الحلقة الأولى
الأحد 3 سبتمبر 2017
إيلاف - أول يومية إليكترونية صدرت من لندن عام 2001
أحمد طه من القاهرة
حبه للفن انتصر على تقاليد العائلة
زكي رستم : الباشا الرياضي الذي عشق التمثيل
“إيلاف” من القاهرة: من القاهرة: تُلقي “إيلاف” الضوء على سيرة حياة الفنان زكي رستم بإعادة نشر ما تضمنه الكتاب الذي صدر عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي قبل سنوات. وهو أحد ألمع نجوم المسرح والسينما وأحد الفنانين الكبار الذين تصدّروا الأنشطة التمثيلية وخاصة السينما على مدار أربعين عاماً منذ عشرينيات القرن الماضي حتى منتصف الستينيات، ونال عن جدارة شهرة كبيرة بقوة أدائه وخصوبة موهبته وسطوة شخصيته الفنية وقدرته الفائقة على امتلاك زمام الموقف دون مبالغة أو إفتعال.
نشأته
ولد زكي رستم واسمه الكامل زكي محرم محمود رستم في 25/3/1903. كان أبوه محرم بك رستم من أعيان الريف ومن كبار المزارعين بمحافظة المنوفية وعضواً بارزاً بالحزب الوطني.
ولقد نشأ في قصر جده اللواء محمود باشا رستم الذي كان من قادة الجيش المصري بحي الحلمية الجديدة بالقاهرة والذي كانت تقطنه الطبقة الراقية في أوائل القرن العشرين. وانتظم في صغره بالتعليم الأولي وواصل بنجاح حتى نال شهادة البكالوريا الثانوية العامة في العام1924
عشق التمثيل منذ صغره. فقد حفرت مشاهدته لمسرحيات جورج أبيض صورة لا تمحى من مخيلته. إذ أنه أُعجِبَ بشخصية هذا الممثل العظيم الذي نال تقدير وإعجاب الشباب المثقف بسبب شخصيته المهيبة وحضوره الطاغي علي المنصة منذ عودته من بعثته من فرنسا واحترافه التمثيل في العام 1912. إضاقة إلى كونه مشجعاً للهواة، وضم إلى فرقته لفيفاً من الشباب المتعلم في مبادرة كانت آنذاك غير مسبوقة في تاريخ المسرح.
بطل رياضي
وكانت هوايته الرئيسية “حمل الأثقال”، الذي أصبح من خلالها رياضياً من الطراز الأول. فقد بدأ يمارسها منذ صغره حتى أصبح من أبطالها المهمين في مصر وفاز في العام 1922 بالبطولة الثانية. فأتاح له تفوقه في هذا المجال الفرصة لإبراز موهبته التمثيلية التي لم يعلن عنها حتى ذلك الوقت. حيث أنه في إحدى الحفلات التمثيلية بالمدرسة الخديوية الثانوية بالقاهرة كات الحاجة ماسة إلى طالب رياضي يجيد التمثيل. فأسند مدرب الفريق هذا الدور إلى الطالب زكي رستم الذي قام بأدائه علي أحسن وجه.
خيار صعب
وعقب حصوله على شهادة البكالوريا، حانت لحظة الاختيار، وهي لحظة حاسمة في حياة أي إنسان في مثل ظروفه. اذ يتوقف عليها مستقبله ومصيره، كشاب طموح معتد بذاته وبكرامته مثل زكي رستم الذي عبر مراحل الدراسة المتعاقبة بنجاح، وكان من المتوقع أن يواصل تعليمه العالي شأن الكثيرين من أبناء الطبقة الراقية الطامحين لتولي مناصب حكومية هامة أو الإهتمام فيما بعد بالأعمال الحرة. ولقد كان بوسعه الإلتحاق بالمدرسة الحربية ليتخرّج ضابطاً في الجيش مثل جده أو يلتحق بكلية الحقوق ليعمل بالمحاماة اويلتحق بالنيابة العامة بعد تخرجه أو ينخرط في العمل السياسي ولاسيما وأن والده كان من المقربين لزعيمي الحزب الوطني مصطفى كامل ومحمد فريد، لكن هواية التمثيل وعشق المسرح كانا أقوى من أي طموح آخر ربما راوده على عتبة المرحلة الجامعية. والملفت أن حبه للفن تخطى تقاليد الأسرة العريقة والتي تنتمي في مجملها لميراث الطبقة الأرستقراطية والتي لا تسمح أبداً لأي من أبنائها أن يتخذ من التمثيل حرفة أو حتى هواية.
