يا دمشق وداعاً، غادة السمّان (سورية)، رواية منشورات غادة السمّان - 2015

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ١٤ فبراير/ شباط ٢٠١٥
جريدة الحياة
مايا الحاج


غادة السمّـان تصنع من قيود دمشق أجنحة


غادة السمان


يأخذ الغياب في تجربة غادة السمّان معاني مختلفة عن معناه التقليدي اللصيق بالكلمة. فهي حين غابت عن دمشق، مسقط الرأس، لم تغادرها. ولمّا غابت عن بيروت، مسقط القلب، ظلّت تستحضرها. وقد اعتادت السمّان فكرة الغياب عن وسط أدبي كانت هي نجمته يوماً، لتعود إليه من حين إلى آخر. فمرّة تكون عودتها جزئية، عبر أعمال تُعيد طباعتها عن دارها الخاصة ضمن سلسلة الأعمال غير الكاملة. وأخرى عودة فعلية عبر إصدارٍ حديث، سرعان ما يتحوّل إلى مناسبة للاحتفاء بغادة السمّان نفسها. هكذا يبدو الغياب كأنّه لعبة تتقنها الكاتبة الكبيرة، ليصبح في قاموسها الخاص مرادفاً لمعنى الحضور. هو الحضور في صوره الأكثر توهجاً. وبعد مرور نحو عقد على كتابها الأخير، تختار غادة السمّان أن تعود إلى قرّائها برواية جديدة تُمثّل الجزء الثاني من «الرواية المستحيلة»، التي صارت فيلماً سينمائياً يحمل عنوان الفصل الأخير منها «حرّاس الصمت».

للوهلة الأولى، يسوقنا عنوان الرواية «يا دمشق وداعاً» (منشورات غادة السمّان) إلى أزقة الشام العتيقة، إلى قلب مدينة جميلة اختفت معالمها جراء حرب هوجاء بدأت قبل أربع سنوات، ومازالت. عنوان لمّاح يحيلنا على واقع سورية اليوم، بحيث تبدو الكاتبة السورية متألمة لما يجري في مدينتها الحبيبة، فكأنها تُناديها بصوت تخنقه العَبَرة «يا دمشق وداعاً». ولكن، صفحة تلو أخرى، نكتشف أنّ المدينة التي تخاطبها الكاتبة مودّعةً هي دمشق الأمس، لا اليوم. المدينة التي أصدر مسؤولون فيها قراراً غيابياً يقضي بسجنها ثلاثة أشهر، فغادرتها إلى غير رجعة، حتى بعدما شملها العفو.

تمرّد أنثى

تبدأ غادة السمّان روايتها من حيث انتهت «الرواية المستحيلة»، وتختار لها عنواناً فرعياً هو «فسيفساء التمرّد» بدلاً من «فسيفساء دمشقية» (العنوان الفرعي لـ«الرواية المستحيلة»). أمّا الفصول فتسميها «محاولات»، لتنطلق الأحداث من المحاولة السادسة بعدما تضمّن الجزء الأول من الرواية خمس محاولات.

أسلوب العرض الذي تنتهجه الكاتبة في تقديم المشهد الأول يشي بأنّ الأحداث ليست إلاّ تكملة لأحداث أخرى سبق أن حصلت في وقت سابق. افتتاحية تكشف عن لحظة متأججة في حياة زين، بطلة الرواية بجزءيها الأول والثاني. إنه مشهد نموذجي يتقلّص فيه الحدث لمصلحة التصوير النفسي: «يجب أن أنسلّ من السرير من دون أن يشعر بذلك. أن أرتدي ثيابي على عجل. أن أغادر البيت قبل أن يستيقظ ويتبعني ويستجوبني. هذه المرّة يجب ألاّ يعرف إلى أين أنا ذاهبة. لا هو ولا أي مخلوق آخر. عليّ الاحتفاظ بالسرّ حقاً لأنجح في إلقاء القبض على حياتي...» (ص11).

