الجمعه، 11 أكتوبر/تشرين الأول، 2013
جريدة الدستور الأردنية
سامي مهدي
أدب المقالة وأدباؤها
أدب المقالة وأدباؤها هذا عنوان كتاب صدر مؤخراً للأكاديمي العراقي الدكتور سعيد عدنان، وهويدل دلالة واضحة على محتواه: بحث في تاريخ المقالة الأدبية في الأدب العربي وتطورها، مع ست دراسات فنية عن مقالات ستة من أبرز كتابها.
والمقالة الأدبية، كما يفهم من هذا المصطلح، هي غير المقالة العادية، الموضوعية، هي نوع أدبي قائم بذاته وفن مستحدث من فنون الأدب، تمتاز على المقالة العادية ببلاغة لغتها، وحسن إيقاعها، وجمال أسلوبها وقوته، وبما تحمله من شحنات عاطفية مؤثرة، وما تنزع إليه من خيال أحياناً، دون أن تفرط بأفكارها أو بوظيفتها الإبلاغية. ولذا كان لها شكل فني عام يميزها، وأسلوب خاص تكتب به، شأنها شأن الأنواع الأدبية الأخرى، ويختلف هذا الشكل في جماله وقوة أسلوبه من كاتب إلى آخر، فكل حسب قدراته اللغوية ومهاراته الفنية وزاده المعرفي وحدود تجربته ورهافة أحاسيسه وسعة خياله.
قد تكون هناك مقدمات بعيدة لنشوء فن المقالة في التاريخ الأدبي، أبعد مما يقال هنا أو هناك، ولكنّ مؤرخي الأدب الفرنسيين يرون أن الفرنسي ميشيل دو مونتاني هو رائد المقالة الأدبية الحديثة في الآداب الأوربية بما نشره في كتابه (محاولاتEssais) الصادر عام 1585.
بعض الدارسين العرب حاول تأصيل هذا الفن في الأدب العربي فعادوا به إلى رسائل عبد الله بن المقفع وعبد الحميد الكاتب والجاحظ وكتابات أبي حيان التوحيدي وأبي الفرج الأصفهاني، ومنهم من عاد به إلى ابن الجوزي، العالم البغدادي، وكتابه: صيد الخاطر، ولكن الحقيقة الثابتة هو أن هذا الفن لم يزدهر ويتطور ويتميز عن غيره، في الآداب الأوربية وغير الأوربية، إلا بظهور الطباعة ونشأة الصحافة وتطورها.
فالمقالة فن صحفي في المقام الأول، نظراً لما تتطلبه الكتابة الصحفية من إيجاز ورشاقة في التعبير وترابط ووضوح في الأفكار. وحيث أن الصحفيين الأوائل كانوا أدباء أو ذوي مواهب أدبية في الغالب، فقد اتسمت مقالاتهم ببلاغة اللغة وحسن الإيقاع وجمال الأسلوب، فاتخذت طابعاً أدبياً جعل منها، شيئاً فشيئاً، فناً مختلفاً ونوعاً مستحدثاً من الأنواع الأدبية. ولكن الزمن لم يطلْ حتى افترقت المقالة الصحفية عن المقالة الأدبية، وغلبت عليها في عدد من يكتبونها وفي تنوع اختصاصاتهم، وذلك لما تتسم به من مرونة ودقة في تناول الموضوعات وعرض الأفكار والابتعاد عن النوازع الذاتية والتهويمات الشخصية. ولم يعد ثمة من يكتب المقالة الأدبية سوى قليلٍ من الموهوبين الذين يتناقصون جيلاً بعد جيل.
كتّاب المقالة الأدبية في الوطن العربي قليلون جداً، بل نادرون، إذا قارنا عددهم بأعداد الشعراء وكتاب القصة والرواية والمسرحية. فنحن لا نستطيع أن نحصي من كتابها أكثر من ثلاثين أو أربعين ظهروا خلال القرن العشرين على امتداد الوطن العربي كله، من مشرقه إلى مغربه. وقد ظهر أغلب هؤلاء في النصف الأول من القرن المذكور، وكان أغلبهم من مصر، وأبرزهم وأهمهم: طه حسين وأحمد حسن الزيات صاحب مجلة (الرسالة) الشهيرة. ولم يشهد النصف الثاني من القرن سوى ظهور آحاد، في فترات متباعدة، كان من أبرزهم: الدكتور شاكر مصطفى، والشاعر نزار قباني، والشاعر محمود درويش.
