نجيب محفوظ في “أعوامه” مقلّداً طه حسين في “أيامه”

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأحد 14-03-2021
المدن - ثقافة
أسامة فاروق


نجيب محفوظ في “أعوامه” مقلّداً طه حسين في “أيامه”


<article5799|cycle|docs=7046,7047,7048,7049>


في تقديمه لكتاب جمال الغيطاني “نجيب محفوظ يتذكر”، كتب محفوظ نفسه: “هذا الكتاب أغناني عن التفكير في كتابة سيرة ذاتية، لما يحويه من حقائق جوهرية وأساسية في مسيرة حياتي”. لكن الحقيقة أن محفوظ فكّر في كتابة سيرته بلْ كتب جزءاً منها بالفعل وعمره 18 عاماً! وتحدّث عنها مرات في أكثر من حوار صحافي، قال مثلاً لفؤاد دوارة في الحوار الذي أجراه معه لصالح مجلة “الكاتب” عام 1963 إنه حين قرأ “الأيام” لطه حسين، ألف كراسة أسماها “الأعوام”. روى فيها قصة حياته على طريقة طه حسين، وقال الأمر نفسه لرجاء النقاش ولباحثين وصحفيين آخرين، لكنه لم يستجب أبدا لإلحاح أي منهم للاطلاع على النص. قال إنه يحتاج لـ"نبش كثير"، ولما زاد السؤال خاصة بعد حصوله على نوبل للأداب، أغلق محفوظ هذا الباب وقال بعصبية أنه حرقها.. لكنه لم يفعل!
فبعد أكثر من 90 عاماً على كتابة النص، وبعد حوالى 33 عاما من حصول كاتبه على جائزة نوبل خرج النص إلى النور، وأصبح أخيراً متاحاً للقراءة، بفضل الكاتب والباحث محمد شعير، الذي اكتشف النص الكامل للسيرة ونشره في كتاب جديد بعنوان “أعوام نجيب محفوظ البدايات والنهايات”(*)، ويمكن القول بصدق إن ما فعله شعير بالنص من تحليل وتدقيق وتوثيق، لا يقلّ أهميه عن النص الفريد نفسه.

الطريف أن شعير لم يكن يبحث عن نص “الأعوام”، بل كان في الأصل يبحث عن رسالة الماجستير التي أعدّها محفوظ بعد تخرجه في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1934، تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، رحلة بحث تكشف أيضاً الكثير مما يدور في عالم المخطوطات والوثائق في عالمنا. اكتشف شعير أن سر تهرّب محفوظ من سؤال الباحثين عن نص “الأعوام”، لم يكن فقط لأنه يعتبرها مجرد تمرينات على الكتابة، لكن يعود في الأصل إلى رغبته في عدم تجدّد الحديث حول واقعة سرقة تعرض لها من أحد أقاربه. وكان قد حكى الأمر لرجاء النقاش “عندما ماتت والدتي، حدثت في بيتنا سرقة أهليه؛ حيث جاء أولاد أختي وأخذوا كثيراً من الأوراق والأشياء الشخصية، ومن بينها صور خاصة بي”، في البحث اكتشف شعير أن المسروقات ظلّت سنين داخل مصر، ولكن بعد حصول محفوظ على نوبل، خرجتْ إلى إحدى الدول العربية، وبعد رحيله خرج جزء آخر إلى نيويورك عبر فنانة تشكيلية أميركية كانت تقيم في القاهرة، وكانت تجمع المخطوطات لصالح إحدى مكتبات الكتب النادرة، وقد عرضت المكتبة بالفعل مجموعة من تلك الوثائق في أحد المزادات بلندن عام 2011، لكن ورثة محفوظ تمكنوا من إيقافه.

تواصل شعير مع أطراف مزاد لندن بغرض الحصول على رسالة الماجيستر، وبعد فترة من الاتصالات المتبادلة، وجد ذات صباح على بريده الإلكتروني “كنزاً حقيقياً يخص صاحب نوبل”، وجد ما يقرب من 500 صفحة، لمْ تكن الرسالة من بينها لكنها ضمت مخطوطات لأعمال منشورة، ولكن أثمن من كل المخطوطات التي نشرت، كان هناك ما لم ينشر من قبل “رواية كاملة تبدو وكأنها بروفة أولى لثلاثية محفوظ، أوراق رسمية، كراسات يسجل فيها الكثير من أفكاره حول الفلسفة الإسلامية مع مختارات من بعض كتبها الشهيرة، وقصص قصيرة من البدايات”. بالطبع كانت المفاجأة الكبرى أو “جوهرة الكنز” كما أسماها شعير مخطوط كراسة “الأعوام”، التي أشار إليها محفوظ من قبل والتي ادّعى فقدها، ثمّ حرقها بعد ذلك.

لا يكتفي شعير بتقديم النص، ولا بتحليل ما جاء فيه، لكنه يعيد رسم السياق الذى عاشه محفوظ وقت كتابة النص، والمؤثرات التي دعته لكتابة ما كتبه، ثم تأثير هذا كله على كل كتاباته التالية وعلى حياته بشكل عام. باختصار يعيد رسم سيرة محفوظ من خلال نصه التأسيسي الأول الذي يمكن من خلاله فهم مصادر إلهامه ومنابع أفكاره وخريطة أعماله. فوفق القراءة التحليلية الدقيقة التي يقدّمها الكتاب، يصبح نص “الأعوام” كمفتاح الخرائط الذي لا يمكن فهمها بدونه.