في يوم ميلادها الثامن عشر، تعتزم زين الخيّال بلوغ رشدها الحقيقي بالتخلّص من زوج حاربت أسرتها من أجله يوماً، ومن طفل لن ترضى له بأن يعيش بين أبوين منفصلين. الطلاق والإجهاض، قراران مرعبان تصرّ زين على تنفيذهما من غير أن تقلق بالها بعواقبهما. تتناسى زقاق الياسمين ببيوتاته المتقاربة كشفاهٍ متلاصقة. تتجاهل براكين غضب ستنصبّ عليها. تُفكّر فقط في أن تصوّب مسار حياتها، محلّقة مع بومتها «المفكرة» ومتسلحة بجملة واحدة: «أنا صخرة في قاسيون». الجملة ذاتها تردّدها زين على امتداد الرواية كأنها تعويذة تقوي بها إرادتها وتزيدها قوة وصلابة.

ومن محاولة إلى أخرى، يتبدّى للقارئ أنّ زين الخيّال هي فعلاً «صخرة»، تمردّت على ما اختارته (الزوج)، وما أحبّته (دمشق)، قبل أن تتمرّد على أي شيء آخر. لقد رفضت أن تدفع حياتها ثمناً لقرار خاطئ اتخذته في مرحلة ما، فكان قرار العدول عن الخطأ (الطلاق)، وفق مجتمعها، أكثر جرأة أو «وقاحة» من الخطأ نفسه (الحبّ): «لن أدع أحداً يسلبني حقي في الحرية. وحقي في الخطأ أيضاً. فالحب مغامرة، وما من بوليصة تأمين ضدّ الفشل. وأنا فشلت. أنا مجروحة ومخذولة وأعترف بذلك. وأحاول تصحيح غلطتي» (ص 98).

وما وجدته زين ارتقاءً، اعتبره الآخرون «سقطة» أعطتهم حق الشماتة بصبية جريئة، سبقت زمانها، فلم تعد مقبولة بين أهل «زقاق الياسمين»، خوفاً من تأثيرها في بناتهم. لكنّ أمراً لم يقف في درب الشابة الباحثة عن الحرية. وقد استطاعت بإرادتها أن تحوّل من قيود مجتمعها أجنحة تطير بها، فتحدّت عائلة ثم مجتمعاً ثمّ دولة تمثّل نظامها الفاسد بالملازم ناهي، صاحب الصلاحيات المطلقة. وهي حين رفضت الانصياع لرغباته الوضيعة مقابل ورقة السماح لها بدخول دمشق والخروج منها، صدر قرار السجن بحقها غيابياً. لكنّها واصلت المسير على درب الحرية، راضيةً بأن تخرج من فردوس الوطن عزيزةً على أن تبقى فيها ذليلة. وحينها فقط أطلقت صرختها المدوية: «يا دمشق وداعاً». وهي إذ تُغادر دمشق، لا تعود زين إليها حتى بعد أن يموت والدها وسندها في الحياة، أمجد الخيال. «ها أنا أخيراً أبكي وأطلق سراح دموعي مصحوبة باللعنات على من حرمني من الانحناء أمام قبر أبي...». هكذا تبدو زين الخيّال كأنها «أونتيغون» جديدة، تتحدّى نواميس المجتمع والدولة، راضيةً بمواجهة «هلاكٍ» أشبه ما يكون بفاتورة يُسدّدها المتمرّد للقدر. «لم أعد أبالي بالقيل والقال. سأكون وهذا كلّ شيء» (ص100).

حلم الكتابة

يحدث أحياناً أن يتماهى الأدب مع شخصية مبدعه إلى حدّ تذوب فيه الحواجز بين العمل وصاحبه، فتغدو الكتابة أشبه بالكشف أو البوح. هذا النوع من الكتابات غالباً ما يضع الناقد أمام تحدٍّ يجعله عاجزاً عن دراسة الكتاب بمعزل عن حياة صاحبه. وقد تُعد كتابات غادة السمّان من هذا النوع، وهذا إن دلّ فعلى شفافية هذه الأديبة التي تكتب بحبر القلب، فتغدو كلماتها مرآة روحها.