فرقة الهواة
بدأ رحلته مع المسرح في العام 1924 بفرقة جورج أبيض بعد فترة قصيرة أمضاها بإحدى فرق الهواة، واستطاع أن يشق طريقه بنجاح منذ عامه الأول حتى أصبح من الممثلين المتميزين رغم صغر سنه. وانتقل إلى فرقة رمسيس ثم فرقة فاطمة رشدي فاتحاد الفنانين واستقر به المقام بالفرقة القومية المصرية عام 1935.
جورج أبيض
لم يسعَ هذا الممثل في شبابه لاحتراف التمثيل في مطلع حياته الفنية، لكنه لفت الأنظار إليه بموهبته الواعدة. فذات ليلة في العام 1924 شاهده الفنان عبدالوارث عسر في حفل لفريق من الهواة المعروفة وما أن رأه الرائد المسرحي الكبير جورج أبيض في إحدى حفلاتها حتى عرض عليه الإنضمام لفرقته التي كانت واحدة من أكبر الفرق في ذلك الوقت والتي كانت تضم طائفة من الفنانين المعروفين وعلى رأسهم جورج أبيض وزوجته دولت أبيض وسليمان نجيب وبشارة واكيم ومحمد عبد القدوس وحسين رياض وعبد الفتاح القصري وفردوس حسن وماري كافوري وغيرهم. وفي الموسم المسرحي 24- 1925 قدمت فرقة الأبيض العديد من المسرحيات المؤلفة والترجمة التي اشترك “رستم” في تمثيل معظمها.
رمسيس
إلا أن عضويته بفرقة “أبيض” لم تطل. فقد انضم في العام 1925 لفرقة رمسيس وهي فرقة يوسف وهبي التي دوت شهرتها وحققت نجاحاً طيباً بفضل ما قدمته من عروضٍ حافلة بالمليودراما والفواجع الإجتماعية والتاريخية التي كانت تستهوي ذوق الجمهور وتثير مكامن الحزن والشجن وتستدر دموعهم على ضحايا الظلم والقهر.
وفي هذه الفرقة شق زكي رستم طريقه بنجاح، وأكد حضوره وجدارته إلى جانب نجومها أمثال يوسف وهبي وعزيز عيد وفاطمة رشدي وأمنية رزق وفردوس حسن وعلوية جميل وغيرهم.
ومن الأعمال العديدة التي شارك في تمثيلها بفرقة رمسيس “كرسي الاعتراف”، “الوطن”، “راسبوتين”، “المائدة الخضراء”، وغيرها، والطريف حقا أن “وهبي” ظل يعامله كممثل هاوي يتقاضي عن عمله بالفرقة أجراً أو يمنحه جنيهات قليلة رفض الفنان الشاب تسلمها بكبرياء وظل يعمل بلا مقابل حتى العام 1928 عندما قرر له صاحب فرقة رمسيس راتباً مناسباً.
فاطمة رشدي
وانفصل عن هذه الفرقة في العام 1930. وكان قد اعتكف لعدة اسابيع في بداية موسم الشتاء من العام 1929 حزناً على وفاة شقيقته. ثم انضم الفنان إلى فرقة فاطمة رشدي حيث اتيحت له فرص أفضل لأداء أدوار البطولة امام فاطمة رشدي بطلة الفرقة وصاحبتها، والتي كانت تعتبر المنافس الاول لفرقة رمسيس يوسف وهبي التي كانت لا تزال تقف في مقدمة الفرق المسرحية في ذلك الوقت. حيث أن الفرقتين تميّزتا بتقديم أعمال جادة ومحترمة حظيت بتقدير الجمهور بفضل قيادة عزيز عيد الفنية للاولى وشعبية النجمة فاطمة التي أطلقت عليها الصحافة لقب صديقة الطلبة لتقديمها حفلات مخفضة الأسعار للطلبة. فضلاً عن لقب سارة برنار الشرق اعترافاً ببراعتها في الأداء وتفوقها كواحدة من ألمع فنانات المسرح المصري.
إتحاد الممثلين
ولقد أمضى “رستم” موسم 30- 1931 بفرقة فاطمة رشدي وشارك أثناءها في بطولة عدة مسرحيات. ثم انضم في العام التالي إلى فرقة إتحاد الممثلين التي تكونت بإعانة كبيرة من الدولة لحلّ أزمة المسرح التي بلغت ذروتها في الثلاثينات بهدف إنقاذ الفنانين الذين توقفت فرقهم من غول البطالة. وعيّن جورج أبيض مديراً للفرقة وزكي طليمات مديراً فنياً وانضم إلى الإتحاد عدداً كبيراً من ممثلي الفرق المنحلة وشارك زكي رستم في تمثيل العديد من المسرحيات خلال موسمها الوحيد الذي انحلت في نهايته بسبب تفاقم الوضع وعدم الإنسجام بين أعضائها.
