موقع رصيف 22
الاثنين 30 مارس 2020ـ
علاء رشيدي
البشرية في مواجهة كوفيد 19... العولمة أم القومية، الشمولية أم مناعة القطيع، الحرية أم الصحة
تختلف المقاربات الفكرية التي أثارها الكتاب والفلاسفة والمتعلقة بظاهرة وباء كوفيد 19، وخصوصاً بعد انتشار الفيروس خارج الصين، والذي أدى إلى بروز أكثر من خطة أو نموذج تعامل دولي مع هذا الفيروس، فبات من الواضح أن خطة عزل الفيروس واحتوائه الذي اعتمدته الصين، لم يعد النموذج الوحيد، فقد اقترح الأوروبيون، وخصوصاً بريطانيا، فكرة القضاء على الفيروس بطريقة “تحصين المناعة الجماعية”، بحيث يعزل كبار العمر، ويسمح للفيروس بإصابة 60% من السكان لكي تشكل أجسامهم مناعة جمعية تتمكن من تجاوز الفيروس.
العولمة أم القومية؟
كان فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية العام 2016، انتصاراً لخطاب القومية على خطاب العولمة، فقامت حملته الانتخابية على شعار “أميركا أولاً”، وفي خطاب الاتحاد الأول أمام الكونغرس الأميركي، نعى الرئيس ترامب العولمة لصالح مفهوم الدول القومية، ومن حينها لم يعد ترامب مجنوناً أو شخصية هزلية، بل حمل فكراً سياسياً: القومية في مواجهة العولمة. ومع بروز فيروس كورونا برزت مجموعة كبيرة من الأقلام تعتبر مرض كورونا كنتيجة للعولمة، أي أن العولمة هي المسؤولة عن تفشي هذا الفيروس. كانت آراؤهم أن حركة السفر، التنقل، السياحة، المطارات والتبادل التجاري، أي نظام العولمة القائم، هو الذي سهّل انتقال الفيروس وانتشاره، واضعين اللوم على نظام العولمة.
اهتم الفيلسوف الأمريكي يوفال هراري، بالرد على هذه النظرية، لقد كتب في مقاله “في المعركة ضد الكورونا، الإنسانية تفتقد القيادة”: “الأوبئة قتلت الملايين من البشر قبل عصر العولمة الحالي، في القرن الرابع عشر لم يكن هناك طائرات ولا سفن رحلات بحرية، ومع ذلك انتشر الموت الأسود من شرق آسيا إلى أوربا الغربية خلال أقل من عقد، وتقدر ضحاياه بين 75 و200 مليون وفاة. في إنكلترا وحدها توفي 4 أشخاص من كل عشرة، ومدينة فلورنسا فقدت 50 ألف ضحية من سكانها البالغ عددهم 100 ألف، أي نصف السكان”.
ويتابع هراري في مقاله هذا تعداد الأوبئة والأمراض التي اجتاحت البشرية قبل ولادة نظام العولمة الحالي الملام على انتشار فيروس كورونا، أما أحمد جابر، في مقاله “كورونا العولمة: مسؤولية الدولة الوطنية” فقد قارب العولمة بطريقة أخرى، لقد اعتبر أن فيروس كورونا كشف زيف نظام العولمة: “في مضمار الإنسانية وأخلاقها، أسقط كورونا أخلاقية العولمة، وكشف ادعاءاتها. الدليل على ذلك، انكفاء كل دولة وطنية على ذاتها، وتحديد الصلة بين المتشابهين على صعيد نظامي رأسمالي، والتمييز ضمن المجموعة الرأسمالية ذاتها، على أساس لا تخطئ العين مقدار السياسة الكامنة فيه”.
العزلة أم التواصل؟
هذا ما يقودنا إلى النقطة الثانية التي تداول فيها الفلاسفة والكتاب بكثرة، وهي عن كيفية خطة الخلاص الأنجع من الفيروس. لقد رأى المحلل والباحث السياسي مناف كيلاني، أن كورونا هو نهاية نظام العولمة لأن الخلاص سيكون على المستوى القومي أي الوطني، مشيراً إلى التدابير التي اتخذتها الدول بالعزلة كل منها عن الأخرى، وأن إيجاد الحلول الحقيقة يقوم على تخطيط كل دولة بخلاصها الوطني. وإن كان ما يقوله الكيلاني واضحاً من ممارسات الدول، إلا أن الكثير من الفلاسفة يملكون رأياً مغايراً.
