جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 27-03-2018
المدن - ثقافة
جودي الأسمر
الفرنسية.. زهرة تنتعش في بستان انكليزي
“يجب أن تكون الصين أرضاً فرانكوفونية”، أمنية هي أقرب الى الهدف أطلقها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في زيارته الأخيرة الى الصين. في تقرير بثته “فرانس إنفو” يسأل ماكرون الرئيس الصيني عن ترتيب اللغة الفرنسية بين اللغات الأجنبية التي تتقنها ابنة الرئيس الصيني، فتكون الثانية، ليردّ ماكرون مبتسماً “أتمنى أن تصير لغتها الأجنبية الأولى”. أرسى هذا اللقاء تعاونات ثقافية جمّة، منها تعزيز الفرنسية في الصين في مقابل دعم معاهد كونفوشيوس في فرنسا، ورغبة ماكرون بتعلم الصينية وزيارة الصين سنوياً مرة واحدة على الأقل. جاءت هذه الاتفاقات ضمن مجموعة عقود أمنية واقتصادية وبيئية أبرمتها فرنسا مع العملاق الآسيوي طاولت على سبيل المثال الصناعة النووية، ما دفع البعض الى تفسير هذا التقارب اللغوي بأنه وسيلة لغايات دبلوماسية، يترجم الى حد كبير بفرضية “وراء كل سياسة لغوية هناك سياسة”.
واستتبع ماكرون خطابه التحفيزي بالافصاح عن طموحه اللغوي لطلاب صينيين فرانكوفونيين “إن الفرنسية مرشحة لتصير الأجنبية الأولى في العالم في غضون 40 سنة. سيتداولها أكثر من 700 مليون فرنكوفوني يشكل الأفارقة 85% منهم.” الا أن الفرنسية التي روج لها الاعلام على ألسنة صينيين بأنها “لغة سحرية” لم تقصد “طريق الحرير” الصيني وحده. فقد نشرت “فرانس 24”، نقلاً عن الأمم المتحدة، أن الفرانكوفونية هي المنطقة اللغوية التي ستشهد أكبر نمو حول العالم، ومن المتوقع أن تسجل ارتفاعا في عدد الناطقين بالفرنسية بنسبة 143% بين 2015 و2065، مقابل 62% للإنكليزية.
بموازاة مع هذه الزيارة، كانت المعاهد الفرنسية حول العالم قد أطلقت مبادرة “فكرتي من أجل الفرنسية” (Mon idée pour le français)، والتي عُرّفت بأنها استشارة عالمية من أجل تعزيز اللغة الفرنسية وأيضاً تعدد اللغات، تقضي بأن يحمّل الفرانكوفونيون في الموقع الخاص بالمبادرة، فيديوهات قصيرة يتحدثون خلالها بفرنسيتهم المحلية حول التكتيكات التي يقترحونها لجعل الفرنسية أكثر انتشاراً.