القومية المصرية
وفي العام 1935 إنضم للفرقة القومية المصرية التي أسستها الدولة بقرارٍ وزاري في29 أغسطس 1935 كحلّ لأزمة المسرح. وكانت أول فرقة تمولها الدولة وتشرف عليها إشرافاً كاملاً. علماً أنها تضمنت كوكبة من ألمع الفنانين برئاسة الشاعر خليل مطران وفي مقدمتهم جورج أبيض وعزيز عيد، وزينب صدقي، وفردوس حسن.
إشترك زكي رستم في تمثيل مسرحية الإفتتاح وهي “أهل الكهف” وأدى فيها دور الملك ثم توالت أعماله بالفرقة القومية والفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى التي حلّت محل القومية عند إعادة تنظيمها في صيف 1942 وفي نهاية 1945 استقال من الفرقة ليتفرّغ لنشاطه السينمائي المتزايد وكان زكي رستم يعد في تلك الفترة نجماً من نجوم الشاشة الفضية المعدودين.
إنطلاقة سينمائية
ولم يقتصر نشاطه على المسرح فقد كان من طليعة العاملين بالحقل السينمائي وكان معظمهم في ذلك الوقت من فناني المسرح الذين قدمهم المخرجون منذ مولد السينما المصرية اذ اختاره المخرج محمد كريم في العام 1929 ليشترك في بطولة فيلم “ليلى” فلفت الأنظار إليه وتوالت أفلامه. وسرعان ما أصبح من نجوم السينما اللامعين وظل يزاول نشاطه في المجالين معا المسرح والسينما وفي عام 1946 استقال من الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقي وكانت أقدامه قد رسخت في مجال السينما حتى أنه قام في فترةٍ قصيرة ببطولة عدة أفلام منها “السوق السوداء”، “النائب العام”، “عدو المرأة”، “هدمت بيتي” وغيرها.
ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.
تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :
- مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
- يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
- كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.
الحلقة الثانية
الإثنين 4 سبتمبر 2017
إيلاف - أول يومية إليكترونية صدرت من لندن عام 2001
أحمد طه من القاهرة
أمضى حياته عازباً وتوفي بعزلته
الصمم يُبعِدُ زكي رستم عن الشاشة
“إيلاف” من القاهرة : تُلقي “إيلاف” الضوء على سيرة حياة الفنان زكي رستم بإعادة نشر ما تضمنه الكتاب الذي صدر عن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي قبل سنوات. وهو من ألمع نجوم المسرح والسينما وأحد الفنانين الكبارالذين تصدّروا الأنشطة التمثيلية وخاصة السينما على مدار أربعين عاماً منذ منتصف العشرينيات حتى منتصف الستينيات، ونال عن جدارة شهرة كبيرة بقوة أدائه وخصوبة موهبته وسطوة شخصيته الفنية وقدرته الفائقة على امتلاك زمام الموقف دون مبالغة أو إفتعال.
الق المسرح
لقد وجد زكي رستم في السينما مجالاً أوسع لإبراز مواهبه، وحقق فيها إلى جانب الشهرة الواسعة دخلاً مرتفعاً خاصةً بعد تراجع نشاطه في المسرح في الأربعينيات حين اشتدت المنافسة بين نجوم الفرقة للقيام بأدوار البطولة.
وكان “رستم” طويل القامة ويتمتع بقوامٍ رياضي. فاكتسب فوق المنصة حب الجمهور وإعجابهم بحضوره القوي، ووجهه المعبِّر بنظراته الحادة. فلم يكن صاحب شخصية نمطية. بل استطاع أن يتحرر من أسر الشخصيات من عرضٍ لآخر. فلم تقتصر موهبته على أداء لونٍ واحد بل كان قادراً علي تجسيد الشخصيات الدرامية في التراجيديا والكوميديا. وهي الشخصيات العظيمة كالملك والقائد والأمير والزعيم والداهية السياسي، وكلها تتطلب إظهار جانب الشدة والعنف والجبروت والحزم. ولقد كان أيضاً الرجل الأرستقراطي الأنيق رفيع المقام، والرجل المحافظ المتمسك بقيمه، وهو أيضا الزوج الوفي ورب الأسرة الأمين على مصالحها.