في مقاله “كورونا فيروس الإيديولوجيا”، كتب الفيلسوف السلوفاني سلافيك جيجك، مناقضاً الحلول الوطنية: “كيف نحارب الفيروس في وقت يتكاثر فيه كشكل غير مرئي من الحياة الطفيلية التي تظل آليتها الدقيقة غير معروفة بشكل أساسي؟ هناك شيء واحد مؤكد: العزلة وجدران جديدة ومواقع حجر صحي جديدة لن تؤدي المهمة، هناك حاجة إلى تضامن كامل غير مشروط واستجابة منسقة على المستوى العالمي”.
إن الحل لن يكون إلا على المستوى العالمي برأي جيجك، كذلك يجزم هراري أن العزلة ليست هي الحل، بل الحل هو مشاركة المعلومات. في مجموعة الوصايا التي يقدمها هراري، يذكّر بأن التاريخ يعلمنا أن الوقاية والحماية يأتيان من خلال التعاون في مشاركة المعلومات العلمية، وبالتعاضد العالمي. وهو يرى أن التعاون الدولي أيضاً ضروري لمراقبة إجراءات الحجر الصحي: “في الحرب ضد الفيروس، الإنسانية بحاجة أن تحرس الحدود، لكن ليس الحدود الفاصلة بين الدول، بل الحدود الفاصلة بين العالم الإنساني والعالم الجرثومي، وذلك يتم بمساعدة المنظمات الصحية الدولية، وإعطاء الدعم للدول الأكثر تضرراً، لأن ما يحدث فيها يعني ويؤثر في كل العالم”.
لكن العالم اتخذ وجهة أخرى، بحسب هراري، فالخوف من الأجانب، العزل وانعدام الثقة هو السائد الآن في النظام العالمي: “بدون الثقة والتعاضد العالمي فإننا لن نكون قادرين على إيقاف انتشار كورونا، وسنكون موعودين بأنواع أخرى من الأوبئة في المستقبل”، إن الأزمات قد تكون فرصة لإعادة التفكير بحسب هراري، متمنياً أن يدفع الوباء الحالي الإنسانية لاستيعاب بأن الخطر الحقيقي يكمن في الانقسام الإنساني، وأن الحل بالتواصل وتبادل الخبرات والمعلومات.
يجب أن يدفع الوباء الحالي الإنسانية لاستيعاب بأن الخطر الحقيقي يكمن في الانقسام الإنساني، وأن الحل بالتواصل وتبادل الخبرات والمعلومات... العزلة ليست الحلّ!
الشمولية أو مناعة القطيع؟
يؤكد العلماء المختصون أن انتشار الأوبئة تفترض نوعين من الحلول، يبدو ألا ثالث لهما حتى الآن، الأول: حجر الفيروس لمنع انتشاره، والثاني: هو نشر الفيروس ليصيب 60% من السكان وعليه تتشكل المناعة الجمعية. في البداية، لم يفكر العالم بأن هناك أسلوباً مغايراً لما تتبعه الدولة الصينية، لكن مع النتائج الكارثية على مستوى الاقتصاد العالمي، وتفشي الوباء، فكرت دول باتباع مناهج مختلفة للتعامل مع المرض، برزت مجموعة من الكتابات تقابل بين النوعين من الحلول: الحجر أم المناعة الجمعية؟
رأى جيجك أن مواجهة الوباء تتطلب ما يشبه النظام الشيوعي، المعالجة الشمولية التي يخضع فيها الأفراد لإدارة النظام، وكتب عن ضرورة الثقة بين الشعب وبين النظام الحاكم الذي يدير الأزمة، ما لايراه متوافراً في الصين: “في حالة انفجار وباء عالمي، فهل ندرك جيداً واقع أن آليات السوق لن تكون قادرة على حمايتنا من الفوضى ومن الجوع؟ يجب أن تؤخذ التدابير التي تبدو لمعظمنا اليوم على أنها (شيوعية) بعين الاعتبار والتنفيذ على المستوى العالمي: تنسيق الإنتاج والتوزيع من خارج إحداثيات السوق. يجب التذكير هنا بالمجاعة الكبيرة للبطاطس التي دمرت أيرلندا في أربعينيات القرن التاسع عشر، مسببة ملايين الوفيات أو المجبرين على الهجرة. احتفظت الدولة البريطانية حينها بثقتها بآليات السوق، فواصلت أيرلندا تصدير المواد الغذائية، بينما كان ملايين الأشخاص في حالة من الضيق الشديد. لم يعد من الممكن التسامح اليوم مع هذه القسوة”.