الأستاذ في الجامعة اللبنانية، الباحث والمترجم د.جان جبور، يدرج هذه المبادرة في إطار “سياسة لغوية دامجة، تعدّدية، تتّبعها فرنسا اليوم بعدما فهمت مؤخراً أنها أخطأت في تطرفها بمعايير اللغة، وحين أرادت استئصال الزاد الثقافي واللغوي والسياسي للفرنكوفونيين، بما يتضمنه من موروثات الاستعمار وتعاطي هذه الشعوب معها”، مضيفاً أنّ النقد الأدبي للفرانكوفونيين كان يعجّ بانتقاد التساهل “laxisme” في دمج ألوان محلية في سياق فرنسي. وطاولت السياسة الاقصائية تلك الكتاب الفرنكوفونيين، فتعمدت التعتيم عليهم “منذ عشرين سنة فقط، كانت الأنطولوجيا الأدبية الفرنسية ترفض إيراد كتّاب فرنكوفونيين من المشرق، أمثال صلاح ستيتية وأمين معلوف اللذين عاشا وكتبا في فرنسا، وجورج شحادة الّذي قدّم مادة غير مسبوقة للمسرح الفرنسي. بينما اليوم، بات الفرنسيون يدعمون الأدب الفرنكوفوني، ويعتبرون مثلاً أنّ المصطلحات الواردة من الأدب الإفريقي الفرانكوفوني مصدر ثراء وبوابة انفتاح نحو العالم”. ويشير جبّور أن التوجه اللغوي الآحادي كان يرعاه قانون “توبون” الذي صدر العام 1994 ويحمل إسم وزير الثقافة الفرنسية آنذاك جاك توبون، الذي أراد ضمان أسبقية المصطلحات الفرنسية التقليدية على المصطلحات الانكليزية. لكن انتفت هذه الحصرية على مشارف العام 2008، أي قبل حلول أقل من 15 سنة على سنّ قانون توبون، مع سياسة لغوية جديدة آمنت بالتعددية، كان أحد مؤشراتها مئات الكلمات الانكليزية أدخلت سنوياً الى المعجم الفرنسي. واقع أكدته التجربة لجان جبور “استندتُ الى معجم Larousse 2005 لتأليف معجمي”المنجد الفرنسي-العربي الكبير" فلفتني استجداد آلاف المفردات الانكليزية على الفرنسية". يتجلى إذاً تضارب يردّه جبور الى تقطّع في السياسة اللغوية “عادة ما تُبتر سياسة ما فور تغير الطاقم السياسي الذي يتبنى سياسة لغوية مختلفة عن سابقتها حد التناقض أحياناً”، ويبدو أن الرئيس الفرنسي الحالي تيقّظ لهذا التأرجح، فأوضح ملامح سياسته بالتركيز على القارة السمراء، ونصّب الكاتبة المغربية ليلى السليماني ممثلته للفرنكوفونية، وفي زيارته مؤخراً إلى واغادوغو أكد أنّ الفرنسية ستكون اللغة الأولى في أفريقيا، إنما هذا الهدف مقرون بشرط ترجمته “بشكل صحيح في العقود المقبلة” وهو إطار زمني طويل نسبياً اتخذته “الخطة الشاملة للفرنسية وللتعدد اللغوي في العالم” التي قدّمها ماكرون في اليوم الدولي للفرنكوفونية في العشرين من هذا الشهر.
ويلفت جان جبور الى تفشي الضعف في اللغات الأم ككل، كرسته العولمة التي جعلت الانكليزية لغة فائقة المركزية، وبالتالي غريمة سبعة آلاف لغة أخرى تصارع للبقاء، وتتوزع أهمها على لغات شديدة المركزية ترعاها نوادي اللغات الكبرى “الإسبانوفونية” و"اللازوفونية" و"العربوفونية" و"الفرنكوفونية". إزاء هذا الواقع، يجد جبور أن “الفرنسية تتمتّع بإرث ثقافي عظيم وتراكمات إنسانوية تجعلها لغة وازنة وذات قوة أصيلة أمام الانكليزية التي اكتسبت وزنها بفعل عوامل سياسية معاصرة برزت في أواخر القرن العشرين، وهي مؤهلة للتغير في غضون نصف قرن”.