وفي رواية «يا دمشق وداعاً»، تتقاطع قصة زين الخيّال مع قصة غادة السمان نفسها، ما يدفع القارئ نحو سؤال جوهري عن الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال: هل هذه هي رواية زين المتخيلة أم أنها سيرة غادة الحقيقية؟ سؤال يظلّ حاضراً في ذهن القارئ، وإن كانت الكاتبة قد أوضحت في ما يُشبه التقديم أنّ كتابها هذا «من صُنع الخيال الروائي الخرافي فقط لا غير وأنّ أيّ تشابه مع أحياء أو أموات إنما هو من قبيل المصادفة». ولكن بعيداً عن التماثل البيّن بين زين (البطلة) وغادة (الكاتبة) في نشأتهما، يتمهما، تمردهما، لا يمكن أحداً أن يتجاهل تشابهاً جليّاً بين شخصيتي غزوان العائد، الشاب الفلسطيني الحالم، وغسان كنفاني، الكاتب والمناضل الفلسطيني المعروف. كلاهما يحمل المواصفات الجسدية والفكرية والثقافية نفسها. وليس من باب المصادفة أن تختار الكاتبة لبطلها اسم غزوان، وهو على وزن غسّان، مما يكرّس هذا التماثل بينهما.

زين وغزوان، وقبل أن يتبلور حبهما في بيروت، تتولّد بذور حبهما في «جنينة السبكي». غزوان أحبّ زين من النظرة الأولى، وهي انجذبت لوسامته وللغمازة الجميلة في ذقنه. صادفته في ذاك اليوم «المصيري»، إذ كانت خارجة لتوّها من عيادة الدكتور المناهلي منهكة القوى، فاتخذت من حديقة «السبكي» مكاناً قد تُعيد فيه لملمة جسدها المبعثر بعد فعل الإجهاض. أحبّ الفلسطيني الغريب هشاشة ذاك الجسد الأنثوي المتعب، إلاّ أنّ زين ظلّت تهرب منه، اعتقاداً منها بأنه الرجل الصحّ في التوقيت الخطأ، قبل أن تلتقيه مجدداً في بيروت لتعيش معه قصة حبّ «قدرية» لا مفرّ منها.

تُنقَل أحداث الرواية (202 صفحة) على لسان راوٍ عليم، تُقاطعه في كثير من الأحيان أصوات الشخصيات نفسها، لا سيما صوت البطلة، عبر خطاب مباشر منقول حرفياً بصيغة المتكلّم. وقد حُذف القوسان والنقطتان وفعل القول، واستُعيض عنها بخط عريض يُميّز كلام الشخصيات عن سرد الراوي.

تبدو البطلة منذ البداية، مسكونة بامرأة أخرى، لها صوت جهوري يطلع من داخلها مُسيطراً عليها بالكامل. إنه صوت كاتبة تُملي عليها كتابة متمردة لعلّها تٌحقق بذلك حلم الحرية. من هنا تصير الكتابة حركة متمّمة لثورة زين المبكرة، فتلحق بصوت تلك «المرأة الحاملة للقلم كبندقية». ومن ثمّ تلتحم بها إلى أن تصدر في دمشق مجموعتها القصصية الأولى، قبل أن تُطلّق مدينتها بعد الحكم عليها بالسجن غيابياً. فتنتقل الى بيروت، مدينة الثقافة والفكر آنذاك، حيث يلمع نجمها ككاتبة معروفة. تتداخل سيرة زين الخيّال بسيرة دمشق في خمسينات وستينات القرن الماضي. ومع اختلاف الظروف، إلاّ أنّ دمشق آنذاك كانت تمرّ أيضاً في فترة صعبة يصفها الراوي بالقول «إنّ ما يدور في دمشق اليوم يهدّ حيل الجبابرة الشوام القلقين على مصير بلدهم: هزيمة في فلسطين عام 1948، انقلابات عسكرية متتالية، وحدة فانفصال، انفصال آخر داخلي بين الناصرين والبعثيين...».

