الأربعاء 27 كانون الثاني / يناير 2016
جريدة رأي اليوم الإلكترونية
القاهرة – راي اليوم
يوسف شاهين.. عندما يتحول حب السينما إلى مصير ”بروفايل”
هناك من شبه الاحساس الذي يصيب الأشخاص بعد مشاهدة فيلم جيد، بالهدوء والشعور بالنشوى اللذان يسيطران على شخص تناول جرعة من الأفيون، فالعلاقة التي تنشأ بين الفرد والسينما خاصة من نوعها، وأحيانا تصل إلى حد الجنون، وفي حالة يوسف شاهين، تحول حب السينما إلى مصير يعيشه، صرفه عن الاهتمام بكل شيء، ودفعه للتركيز على تفاصيل الأمور، فتحولت الحياة بالنسبة له إلى فيلم سينمائي كبير.
على مدار ما يقرب من 50 عاما، بذل شاهين مجهودا مُضنيا للتعبير عن حبه لمعشوقته، السينما، فلم يهتم بنصيبه من الأرباح، أو العائد المادي الذي يعود عليه عندما يصنع هذا العمل، أو ذاك، ولكنه صب كل تركيزه واهتمامه على أن يتذكره الناس بعدما يترك الدُنيا، بأفلام جسدت قصص حقيقية، يَرَوْن فيها انفسهم، فإذا عُرض عليه فيلم، وعلم أن زميل لهم سيخرجه بطريقة أفضل، يرفض العمل ويقترح اسم الشخص الاخر، فيقول “ماكنش حلم حد مننا نركب عربية كبيرة، كنا عايزين نعمل أفلام كويسة، كنا بنحب السينما حقيقي”.
التركيز في التفاصيل، وما يدور في نفوس المشاهدين، كانا العاملين الاساسيين أثناء عمل شاهين على فيلم سينمائي، فيقول عنه عزت العلايلي، “كان مجنون بالناس، حبهم حب مش طبيعي”، وظهر ذلك في العديد من المشاهد، والذي رغب من خلالهم تصوير الشارع المصري، مثل مشهد حفل أم كلثوم في فيلم “حدوتة مصرية”، والذي ظهر فيه عشق كوكب الشرق، من صراخ المستمعين، وتحريك رؤوسهم طربا يمينا ويسارا، وتصفيقهم الحار، وحاول التركيز على من شعر أنهم منسيين، فانتقل من بين الفلاحين إلى الصعايدة، إلى العمال وابناء الطبقات المتوسطة الشعبية، وحلم بإخراج فيلم سينمائي، عن النوبة، فقالوا له “إحنا عايزين فيلم شيك يا جدع انت، هو مرة محطة ومرة فلاحين ودلوقتي نوبة؟”.
علم يوسف شاهين، أو جو مثلما دعاه الجميع، إن المحلية أسهل طريق للوصول إلى العالمية، فأخلص في القضايا المحلية التي تمر بها مصر، وعمل على إبراز هذه المشاكل وعرضها بطريقة حولت المشاهد للوحات فنية راقية، فعندما ألف وأخرج فيلم “نساء بلا رجال” أثار العمل ضجة كبيرة، لما تتسم به الفكرة من غرابة، مجموعة من النساء مجتمعات في منزل واحد، لا تربطهم أي علاقة بالرجال، سوى بأحد اقاربهم الذي يعمل على حل مشاكلهم في الخارج، ويقول شاهين عن هذه التجربة “تجربة ظريفة جدا، اتفرجنا على مسرحية فرنسية والفكرة عجبتنا، وفي الوقت ده كان في انتخابات لتعديل بنود معينة في الدستور، فحسينا أن الفكرة مناسبة”، وتكرر الأمر في العديد من أفلام، ومن بينها فيلم “الأرض” والذي أبهر المشاهدين في فرنسا، وقالوا إنه يعبر عن مشاكل الفلاحيين الفرنسيين.