أما في العراق فعادة ما يذكر اسما إبراهيم صالح شكر، وفهمي المدرس حين يجري الحديث عن أدب المقالة. غير أنني أرى أن من الصعب عدّ كتاباتهما مقالات أدبية إذا اعتمدنا المعايير الفنية الفاصلة بين ما هو أدبي وما هو صحفي من المقالات. وفي رأيي أن أول كاتب للمقالة الأدبية في بلادنا هو الدكتور علي جواد الطاهر. فقد كتبها عن شغف بها ووعي بمعايير كتابتها. وفي ما عداه يصعب ترشيح أسماء عراقية أخرى لتصطف إلى جانب اسمه، أو تقترب منه في هذا المجال، باستثناء الشاعر الراحل يوسف الصائغ في مقالاته التي كان ينشرها في مجلة الف باء العراقية. أما ما عدّه الدكتور الطاهر مقالات أدبية من كتابات الشاعر الراحل حسين مردان فهو في رأيي قصائد نثر وليس غير. وأحسب أن الدكتور سعيد عدنان، مؤلف الكتاب الذي نتحدث عنه، مؤهلٌ تأهيلاً كاملاً ليكون من كتاب المقالة الأدبية لو أراد.
صدّر الدكتور سعيد عدنان كتابه ببحث عنوانه (المقالة الأدبية في الأدب العربي الحديث بين الازدهار والأفول) تناول فيه نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر على يدي جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده فأحمد لطفي السيد، ثم ازدهارها في ثلاثينيات القرن العشرين وإسهامات أعلام كتابها في تطويرها، وفي مقدمتهم مصطفى لطفي المنفلوطي وجبرا خليل جبران وطه حسين وأحمد حسن الزيات، ثم افتراقها عن المقالة العادية التي كتبها آخرون كعباس محمود العقاد وأحمد أمين، وأخيراً أفولها.
وقد عني الدكتور سعيد عدنان في كتابه بتصنيف المقالات ودراسة أشكالها وأساليبها لدى ستة من أبرز كتابها هم: د. طه حسين، وأحمد حسن الزيات، وإبراهيم عبد القادر المازني، ود. محمد عوض محمد، ود. زكي نجيب محمود، ود. علي جواد الطاهر، ولم يعن بأفكار مقالاتهم إلا بمقدار ما كان لها من علاقة بشكل المقالة وأسلوبها، وما أضافه كل كاتب على هذا الصعيد أو ما تميز به عن غيره من الكتاب.
ويرى عدنان أن (طه حسين سيد النثر العربي الحديث، منزلته منه كمنزلة الجاحظ من النثر القديم إجادة وتنوعاً.) (ص49). فقد التقت جملة عناصر على ترشيحه أن يكون علم الكتابة الأول في القرن العشرين (أولها: الموهبة بثرائها وسخائها ( ... ) وثانيها: ثقافة واسعة عريضة لا تكاد عند حد، وثالثها: عقل نقدي لا يتقبل الأشياء من دون نظر ودرس، ورابعها: أفق واسع، فليس قلم طه حسين مقصوراً على ميدان بعينه، بل كل الميادين متاحة له يجول فيها ويلتقط منها مادته، ويجعل ما يلتقط أدباً رفيعاً يمتع ويفيد.) (ص55) أما الزيات فهو عند عدنان (من أكتب أهل العصر) ثم يضيف كمن يستدرك (ولولا طه حسين لقلت أكتبهم). ( ص139 ) ويرى أنه (يزاول الإنشاء الأدبي على هدى مبادئ استقرت لديه هي خلاصة الذوق البلاغي القديم، أفادها من تمثله النص العربي البليغ سمّاها: الأصالة والوجازة والتلاؤم). (ص 143-144 ).