مثلما كان تمرّدها، في منتصف القرن العشرين، صفعة في وجه مجتمع شامي محافظ لا يؤمن بحريّة المرأة في تجاوز الحدود المرسومة لها سلفاً، كان تمرّد غادة السمان صفعة أخرى تلقّاها مجتمعها البرجوازي الذي لا يرضى للمرأة أن تكون عاملة ولا مطلقة. وقد تُشكّل رواية «يا دمشق وداعاً» صفعة جديدة توجهها الكاتبة إلى «برابرة» سورية الجدد ممّن يريدون للمرأة أن تعيش سجينة قمقم يحددون زواياه بقوائم ممنوعات تتكاثر يوماً بعد يوم تحت غطاء العُرف مرّة، والدين مرّات أخرى.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون ـ العدد 8048 الخميس 19 آذار (مارس) 2015 ـ 28 جمادي الأول 1436هـ
محمد جميح - كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»


مع غادة السمان !


جاء صوتها من باريس عبر الهاتف دافئاً طفولياً. تقول غادة السمان: سأهديك نسخة من كتابي الجديد «يا دمشق وداعاً»، وتواصل حديثها: أي الأماكن تحب في لندن؟ أقول مازحاً: الأماكن التي كنت تأتين إليها، والتي ذكرتها في كثير من أعمالك. قالت: لماذا تذهب إلى الأماكن التي كنت أذهب إليها؟ قلت من دون تردد: تذكرني بغادة السمان. ابتهجت كما تبتهج ياسمينة دمشقية. وقالت: أشكرك، سأرسل لك نسخة من كتابي قريباً.

وجاء الكتاب، وجاءت غادة السمان، ياسمينة مجرّحة في ثياب من الأريج. لغة مضرجة، موجعة، حادة، مشفرة، متمردة، باذخة. أسست غادة لها أسلوباً في الكتابة، جارحاً حد تفجر الدماء، ناعماً حد انبجاس الأريج. أسلوباً احتذاه وسار عليه الكثير في ما بعد. غادة التي وضعت روحها في حقيبة سفر، وعلقت حياتها على أجنحة الطائرات، ومضت مقاتلة عنيدة تقاتل على كل الجبهات، لكن قتالها، هو قتال الياسمين، عندما يحارب القبح باللون الجميل وفوح العبير، غادة «العاشقة المجنونة الخائبة»، التي انسلت ذات يوم من غرفة مغلقة، وغافلت الجميع لتهرب من «فرسان القبيلة»، وتلتحم بالمطلق العظيم، «الحرية، الحرية، الحرية»، كما تسميه.

انطلقت تنشد حريتها من دمشق إلى بيروت، إلى لندن وباريس ونيويورك وكل الدنيا، ورغم ذلك لا تزال في كتابها الأخير، روايتها الأخيرة «يا دمشق وداعاً»، تبحث عن هذه الحرية التي سلبت من المرأة العربية، والرجل العربي، على حد سواء. «القبيلة» ثيمة بارزة في أدب غادة، وتقاليد القبيلة هي انعكاس لتقاليد عبس وذبيان وبكر وتغلب، وجع باذخ في كتب السمان، وجع من القبيلة التي حولت دمشق إلى خيمة يحيط بها رجال مدججون بالحقد والكراهية، وجعلت سوريا صحراء مترامية الأطراف، تنوح فيها نساء عبس وذبيان، ويجول في أرجائها الموت. تحاول غادة السمان الخروج من غبار الخيول التي تدخل دائماً معارك خاسرة في هذه الأرض التي حولتها قبائلها إلى بادية مترامية الأطراف تمتد من ضفاف الماء إلى ضفاف الحريق. تلجأ المرأة للحب أحياناً، لكي تمارس حريتها، تعتنق الحب لتعيش حرة، غير أنها تكتشف أن الحب ربما كان الطريق الخطأ في سعيها نحو الحرية، الحب قيد آخر. الحرية التي خرجت غادة تنشدها ذات يوم، وانسلت من الغرفة، وذهبت تجري في «الميدان» في دمشق، ومنه إلى كل ميادين العالم، التي جابتها بحثاً عن الرجل الغائب، المعنى الغائب، الحب الغائب، الحرية المفقودة، المطلق الذي ينبئ أدب غادة بأنها تحاول الالتحام به، مع وجود دلائل في روايتها الأخيرة أنها لا زالت تبحث عنه، متسلحة بعزيمة فرسان نبلاء، لا فرسان قبيلتها الذين اختصروا كل معاني الشرف في زاوية ضيقة من جسد المرأة.

