت أشرف من الحياة بلا دين ولا أهل ولا وطن، الموت أشرف من كأس الذل التي يريدوننا أن نتجرعها حتى النهاية”.
ما الطقوس التي يمكن لكاتب أن يكتب فيها هذا العمل، ليعبر بشكل تفصيلي عن الوجع الذي يتعرض له أبطاله، فيكتب صبحي موسى كما لو أنه هو الذي ضرب بحديدة “كان الحارس قد نزل بهراوته إلى كتفي، شعرت أن كرة الحديد اخترقت ملابسي ولحمي وهشمت عظامي، فلم أستطع أن أفتح فمي، وكلما فتحته اشتدت علي أضلعي، فصرت أبكي غير قادر على إخراج صوت للبكاء. أئن في صمت وأمشي في صمت، وروحي تنسحب مني في صمت أكبر”.
يمتزج الخيال مع الواقع وتلعب الفانتازيا دورها في المحور الثاني من رواية “الموريسكي الأخير” وهو محور الحدوتة المعاصرة التي يشبهها المؤلف بما حدث في الأندلس من ثورة، بطرحه للثورة المصرية وتداعيتها. تكون الفانتازيا شريكا أساسيا للحفيد الموريسكي الأخير الذي يقيم في مصر في تلك الأجواء، جدته والخادمة والقطط التي تحمل أرواح الراحلين، العـلاقات المثيرة للدهشة كعلاقته بطبيب جدته وبرجل الأمن، واختفاء هذه الشخصيات وظهورها في إطار من التشكك في وجودها أصلا، بالإضافة إلى تركيبة الحدوتة التي تقوم على أسطورة العائلة الموريسكية التي تحفظ ميراثها وتورثه لبعضها البعض.
لا تخلو الرواية من بعض التأثر، فتبدو فكرة العين الراعية التي تحمي هذه العائلة الموريسكية كأنها لقطة أجنبية. كما أن الرواية لا تأتي بعلاقة جديدة بين راشيل ابنة عم البطل التي يكتشف وجودها، ويراسلها، وفي تطور معتاد ومكرر يؤهلنا الكاتب إلى توقع أن راشيل ستخونه، بكلامه عن عملها لدى وكالة إخبارية تفتتح مكتبا في مصر وتختار البطل مراد أن يكون مراسلها. وهي فكرة وعلاقة تقليديتان، ربما احتجنا من الكاتب أن يستثمرهما بشكل أكثر إدهاشا.
في المقابل يفاجئنا صبحي موسى بتحول عجيب وغير منطقي أجراه على شخصية رجل الأمن، فبعد أن كان مزروعا ليكشف عن أسرار مراد والموريسكيين الباقين في مصر يتحول إلى صديق يرثو معه ما حدث للثورة المصرية.
طرق للنجاة
يمكننا أن نقابل نهايتين في هذه الرواية التي تقوم على محورين. ففي حدوتة ثورة الموريسكيين في الأندلس لحماية هويتهم، يحاول البطل ممارسة الادعاء بأنه من أنصار الكنيسة وفي الباطن يحمي كل الموريسكيين الآخرين، لكنه يعلن عن نفسه في النهاية، عما بداخله ويقرأ القرآن في الطريق أمام البيت، ويبدو منتصرا، رغم فشل الثورة وضياع الأندلس وموت عائلته وترحيله هو شخصيا من المدينة، لكنه كان يخوض بداية جديدة في أرض جديدة محتفظا بذاته.
النهاية الثانية لا تبدو أنها على قدم المساواة مع النهاية الجميلة السابقة، لأنها قائمة على مقارنة لا تبدو متوافقة، يبدي من خلالها صبحي موسى أن الثورة المصرية هي الأخرى في 25 يناير لم تحقق نجاحها بعد أول انتخابات لها. يمكن للكاتب أن يجد تشابهات بين الحالتين التاريخيتين، لكن يمكن القول أيضا إنه يقارن بين أمة ضاعت إلى الأبد وبين بلد يثور ويتعثر ولايزال أمامه أن يقتنص الأمل، كما أفاق مراد في نهاية الرواية وقد تسلم عمادة أسرته الموريسكية وأصبح مسؤولا عنها، واختار الذهاب إلى مؤتمر الموريسكيين للبحث عن حقوقهم.
يبقى تساؤل عن فكرة وجود موريسكي حالي أصلا بعد كل تلك السنوات التي اندمج فيها سكان الأندلس واختلط المهاجرون بأبناء البلاد الأخرى. لتبقى من كل حواديت التاريخ البعيد أساطير كبرى عن الذين احتفظوا بأنفسهم داخل قلوبهم.
العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977
صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة
يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر
صبحي موسى ينبش في تاريخ مصر المنسي
الإثنين، ٢٢ يونيو/ حزيران ٢٠١٥
جريدة الحياة
عمار علي حسن
غاص الكاتب المصري صبحي موسى في حنايا التاريخ بعيداً وعاد حاملاً حكاية موجعة عن معاناة بعض المسلمين الذين بقوا في الأندلس بعد سقوط غرناطة، آخر إماراتهم هناك (1492م)، حين اضطروا إلى التظاهر باعتناق المسيحية خوفاً على أنفسهم، لينسج من تفاصيلها المعروفة وما جاد به خياله، خيوط روايته «الموريسكي الأخير» (الدار المصرية اللبنانية).
ربما أدرك الكاتب الوظائف التي تنهض بها «الرواية التاريخية»، وهي مسألة ظاهرة لديه، وأولها ردم الحفر الهائلة التي تركها المؤرخون بفوقيتهم وتحيزهم ولهاثهم وراء يوميات السلاطين والملوك والأمراء والوجهاء وقادة الجيوش، ليبقى الأدب كما قال عبد الرحمن منيف «تاريخ من لا تاريخ لهم». وثانيها استعادة التاريخ لاتخاذه عملاً رمزياً يتمّ إسقاطه على الواقع المعاصر، مثل رواية «الزيني بركات» لجمال الغيطاني و»السائرون نياماً» لسعد مكاوي. وثالثها إعادة صياغة التاريخ بوقائعه وشخوصه وغموضه لصناعة «واقعية سحرية» ذات سمت خاص. ورابعها اختلاق تاريخ مواز للتاريخ الحقيقي، مثلما فعل نجيب محفوظ في «ملحمة الحرافيش»، وخامسها استعادة التاريخ كشريك للحاضر، يتفاعل معه ويتشاكل ويتلاقح بلا قيود أو سدود، مثلما فعلت الكاتبة التركية أليف شافاق في روايتها «قواعد العشق الأربعون». وسادسها الكتابة عن شخصية تاريخية معروفة مثلما فعل المغربي بنسالم حميش في روايته «العلامة» عن ابن خلدون، وأبو المعاطي أبو النجا في روايته «العودة إلى المنفى» عن عبد الله النديم.
أما «الموريسكي الأخير» فرواية تدور حول تاريخ معروف، وواقعة كبرى، وتحاول أن تفضح المسكوت عنه، وتدفع المنسي إلى سطح الذاكرة. وفي الوقت ذاته، هي رواية عن شكاية أو مظلمة، طالما مثلت عند أمم شتى مصدراً لأعمال سردية، أو دفع انحياز أدباء لها بهم إلى معارك مشهودة، مثلما حدث مع التركي أورهان باموك في تعاطفه مع مذبحة الأرمن، أو تعاطف بعض الأدباء في أوروبا وأميركا اللاتينية مع القضية الفلسطينية، ودخولهم في مجادلات ومساجلات نتيجة هذا. من هنا يمكن اعتبار الرواية التي نحن في صددها كأنها إضاءة على ضرورة اعتذار إسبانيا للموريسكيين المسلمين ومنحهم جنسية قد ترّد لهم حقوق المواطنة على غرار ما فعلت إسبانيا مع الموريسكيين اليهود.
لكنّ صاحب «الموريسكي الأخير» لم يقصد أن يعرض لقرّائه حدثاً تاريخياً جافاً أو يعبر عن تعاطفه مع قوم ظلموا متوسلاً بفن الرواية، إنما هو وقع على حكاية أثيرة منسية، فراق له أن يمنحها من قريحته الأدبية حياة جديدة، ويجذب ماضيها ليمشي بيننا، من خلال بطل الرواية، مراد رفيق حبيب، الذي يعيش في مصر، وشارك في ثورة 25 يناير ضد نظام مبارك.
ومُثلت مشاركته في المشهد الأول للرواية، لنتابع على امتداد صفحاتها، توازياً بين أزمنة ثلاثة: ماضي الموريسكيين في الأندلس حين تظاهروا بترك الإسلام حتى تمّ تهجيرهم نهائياً ما بين 1609 إلى 1613. وفي شمال المغرب حين كان يُعيَّر من هرب بإسلامه من محاكم التفتيش بأنه لم يعد مسلماً، ثم تواجدهم في مصر خلال التاريخ الحديث حين جاء الجد الأكبر «عطية الله» وحصل على جفالك من محمد علي باشا، ليبدأ رحلة تمكين نسله في مصر، وهنا تقول الرواية عنه: «كان قد تقدَّم بطلب للحصول على نسخة معتمدة من حجة الوقف الخاص بالعائلة ورواق المغاربة، حين كتبها جده عطية عام 1805 لم يكن يعلم أن محمد علي سيقضي على مهنة الملتزم، لكنه سعى الى تأمين أسرته التي امتدت إلى فروع عدة». وأخيراً، حاضر الحفيد، وابنة عمه ناريمان، وهو الذي يعيش حريصاً على نفسه بوصفه آخر نسل الموريسكيين في أرض النيل، ويسعى إلى استرداد وقف العائلة الذي خصصه جدّه الملتزم لعائلة الموريسكي ورواق المغاربة في الجامع الأزهر، ويرى في كل الأحوال أن «العالم أضيق من ثقب إبرة».