بذل شاهين جهدا كبيرا لإخراج الأفلام بالطريقة التي ترضيه وتقنعه، وربما لهذا السبب عمل على تمويل أفلامه بنفسه، حتى لا يتحكم بها صاحب المال، ويتحول لدمية خشبية ويعطيه الخيوط ليتحكم به، فمثلا عند تصوير فيلم “صراع في الوادي”، كان هناك مشهد يجمع بين فريد شوقي، وعبد الغني قمر داخل مقبرة اثرية في الاقصر، ولم تكن الاضاءة مناسبة للتصوير، وعجز فني الاضاءة عن إعداد الموقع بطريقة تُرضي المخرج، وبعد محاولات عديدة باءت بالفشل، لم يصب شاهين بالإحباط ويقرر تغيير مكان التصوير والانتقال إلى آخر، مثلما يفعل مخرجين كُثر، ولكنه فكر طوال اليل، وفي صباح اليوم التالي، وبعد وصول فريد شوقي إلى الموقع، وجد شاهين واضع في المكان ست مرايات، كل منهما تواجه الأخرى، فانعكست أشعة الشمس داخل المقبرة، وأصبحت مضيئة وصالحة لتصوير المشهد، والذي يعتبره وحش الشاشة من أهم المشاهد في واحد من أهم افلام يوسف شاهين، ودليل واضح على عبقريته واخلاصه لفنه.
“أنا لو ماعملتش الفيلم زي ما انا عايز ممكن أموت”، رد شاهين بهذه الجملة على العاملين على فيلم “إنت حبيبي” لفريد الأطرش وشادية، بعد رفض فريد الاطرش الانصياع للأوامر والسقوط من فوق كرسي وضعه شاهين في الموقع، بعد دفع شادية له، حقق الفيلم نجاحا كبيرا، وغير وجهة نظر المخرجين وصناع الأفلام لفريد الأطرش، كان شاهين صغيرا في ذلك الوقت، وعرض عليه الفيلم، فقبل على الفور، وعمل على كتابة السيناريو مع الكاتب أبو السعود الإبياري، “حاولت إني اخلي النكت في الفيلم تكون مرئية مش بس كلام بيتقال وخلاص”، في ذلك الوقت توقف شاهين عن النوم، فأصبحت ثلاث أو أربع ساعات كافيين له، وعلى الرغم من عدم حبه للفيلم، أو تفضيله له في مرحلة ما من حياته، إلا أنه حقق نجاح لم يتوقعه مخرجه، أو صديقه رفيق الصبان، والذي حضر معه عرض الفيلم في باريس، ولاحظ اعجاب وانجذاب المشاهدين بالفيلم بعد أول خمس دقائق من عرضه، فقال له شاهين بعد انتهائه “هو أنا ازاي عملت فيلم حلو كده؟”.
“بشاهدة العاملين معه، والكثير من النقاد، فإن اتقان شاهين واندماجه في العمل السينمائي، ساعده على تحريك الممثلين بعذوبة وبساطة، وسيطر عليهم فتحولوا إلى قطع شطرنج في يده، بداية من يحيي شاهين وعبد الوارث عسر، وصولا إلى محسن محيي الدين، ولطيفة، وخالد النبوي ونور الشريف.
اختلفت الاراء حول يوسف شاهين، هناك من وصفه بالعبقرية الفذة، وهناك من وجد أعماله السينمائية، تخاريف شخص انجرف في حب السينما، إلا أنهم اجمعوا أن يوسف شاهين، استطاع بعمله الدوؤب أن يفتح مدرسة خاصة به للسينما، ينقل فيها الواقع، ويعبر عما يدور بخلجات النفس، وينتقل بعدسته من هنا إلى هنا، باحثا عن ما يرضيه ويرضى جمهور أحبه وحاول التقرب منه.
عن موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية
من تقديم مؤسس ورئيس تحرير جريدة رأي اليوم الإلكترونية :
سياستنا في هذه الصحيفة“رأي اليوم”، ان نكون مستقلين في زمن الاستقطابات الصحافية والاعلامية الصاخب، واول عناوين هذا الاستقلال هو تقليص المصاريف والنفقات، والتمسك بالمهنية العالية، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بقدر الامكان، والانحياز الى القارئ فقط واملاءاته، فنحن في منطقة ملتهبة، تخرج من حرب لتقع في اخرى، في ظل خطف لثورات الامل في التغيير الديمقراطي من قبل ثورات مضادة اعادت عقارب الساعة الى الوراء للأسف.
اخترنا اسم الصحيفة الذي يركز على “الرأي” ليس “تقليلا” من اهمية الخبر، وانما تعزيز له، ففي ظل الاحداث المتسارعة، وتصاعد عمليات التضليل والخداع من قبل مؤسسات عربية وعالمية جبارة تجسد قوى وامبراطوريات اعلامية كبرى، تبرخ على ميزانيات بمليارات الدولارات، رأينا ان هذه المرحلة تتطلب تركيزا اكبر على الرأي المستقل والتحليل المتعمق، وتسمية الامور باسمائها دون خوف.