لا تستسلم غادة. تسقط وتنهض، وتواصل المشوار، بحثاً عن الحبيب الوحيد الذي أفصحت عنه مؤخراً، حبيب ينتهي اسمه بتاء تأنيث مربوطة، «الحرية، الحرية، الحرية». تقول: «الحب مسيرة رائعة، على حبل ممدود بين النجوم، وما من شبكة واقية تحته. وعلى المرء أن يرضى أو لا يرضى بتلك المغامرة. أنا وجدت الأمر يستحق العناء، خسرت، وسقطت، وأحاول الآن تصحيح غلطتي، فأنا بشر، ولن أدع أحداً يسلبني حقي في الحرية… وحقي في الخطأ أيضاً. فالحب مغامرة، وما من بوليصة تأمين ضد الفشل… وأنا فشلت. أنا مجروحة، ومخذولة، وأعترف بذلك، وأحاول تصحيح غلطتي». هذا أدب عظيم، قبل ان يكون اعترافاً موغلاً في خيبته.

ميزة الأدب العظيم، أن قارئه يشعر بأنه هو الذي كتبه، لأنه يطرح روح القارئ على البياض. الأدب الخالد هو الذي يكون فيه القارئ كاتباً، يحس بأنه يكتب نفسه في ما يقرأ. وهذه من مزايا غادة في كتاباتها الحارقة المتمردة المبهجة حد الألم.

غادة التي تخلص منها الكثير من أصدقائها «ولكن بلطف ورقة كحد الشفرة»، لا لشيء إلا لأنها رفضت «لعب دور الجارية الأديبة»، هذه الدمشقية التي تغترف من قاموس مرعب، والتي خرجت ذات يوم تنشد الحب، تنشد الحرية، تلتحم بالمطلقات، فسقطت، ونهضت، وانهزمت، وانتصرت، في قيم نسبية، لم تشف غليلها في الالتحام بالمطلقات الخالدة. غادة التي يلخصها هذا النص الدرامي المثير من كتابها «يا دمشق وداعًا»: «الأمواج الهائجة تلقي بي على قمة جبل… وأنا واقفة على شفير هاوية… أرى بوضوح أنني واقفة على حافة واد سحيق… وأقرر بصدق: أريد أن أموت بعدما فقدت الإنسان الوحيد الذي عرف دخيلة نفسي وأحبني.. أريد أن ينتهي كل شيء.. ويتوقف كل شيء.. أريد أن أموت.. أريد أن أقفز إلى الهاوية.. أن أموت.. أن أغادر ذلك كله.. أن أموت.. أقفز دونما تردد.. أهوي.. وقبل أن أصل إلى قاع الوادي واتحطم، أشعر بالندم.. بالندم الحقيقي العميق الجارح.. لا.. لا أريد أن أموت.. سأطير كي لا أقع.. سأحرك ذراعي كي يصير لي أجنحة.. لي أجنحة ويجب أن أجدها وأطير.. أطير حقاً، إنني أطير.. لا لا.. لا أريد أن أموت». غادة هنا تحكي عن نفسها، وإن أنكرت ذلك بقولها إن روايتها تخص شخصيات متخيلة، وإن وافقت شيئاً من الواقع، فلمجرد المصادفات.

قلت لها على الهاتف: إذا جئت لندن، فسنزور الأماكن التي زرتِها من قبل، وكتبت عنها في رواياتك، وأدب رحلاتك. قالت: أكيد. قال كريم العفنان صديقنا المشترك الجميل سأكون معكما. وقبل أن تأتي غادة لندن جاء كتابها وجبة دسمة من الألم العربي الذي رأيت فيه صنعاء تحترق في دمشق.
إلى لقاء صنعاء، إلى لقاء دمشق، إلى لقاء غادة السمان.