توازي الرواية أيضاً بين ثورتين، الأولى فشلت وهي ثورة «البشرات» التي قام بها بقايا المسلمين في الأندلس بقيادة محمد بن عبد الله بن جهور رفضاً للاضطهاد، بعد انتفاضة البيازين عام 1495، والثانية تعثرت وهي ثورة يناير في مصر، وهنا لم تخل الرواية من إسقاط الثورة الأولى ضمناً على الثانية. لتقول إن رومانسية الثوار وغدر السلطة قتلتا أحلام الناس وأشواقهم في العدل والحرية.
تعدّ «الموريسكي الأخير» رواية هوية، بحيث تجسّد تدابير وأفكاراً وصوراً عديدة للتمسك بالهوية عند مجموعة بشرية تفرقت بين أفرادها السبل وتباعد الزمن. ومن هذه التدابير، ذلك التواصل، أو هذا الخيط الممتد في القرون، الذي تمنحه الرواية لهذه المجموعة بدءاً من مشاركة آخر نسلها بمصر في لحظة مطالبة بالتغيير، وانتهاءً بالجذر الأول للمأساة حين سقطت غرناطة. وهناك أيضاً خلق الأسطورة، وهي مسألة متكررة عند الأقليات المضطهدة عبر التاريخ، إذ تتداول أساطير تمجدها وتحفظ قوامها وتقوي من ولاء أبنائها لها، وتعظم ما فعله الأجداد في نظر الأحفاد.
في الرواية توجد ما تسمى «العين الراعية» التي تحفظ الموريسكيين أينما حلوا، ويؤمنون هم بأنها تتابعهم وتدافع عنهم. ويوجد أيضاً «حلم العودة» الذي لم يتخلّ عنه أبطال الرواية رغم تفرقهم في البلاد. ويتم توظيف التفاصيل التي بقيت في الذاكرة لمأساتهم في ربط من لم يعشها بزمانها ومكانها. وأخيراً، تحفل الرواية بذكر رموز وقادة وشخصيات حقيقية، كمساهمة عبر الحكاية، في الحفاظ على تاريخ يُراد لأصحابه أن ينسوه تماماً، ولا يقل دور الشخصيات المختلقة أو أبطال الرواية في الحفاظ على الهوية عن الأبطال التاريخيين. وكل منهم يسلم «عميد العائلة»، أياً كان، مفتاح الحكاية والحلم ويعيّنه حارساً على الذاكرة.
وهنا تقول الرواية واصفة لحظة تشييع مراد لجدته التي كانت «عميدة الموريسكيين» في مصر: «حين فكر في الصعود خلفها وجد الباب مغلقاً أمامه، فألقى بتحية السلام واستدار للنزول، سمع أصداء صوتها من خلفه تقول: (ولك مني السلام)، حينها أخذت أقدامه تتحسَّس الدرجات وروحه تحلِّق في البعيد، شاعراً أنه نصفان، أحدهما يمشي على الأرض والآخر يطير في السماء، رأى النجوم مبعثرة في الفضاء، والموريسكيين يسعون خلفها على الأرض».
لكنّ إبراز الهوية لا يمنع من أن تكون «الموريسكي الأخير» رواية متاهة وضياع كامل، فبطلها مراد تعرض للخديعة من دون أن يعرف من الذي خدعه. رجل الأمن الذي أوهمه بأنه أستاذ وحكى له كثيراً عن مأساة الموريسكيين؟ أم ابنة عمَّته التي سافرت طويلاً وعادت باسم آخر «راشيل» تستخدمه في جمع معلومات لموضوعاتها الصحافية؟ ويمتدّ الضياع إلى أبطال الرواية القدامى ممن خدعهم الإسبان حين عرضوا عليهم أن ينهوا ثورتهم مقابل حفاظ حقوقهم، فلما فعلوا ذلك تمّ الفتك بهم، وتشردوا في الأرض، لتأتي هذه الرواية وتزيح بعض الركام عن حكايتهم الموجعة.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.