أيضاً يعتقد هراري أن المطلوب لمواجهة الفيروس هو أن يثق الناس بالعلماء، وأن يثق الشعب بالسلطات العامة، وعلى البلدان أن تثق ببعضها البعض. وهو يرى أنه، وفي السنوات السابقة، قام السياسيون بالتقليل من شأن العلم، ولم يتم تقدير العلوم على المستوى السياسي الدولي: “إن ما نفتقده اليوم هو أولئك السياسيون القادرون على تنظيم وتمويل استجابة عالمية موحدة”، وهكذا، إن كان جيجك يجد الحل باتباع نظام شيوعي عالمي من حيث توزيع الثروات في هذه الأزمة، فإن هراري أيضاً يجد اللحظة تتطلب ثقة الشعب بالإدارات والجهات العامة لقيادة الأزمة والخروج منها.
“في الحرب ضد الفيروس، الإنسانية بحاجة أن تحرس الحدود، لكن ليس الحدود الفاصلة بين الدول، بل الحدود الفاصلة بين العالم الإنساني والعالم الجرثومي، وذلك يتم بمساعدة المنظمات الصحية الدولية، وإعطاء الدعم للدول الأكثر تضرراً، لأن ما يحدث فيها يعني ويؤثر في كل العالم”
الحرية أم الصحة؟
لكن هراري يعترف أن الحلول المطروحة اليوم تزيد من قدرة السلطات على المراقبة، وخصوصاً المراقبة الصحية القائمة على نظام رقابة أشد، لأنها رقابة بيولوجية، وبينما التبرير هو إنقاذ الناس من الوباء، فإن ما ينتج عن ذلك هو نظام أكثر شمولية ورقابة. من المعروف أن 300 مليون كاميرا مراقبة حرارية كانت فعالة في الحد من معالجة الوباء في الصين، لكن المجتمع أصبح تحت المراقبة المباشرة والكثيفة من قبل السلطات. لذلك، يرى هراري أن صراعاً حتمياً سينشأ بين الحرية الشخصية “الخصوصية” والصحة، ويتنبأ بانتصار الصحة على الخصوصية، والناس ستخسر جانب الخصوصية والفردية مقابل توقف انتشار الوباء: “إن هذا الوباء سيسرع من عملية تشكل أنظمة شمولية”، حسب قوله.
ليس خشية من الشمولية، بل هو الاهتمام والأولوية لاقتصاد السوق، هو ما دفع الإدارة البريطانية، بقيادة بوريس جونسون، لحمل لواء الخيار الثاني في التعامل مع الوباء، خيار تشكيل مناعة جماعية. لكن شادي لويس يستشهد بكتاب “ميلاد العيادة” لميشيل فوكو، ليبين أن حتى هذا الخيار هو تدخل من قبل السلطات في حياة الفرد، هذه المرة حياته الحيوية أي البيولوجية: “تتعلق السلطة الحيوية بالمواطنين ككائنات بيولوجية، كأجساد تخضع للفحص والتصنيف والعلاج والعزل وحكم الحياة والموت أيضاً، لا في السجون والمدارس فقط، بل في العيادات والمشافي أيضاً وقبل أي مكان آخر”، بمعنى أن التضحية تفرض فرضاً على القليل، لأجل أن يستمر باقي القطيع، وهو أيضاً تفكير سلطوي.