عن موقع جريدة القدس العربي

المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.



جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
السبت - 10 شهر رمضان 1436 هـ - 27 يونيو 2015 مـ
الصفحة : فضاءات
دمشق : هشام عدرة


غادة السمان تهدي روايتها الجديدة لمدينتها دمشق

اعتبرتها جزءًا ثانيًا من «الرواية المستحيلة»


أصدرت الكاتبة السورية غادة السمان المقيمة في فرنسا، مؤخرًا عملها الروائي الجديد، الذي تدور أحداثه في ستينات القرن الماضي، والذي حمل عنوان «وداعًا يا دمشق - فسيفساء التمرد» عن دار النشر التي تحمل اسمها في العاصمة اللبنانية بيروت. وجاء الكتاب في نحو مائتي صفحة من القطع الكبير. ونوّهت الكاتبة منذ البداية بأن هذه الرواية هي الجزء الثاني من «الرواية المستحيلة» التي صدر الجزء الأول بعنوان فرعي وهو «فسيفساء دمشقية»، كما أهدت السمان روايتها إلى مدينتها دمشق قائلة: «إلى مدينتي الأم دمشق... التي غادرتها ولم تُغادرني، يوم رحيلي، صرختْ في وجهي: (أمطري حيث شئت فخراجك عندي) وإلى الحبيب الوحيد الذي لم أخنه يومًا واسمه: الحرية.. الحرية.. الحرية..».

الرواية جاءت في ثمانية فصول، وهي: «إلقاء القبض على حياتي» أو«أنا صخرة في قاسيون»، حيث تركت السمان للقارئ أن يختار العنوان الذي يعجبه ويراه مناسبًا للفصل الأول - حبّي لدمشق يذلّني - مدينة «الهُص الهُص.. العيب العيب» - فَشِلَ زواجي ونَجَحَ طلاقي - من «زقاق الياسمين» إلى «زقاق الجن» - بيروت عاصمة الحرية، ولكن.. - «الرجل الصحْ» في «التوقيت الخطأْ»؟ أو محاولة غير صالحة للنشر - والفصل الثامن والأخير: يا وطني الحبيب لماذا تشردني؟ أفرغ الأسوار اللا مرئية لدمشق، على رؤوس أصابع دموعي - أي واحد من هذه العناوين يصلح وتركت الاختيار للقارئ أيضًا.

يتجول القارئ مع غادة السمان في روايتها الجديدة مع عوالم بطلتها التي عاشتها بدمشق. إنها تنتقل لبيروت ومن ثم تقرر الطيران والرحيل بعيدًا بعد أن يتوفى والدها في بيروت. إنها حكايات وقصص دمشقية دافئة تأخذنا معها السمان وهي تسردها من استيقاظها في الصباح لتنسل من السرير مرتدية لباسها على عجل وتحتسي القهوة التي لا يمكنها أن تبدأ يومها من دونها. تغادر البيت بسرعة قبل أن يستيقظ ويتبعها ويستجوبها؟!.. تصف نغمة شخيره الخافت، ولكنه لا يدري ماذا ستفعل.. وحدها (بومتها) الشهيرة تعرف!.

ترصد حميمية دمشق بكل مكوناتها ومفرداتها إذ «تمتزج رائحة خريف دمشق الحنون برائحة الأرغفة الحارة الصباحية.. الناس في دروبهم إلى أعمالهم، وأنا ذاهبة للتمدد في «فرني» الخاص!.

إنها تتمرد.. تتجول في شوارع دمشق وأزقتها حيث تتداخل أصوات الشارع والأصوات داخل رأسها، إنها تحب رجلاً تريد الزواج منه، وهكذا تقترف الخطيئة الأولى: «الزواج ممن أحب على الرغم من اعتراض أبي على ذلك، علي الزواج ممن تختاره القبيلة وتُناسبها مصاهرته.. إنها فقط البداية فعلي أن أواجه الأدهى، أن أقول لزوجي الليلة.. ليلة عيد ميلادي التي يستعد للاحتفال بها كما تقضي الأصول والتقاليد في أسرته البرجوازية.. علي أن أقول له: إن كل ما بيننا انتهى؟!.. إنه التمرد بفسيفسائه وموزاييكه الذي لا حدود لجنونه وفلسفته الزخرفية اللونية!».