مرحلة إنتقالية
لقد ارتبط فن التمثيل في البداية بالمسرح فقط، وهذا كان طبيعياً. فلم تكن السينما قد ظهرت في العالم بعد. حتى أن الذين سافروا إلى أوروبا لدراسة التمثيل آنذاك، كانوا يدرسون التمثيل المسرحي. لأن التمثيل كان يعني المسرح ولم يكن الممثلون يفكرون في بداية ظهور السينما بالاقتراب منها.
وهناك من درس التمثيل في فرنسا، في انجلترا وفي إيطاليا، لذلك كانت هناك مدارس متعددة في التمثيل المسرحي. علماً أن التمثيل في تلك الفترة كان يتسم بالمبالغة الشديدة. حيث كان على الممثل أن يكون جهوري الصوت ويجيد التلويح باليدين والذراعين، ويصول ويجول علي المسرح لا يردعه رادع. وربما لم ينصف المسرح الكوميدي والتمثيل فيه سوى نجيب الريحاني ذلك العبقري الذي كانت موهبته تفوق كل من حوله.
السينما في مصر
عندما ظهر الفن السينمائي في مصر، كانت هناك محاولات لإنتاج أفلام روائية تحتاج إلى ممثلين محترفين. وعلي الفور اتجهت الأنظار إلى المسرح الذي كان يعج بالممثلين من الرجال والنساء ومن مختلف الأعمار. ولكن المشكلة الأساسية ظهرت، حين نقل الممثلون معهم المسرح إلى السينما. فكان الأمر في البداية أشبه بالمسرح السينمائي، أو بمعنى آخر، فقد وضع المخرج الكاميرا أمام خشبة المسرح.
أما زكي رستم فقد بدأ حياته الفنية بالوقوف على خشبة المسرح كما ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسة. إلا أن السينما كانت قد بدأت مشوارها حديثاً، وبالتالي، لم يكن أمامه نموذجاً يتعلّم منه أو قدوة يحتذي بها للوقوف أمام آلة التصوير.
ورغم ذلك إستطاع أن يضع نفسه في المقارنة مع غيره من كبار الفنانين في مجال التمثيل بالخارج مثل اورسون ويلز وتشارلز لوتون وفردريك مارش ولورنس اوليفييه بشخصيته الفياضة التي تتجاوز المألوف. بحيث اختاره المخرجون لتميزه وتمتعه بقدرةٍ فنية عالية برزت بمجمل أعماله، مهما كان الدور صغيراً. فأصبح أحد أهم الممثلين الذين جاؤوا من المسرح ليحققوا نجاحاً كبيراً في السينما. وكأنه انتقل من بيتٍ كان يجد فيه راحته، إلى بيتٍ وجد فيه راحة وترحيباً أكبر من كل المحيطين به. علماً أنه كان يطلب تواجد الممثلين أمامه لتصوير اللقطات حتى تلك التي يكون فيها بمفرده أمام الكاميرا على افتراض أنه يتحدث فيها إلى ممثل أو ممثلة أخرى، لأنه لم يكن يرغب بالوقوف أمام عدستها بدون ممثلين حقيقيين، حيث أراد لأدائه أن يكون واقعياً ومنطقياً. ولم يكن هذا غريباً، لإنه يعرف بفن الإصغاء.
براعة التنقل بين الأدوار
واللافت أنه ابتعد عن أداء الأدوار النمطية وبرز كممثل متنوع الأدوار. حيث لعب دور الباشا في العديد من الأفلام. ولكنه في كل مرة، كان مختلفاً بالمضمون والأداء، ليبقى “الباشا” بالنسبة له، مجرد لقب، بينما تنوعت الشخصيات التي جسده فيها بين الظالم، المتغطرس، الشرير، الطيب أو الحنون وغيرها من الأدوار. حيث أنه لمع بكل هذه الصفات وتميّز بقدرته على المرور بمراحل انفعال مختلفة ببراعة ويسر وإقناع، دون أن يشعر المشاهد بأن هناك قفزة في الإحساس بين لقطةٍ وأخرى، أو بين مشهدٍ وآخر.