إلا أن الفرنسية، مقابل هذه المزايا، تعاني مشاكل ذاتية: ينحو جبور لاعتبار الهيئات الفرنكوفونية مقصرة في الدفاع عن مكتسباتها اللغوية “قبل إطلاق مشاريع جديدة، ينبغي على فرنسا الدفاع عن موقع لغتها في محافل الأمم المتحدة. يجب أن تمنع الدول الفرانكوفونية التراخي في استخدام الفرنسية كلغة عمل رسمية موازية للانكليزية، وأن يكون موقفها صارماً، فهو بات مقتصراً على كتب تُرفع الى هيئة الأمم بدون إيلائها المتابعة الجدية أو الضغط لاستحصال هذا الحق”. فالنموذج اللغوي المصغر للأمم المتحدة يبين أن هذا الحق اللغوي اكتسبته فرنسا بشبه إجماع من الدول الأعضاء حين أقرّت نظامها اللغوي في شهر شباط من العام 1946، وكان أهم بنوده صدور جميع نشرات الأمم المتحدة بلغتي العمل الانكليزية والفرنسية. لاحقاً، في كانون الأول عام 1968، تكرّست الفرنسية مجدداً في جعل ترقية “مشروطة بالمعرفة الكافية والمثبتة للغة ثانية”، ولكنه تدبير أفرغ من قيمته بجملة اعتراضية تتيح الترقية ل"الذين لا تتوفر فيهم الشروط المطلوبة في هذه الفقرة" بناء لمقتضيات العمل. كنتيجة، شملت الترقيات كوادر أنغلوفونية لا تتكلم الفرنسية. كما لحظ جان جبور أن غالبية الوثائق الرسمية الصادرة عن الأمم هي حصراً إنكليزية، فأفرزت ترجمات فرنسية متباينة تسيء الى المضمون. ازاء هذه المنافسة التي خسرتها فرنسا في ميادين لغوية عديدة على الساحة الدبلوماسية، كانت صحيفة “نيويورك تايمز” قد نشرت في العام 2001 مقالة عنونتها بسخرية “على الصعيد الديبلوماسي، الفرنسية زهرة ذابلة في بستان انكليزي”.
الى جانب التداول الدبلوماسي للفرنسية، يعتقد الدكتور جان جبور أنه على الفرنكوفونية التسويق لوظائفيتها، تجعل كلّ سائل: لمَ عليّ تعلم الفرنسية؟ يهتدي الى إجابة مقنعة “داخل فرنسا كما خارجها، ثمة”سوق للغات" في المدارس والجامعات أثبت رجاحة الكفة لصالح الانكليزية، فالأهالي يختارون الانكليزية كلغة أجنبية أولى لأبنائهم، والراشدون يختارونها في الجامعات لأنهم مدركون لوزنها في سوق العمل على مستوى العالم".
ويقترح جبور قراءة مختلفة للواقع نفسه، ينبغي على المجموعة الفرنكوفونية عدم إغفاله بل الترويج لجانبه الناجح “رسخ لدى الاهالي المستنيرين اقتناعهم بالدراسة ذات المنهاج الفرنسي. في لبنان أثبت هذا النظام جدارة خريجيه في امتحانات التوفل والدراسة في أميركا، لا نجدها أحياناً كثيرة لدى خريجي المناهج الأميركية. إن بقاء الفرنسية في المؤسسات الكبرى اللبنانية هو إذاً مصدر غنى وليس عبثاً، والاكتفاء بالعربية الى جانب الانكليزية سيعدّ خسارة لأن العالم يتوجه الى ثلاثية اللغات”.
ويؤكد جان جبور على “نجاح السياسة اللغوية الدامجة، التعددية، الثابتة غير المتقطعة”، وهي حتى اليوم متجسدة بمقاربة الرئيس ماكرون الذي أقرن عنوان سياسته الخمسينية بواقع “تعددية اللغات”. في المقابل يحذر جبور من الانجرار لمواقف عدائية تجاه اللغات الاجنبية، أو إطلاق البكائيات، الى ما هنالك من نظريات تآمرية مترسبة من الاستعمار ومنطق الغالب والمغلوب الذي يفضي الى خسارة الفرنكوفونية، فاللغة، على حد تعبيره “ليست شأناً مجرّداً. الفرنسية كما كل اللغات، بمن يتكلمها، بمن يحملها، وبالتالي يتعيّن معالجة واقعها على أنه واقع متغيّر”.
(*) يُحتفى بـ«شهر الفرانكفونية في لبنان» من 2 آذار/مارس حتى 14 نيسان/أبريل.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.