وتخلل الرواية مفردات دمشقية تضج بالحنين: «ليس بوسع أحد ذاق ماء «نبع الفيجة» أن يمتلك مناعة ضد الحنين!.. - وعين الفيجة هو مصدر مياه الشرب لسكان دمشق ويقع في غوطتها الغربية بسلسلة سفوح جبال لبنان الشرقية قرب الزبداني - والتسكع في حارات دمشق كباب توما والصالحية والجسر الأبيض وغيرها وفي أسواقها الشهيرة كالحميدية. كل ذلك نقرأه في الرواية مترافقًا مع ألفاظ وأمثال شامية تصرّ السمان على تكرارها في أحاديث شخصيات الرواية، ومنها: نص نصيص وتعني عقلة الإصبع وتقال لمن عقله صغير، وهناك مثلاً علبة الغندرة ويقصد بها بالشامي صندوق الماكياج، الخ... كما يكثر في الرواية ذكر أكلات شامية تراثية مثل بسماشكات وحراق اصبعوا وستي زئبقي وغيرها.

ملاحظتان بسيطتان (على الهامش) لا بد من التوقف عندهما. ففي الصفحة 30 من الكتاب تقول: «يهبط الدكتور المناهلي من سيارته في ساحة المهاجرين تحت جبل قاسيون....»، وفي الهامش توضح السمان أن هذه الساحة كانت في الستينات من القرن العشرين خالية من المباني وهي تشرف على مدينة دمشق القديمة وكذلك الجديدة. وفي الواقع المنطقة تقع في سفوح جبل قاسيون وتأخذ تسمية «حي المهاجرين»، وهي منطقة قديمة تتفرع لحارات متعددة وفي نهايتها تقع الساحة المذكورة وتسمى «ساحة آخر الخط» وكانت في الستينات مكانًا للترامواي «وسيلة النقل الداخلي آنذاك وغابت بعد الستينات» في نهاية رحلته من مكان انطلاق في ساحة المرجة، ولذلك سميت ساحة آخر الخط والساحة موجودة كما هي حاليًا حيث تتجمع فيها وسائط النقل الحديثة كما أقيمت فيها مسطحات خضراء وما زالت خالية من الأبنية الحديثة. وتعود السمان لتذكرها في الصفحة 33 شارحة عنها بالهامش بشكل أوضح. كذلك في الصفحة 84 تتحدث السمان عن (فضيلة) التي تتوقف أمام محل بوظة بكداش الشهير في سوق الحميدية القديم وتعرفه بالهامش على أنه بائع بوظة شهير وتعود لذكره في الصفحة 153 من خلال شخصية (زين) و(جدتها) ولكن هذه المرة وفي الهامش تعرّفه على أنه (حانوت مشهور خاص بالمثلجات والحلوى في ذلك الزمان ولعله ما زال إلى اليوم في سوق الحميدية)، وهو بالفعل ما زال موجودًا كما هو واستقطب قبل الأحداث السياح وكبار الشخصيات التي زارت دمشق.
في الفصل السادس تأخذنا السمان إلى بيروت عاصمة الحرية، فنجول مع بطلتها (زين) الكاتبة التي يستقبلها ناشر كتابها الأول مع زوجته. ولكنها في الفصل الثامن والأخير تعود للحدود السورية اللبنانية مع نعش والدها الذي تحبه كثيرًا وتوفي في بيروت، وفي مونولوج مؤلم مع الذات، نقرأ: هل تعود لمنزلها في دمشق أم تودع والدها هنا في نقطة المصنع على الحدود تمر الأحداث كشريط من الذكريات الحزينة والسعيدة في دمشق كما تمر حاراتها وأزقتها ومعالمها.. ولكنها تقرر في النهاية أن تطير.. «قررت ألا أقفز إلى الهاوية ثانية، بل أن أكتشف أجنحتي لأطير.. لأطير..».

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)