ولقد جسد دور المجرم أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يقدّم شخصية جديدة. وذلك حسب مواصفات الدور المرسوم له في السيناريو، ويعطي لكل شخصية ملامح خاصة بها لا تتكرر في الشخصية المنحرفة الأخرى بفيلمٍ آخر. فإن دوره بفيلم “عائشة” يختلف عن دوره في “بائعة الخبز” وفي فيلم “النمر”. وأيضاً عن فيلم “رصيف نمره 5”. فقد كان مجرماً في كل هذه الأفلام، لكنه أعطى لكل دور ملامحه الخاصة به، فلم يشعر المشاهد بالتكراربفضل قدرته على التعبير وتجسيد الإنفعالات المختلفة في أبعد المناطق النفسية عمقاً، والتي لا تظهر في الكثير من الأحيان إلا محاطة بظلالٍ كثيفة.
وعندما جسد أدواراً تتسم بالخفة والبسمة والروح الكوميدية، كان المشاهد أمام شخصية مختلفة ومقنعة. بحيث أنه استطاع أن يُضحِك الجمهور بمهارة في الأدوار الكوميدية.
وكان يولي اهتماماً كبيراً بملابس الشخصية التي يقوم بها، ويدقق في اختيار هذه الملابس. بحيث تتوافق تماماً مع مستوى الشخصية الإجتماعي سواء كان يقوم بأدوار علية القوم أو أفراد الطبقة الوسطى، أو السفلة والمجرمين على اختلاف شخصياتهم، بحيث كان يجد في الملابس عاملاً مساعداً بشكلٍ كبير في أداء الشخصية بشكلٍ مقنِع.
ويشار هنا إلى أن أحد الظواهر الغربية في التاريخ الفني لهذا الممثل العملاق، تمثّلت بعودته في فيلمه ما قبل الأخير بعنوان “الحرام” إلى الأداء المسرحي في الحركة وفي الحديث. وكأن عقله قد سقط وعاد إلى المرحلة التي كان يعمل فيها ممثلاً مسرحياً. وربما كان السبب خلف هذه المبالغة اللافتة بالأداء أمام الكاميرا هو إصابته بالصمم الذي الذي وضعه بحالةٍ نفسية سيئة سيطرت عليه جرّاء هذا الهمّ الذي ألمّ به، بحيث بدأ يشعر بالإهمال من المحيطين به.
العازب المنطوي على ذاته
لقد عاش “رستم” حياته عازباً. وتولى تدبير شؤونه المنزلية خادم عجوز. فقد كان هذا الفنان ميالاً للعزلة، وقليل الصداقات عازفاً عن الإندماج في الحياة الإجتماعية. وكان لديه كلباً لا يفارقه. يؤنس وحدته ويصحبه في جولته اليومية في وسط المدينة حيث كان يقيم بشارع سليمان باشا. وعوضاً عن الأصحاب والمنتديات، كان يعيش بضع ساعات يومياً بين الكتب لكونه شغوفاً بالقراءة التي كان يعتبرها خير وسيلة للتثقيف والتعمق في فهم الحياة وإدراك أبعاد الشخصية التي يمثلها.
وبالرغم من تألقه بأدوار الشر والشخصيات الأرستقراطية التقليدية والمحافظة وما تبديه أحيانا من صرامة وتزمت وقسوة، إلا أن صورة هذا الفنان تختلف خارج استوديو التصوير. فالذين تعاملوا معه عن قرب في الحياة اليومية وجدوا فيه انساناً دمث الخلق.
شهرة وانكفاء
لقد امتدت شهرة “رستم” خارج مصر والعالم العربي، وتحدثت عنه الصحف العالمية تقديراً لمكانته فنشرت مجلة لايف الأميركية في الأربعينيات من القرن الماضي مقالاً عنه تناول أهم أعماله. بحيث وُصِفَ بأنه قرين النجم العالمي شارلزلوتون. كما تحدثت باري ماتش الفرنسية عن سيرته الفنية، وكرّمته الدولة في العام 1962، فمنحته وسام الفنون والعلوم تقديراً لعطائه.
لكن، المؤسف فعلاً أنه عانى في سنواته الأخيرة مشكلة ضعف السمع تماماً كـ"بيتهوفن". وربما كان هذا أحد الأسباب التي أبعدت عنه مخرجي السينما، فساءت حالته النفسية. ويقول المقربون منه أنه بنتيجة هذا الوضع، عزل نفسه عن الناس وعزف عن مخالطة الوسط الفني، علماً أنه لم يعتد على مخالطة الفنانين إلا أثناء عمله فقط، لكونه عُرِفَ بالإنطواء.
لقد أمضى زكي رستم السنوات الأخيرة من عمره في عزلة موحشة. فقد أصيب- إضافةً للصمم ومتاعبه النفسية- بأمراض الشيخوخة التي ألزمته الفراش إلى أن توفي في 16 فبراير من العام 1972.
ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.
تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :
- مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
- يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
- كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.