ويقول عدنان عن المازني، إنه (جعل المقالة صورة نفسه في اختلاف الأحوال عليها من أسى عميق إلى خفقات فرح طارئ تظلله رنة ساخرة لا يكاد المازني يفارقها ولا تكاد تفارقه.) ثم يصفه بأنه (متوثب الأسلوب، دقيق الأفكار، يداهم القارئ من حيث لا يحتسب، فيضفي على القراءة حيوية ومتعة). ( ص184 ) أما محمد عوض محمد فهو على حدّ وصفه (أديب جغرافي، أو جغرافي أديب، بأيهما ابتدأت فلا نكران عليك) .. ( درس الجغرافية وتخصص بها وكتب ما كتب في حقلها بقلم الأديب نصوعَ بيانٍ وإشراقَ معنى). ( ص 189 ) وقال عن زكي نجيب محمود إن مقالته (ناقدة، ساخرة، غايتها أن تنبه على نقص وتدل على فساد، ابتغاءَ الإصلاح، ارتقاءً بالحياة نحو الأسمى والأفضل) (ص 240) وكان محمود يكتب مقالاته (وهو على وعي تام بفن المقالة وما ينبغي له، فلم يجر المضمون لديه على الشكل، ولم يختر أقصر الطرق لتأدية ما يريد، وإنما كان يعنى بالفن ويعطيه حقه.) (ص 245). (ويبقى بناء المقالة لديه كلاسيكياً رصيناً متزناً، تحس أنه يجري على العقل وأحكامه أكثر مما ينساق وراء نزوات العاطفة) (ص 246).
وختم الدكتور سعيد عدنان كتابه بدراسة مسهبة عن مقالات أستاذه الدكتور علي جواد الطاهر ، فوصفها بأنها تتسم كلها (برشاقة العبارة ووضوحها، وبراعة الانتقال من مورد إلى آخر ومن فكرة إلى أخرى) وقال عنه إنه (مكّن للمقالة الدبية في النصف الثاني من القرن العشرين بما زاولها إبداعاً، ودراسة ونقداً، ولقد رجع لها على قلمه ما لقيت في النصف الأول من القرن العشرين من مجد.) (ص 295) على أن ما نقلنا هنا من أقوال المؤلف، وما أشرنا إليه من أفكاره، لا يكفي للتعبير عن محتوى كتابه، فقد بذل الرجل جهداً كبيراً في دراسة مقالات الكتاب وتصنيفها وتحديد خصائصها الشكلية والأسلوبية، والكتابفي بعض جوانبه جهد متقدم على ما سبقه من جهود الكتابة عن أدب المقالة وأدبائها.
وبعد فهم قليلون، أيضاً، بل نادرون، من كتبوا عن المقالة وفن كتابتها وتطوره قبل صدور كتاب الدكتور عدنان سعيد، نذكر منهم د. محمد عوض محمد في كتابه (محاضرات في فن المقالة الأدبية) ومصطفى لطفي المنفلوطي في مقدمة كتابه (النظرات) ود.زكي نجيب محمود في مقدمة كتابه (جنة العبيط) ود.محمد يوسف نجم في كتابه (فن المقالة) ود. علي جواد الطاهر في كتابه (مقدمة في النقد الأدبي) وعبد الجبار داود البصري في مقاله (رواد المقالة الأدبية في الأدب العراقي الحديث ) وعلي محسن عيسى مال الله في مقاله (المقالة الأدبية في العصر الحديث) المنشور في مجلة كلية الإمام الأعظم (4/ 1978) وربما هناك آخرون كتبوا في هذا الموضوع، ولكننا لم نطلع على ما كتبوه أو نسمع به ونهتدِ إليه.
ويبدو اليوم من الصعب التنبؤ بمستقبل المقالة الأدبية في عصر يشهد تحولات عميقة وسريعة في الأنواع الأدبية وأشكالها. فعناصر الحياة والموت ما تزال كامنة فيها. فهي من جهة ما تزال قادرة على أداء وظيفتها التقليديةالمعتادة في ميادين الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي من جهة أخرى تتعرض لمزاحمة مباشرة من قصيدة النثر التي اختلطت بها شكلاً ومضموناً وأخذت تزيحها وتحتل مكانها.
مؤلفات الدكتور سعيد عدنان المنشورة: الاتجاهات الفلسفية في النقد الأدبي عند العرب، الشعر والفكر عند العرب، علي جواد الطاهر الناقد المقالي، الصدى والصوت في شعر إبراهيم الوائلي، أدب المقالة وأدباؤها.
عن موقع جريدة الدستور الأردنية
يمنع النقل أو الاقتباس من أخبار الدستور الخاصة الابموافقة مسبقة من الصحيفة
اما فيما يتعلق بالمقالات فلا مانع من اعادة النشر شريطة الإشارة الى المصدر (جريدة الدستور)