بالمقابل، يعتبر خالد زيادة، أن الأسلوب البريطاني القائم على تشكيل المناعة الجماعية يتناسب مع منهج التفكير القائل بأن المعرفة تأتي من التجربة، بمقابل المنهج الأوروبي الذي يتبع أولوية العقل على الوجود، وبأنه يجب على العقل أن يسيطر على الطبيعة. ويرى النموذج الصيني في التعامل مع الفيروس نابعاً من السلوك النظامي الذي هو وليد الاستبداد الشرقي مُطعّماً بشيوعية ماو تسي تونغ. أما عن التعامل العربي مع الفيروس، فيكتب خالد زيادة: “أما نحن فما زلنا نمزج بين البداوة (بَول البعير) والريفية (اليانسون والشعير) والفكر الغيبي القيامي، وعقدة الاضطهاد التي تحيل كل أمر إلى مؤامرة كونية”.
الدين أم العلم؟
من هذه الملاحظة عن طريقة تعامل الثقافة العربية مع الوباء، ننتقل إلى النقطة الأخيرة والمتعلقة بعلم الاجتماع، يلفت الباحث هاني طلفاح، الانتباه إلى الاختلاف في التعامل مع الوباء بين مجتمع وآخر، بمقدار علاقته مع العلم والعقل والدين: “فبينما نرى مجتمعات التزمت بتعليمات الوقاية من الفيروس طوعياً، دون أن تفرض عليها الدولة ذلك، مثل ألمانيا والسويد، وهي مجتمعات التزمت تدابير الوقاية قبل أن تفرضها الدول. بالمقابل، فإن مجتمعات أخرى لجأت إلى الدين والقوى الغيبية لتحمي نفسها من الفيروس”.
ولذلك كتب أسعد قطان عن النزاع بين العلم والدين أمام ظاهرة الوباء: “يحيلنا الخطاب الديني في زمن الكورونا إلى التوتّر القديم بين العِلم والدين، وكأن الناطقين الرسميين باسم الأديان لا يتقنون لعبة الترويج لله و(صحبه) من الأولياء والقدّيسين إلاّ إذا مرّت هذه اللعبة بتكتيك نفي العلم أو التقليل من شأنه. فتارةً يصبح القدّيس فلان هو الشافي (الحقيقي) من كورونا وسائر الأمراض المستعصية، وطوراً يصبح المرض الآخذ في التفشي أحجية بيولوجية يضرب الله بها عصفورين بحجر واحد، فيتحدى العلماء ويعجّزهم من جهة، ويرسل إلى الناس أمراضاً يؤدّبهم بها كي يرجعوا إليه من جهة أخرى”.
يمكننا القول من هذه الرحلة إن الفكر الإنساني يعاود طرح الجدليات الكبرى حتى في أزمنة الأوبئة، وأن الإنسانية قد تكون على شفير الموت، بينما هي ماتزال تسعى للإجابة على جدليات طالما تم التساؤل عنها في شرط الوجود الإنساني. ويضيف إلينا الجدليات المتعلقة بالوباء الجديد، أن أي حل طبي علمي هو أيضاً مرتبط بالأسئلة الأخلاقية، السياسية، الفكرية والاجتماعية للإنسان، التي تثبت لنا الكتابات الواردة في هذه المادة بأن الإنسانية بحاجة للإجابة عليها على الدوام.
حقوق النشر
تم نقل هذا المقال بهدف تربوي وبصفة غير تجارية بناء على ما جاء في الفقرة الثانية من الفقرة 5 من شروط استخدام موقع رصيف 22 الإلكتروني على الموقع الإلكتروني “رصيف 22” :
... علماً أن الموقع يحترم، بالقدر الذي نقتبس فيه المواد من حين لآخر من مصادر أخرى بغية دعم مختلف التفسيرات والمؤلفات الواردة في هذا السياق، حق الآخرين في “الاستخدام العادل” للمواد التي يتضمنها الموقع؛ وبناءً على ذلك، فإنه يجوز للمستخدم من حين لآخر، اقتباس واستخدام المواد الموجودة على الموقع الإلكتروني بما يتماشى مع مبادئ “الاستخدام العادل”.