يبدأ الكتاب من عام ولادة محفوظ 1911، معتبراً أنه كان بمثابة استراحة طويلة بين ثورتين “ماضية لم تكتب وقائعها بأمانة، وقادمة لم تظهر تباشيرها بعد” يقول المؤلف إن أحمد عرابي زعيم الثورة الأولى الذي رحل في ذلك العام، كان محل نقد واتهام من غالبية الصحف والمجلات، بينما زعيم الثورة الثانية المنتظرة سعد زغلول كان لايزال ناظراً للمعارف، ولم تكن تلوح في الأفق بعد مقدمات نقلته الهائلة إلى صدارة المعارضة، التي كان يحوزها بجدارة محمد فريد. يحلل اتجاهات المصريين في تلك الفترة حيث كانت تتنازعهم اتجاهات شتى وولاءات متعارضة تجاه مختلف القضايا، منها الاحتلال البريطاني وسلطة الخديو والحكومة والدولة العثمانية التي كانت مصر لا تزال جزءاً منها، يتابع أيضاً موقف المصريين من قضايا الحرية وحرية الصحافة والأدب والفكر. يقدم الكتاب من خلال جرائد ومجلات تلك الفترة تحليلاً دقيقاً عن الحياة في تلك الفترة، التي كانت تعيشها مصر في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، ليصل إلى أن “الحداثة كانت تهاجم التقاليد القديمة، والانفتاح على العالم يجذب العاصمة نحو نموذج الغرب المتقدّم، والمناخ الليبرالي وتعدديه الأحزاب والدستور الذي ولد بعد ذلك بقليل لم يكونوا نبتاً شيطانياً من الفراغ، لكنها كانت نتائج طبيعية لمقدمات التفاعل مع الآخر والرغبة في التحديث”. في هذا المناخ المتغيّر ولد نجيب محفوظ “في لحظة يتحوّل فيها المصريون برفق نحو مظاهر الحداثة، ويبحث فيها المجتمع عن حريته محاولاّ الإجابة عن أسئلة المصير الكبرى، لحظة كانتْ البلاد تخرج فيها من ثورة مجهضة إلى ثورة مأمولة تنشد الاستقلال والحرية والعدالة”.

بعد رسم الخطوط العريضة للعام الذي ولد فيه محفوظ، يقفز قفزة كبيرة إلى الأمام لنرى أيضاً كيف كان السياق الذي كتب فيه طه حسين نصه المؤسس “الأيام”، يقول إن العميد أراد من خلاله أن يختبئ في براءة الطفولة من تعقيدات معارك النخبة وحساباتها المعقدة، وأنه أراد أن يذكر نفسه بأسطورته الخاصة، وأن يكون كتابه رسالة ضد قوى القهر والكبت والحرمان، لكنه لم يكن يتوقع أن يصير هذا النص نصاً مؤسساً في الأدب العربي، وأنه يفتح به آفاقا لم تكن معروفه قبله، وكأن مئات ممن يمارسون الكتابة كانوا في انتظار هذا النص المفارق، وكان بالطبع من بين المنتظرين طالب في المدرسة الثانوية اسمه نجيب محفوظ، وجد في “الأيام” غايته ومبتغاه.

فصول تمهيدية وتقديم كان لا بدّ منه قبل نشر النشر الأصلي، لنفهم كيف تمكن ابن الثامنة عشرة من أن يكتب هذا النص ولماذا يحاكي نص طه حسين بالتحديد، ويزيد المؤلف بالتأكيد على أن كتابة السيرة الذاتية كانت إحدى وسائل الطبقة الوسطى للتعبير عن الروح الجديدة التي بثتها ثورة 1919 في المجتمع، وتمثيلا لرحلة خروجها إلى الحداثة. يستعيد محفوظ في “الأعوام” طفولته في الجمالية، وعلاقته بأمه وأبيه وأخوته وعشقه الكبير للحكايات “كانت أفيونته” كما يقول، نص استثنائي يقول شعير، لأنها المرة الأولى والأخيرة تقريباً التي يكتب فيها محفوظ نصاً صريحاً عن حياته، كسيرة ذاتية صريحة بلا أقنعة ولا حيل فنية، والأهم هو ما سيثبته بعد ذلك في كتابه بالتفصيل حيث يكشف كيف يوزع محفوظ بعضاً من حكايات “الأعوام” على كثير من أعماله الروائية. بل في كل عمل من أعمال محفوظ تقريباً، سنجد ملمحاً من “الأعوام”؛ تتطابق حكايات الأعوام مع “حكايات حارتنا” مثلاً، وسنرى التطابق بينه هو نفسه وبين الطفل كمال عبد الجواد في الثلاثية، وفي المشهد نفسه الذي يتابع فيه الجنود الإنكليز من شرفة بيته يتكرر في “الأعوام” بالنص تقريباً، نجد أيضا منبع حكايات الجن والعفاريت التي شكلت الكثير من أعماله، ونعرف كيف أعاد تركيب شخصية السيد أحمد عبد الجواد من نماذج كثيرة عرفها عن قرب في حياته، وأمينة التي يقول شعير إنها تتقاطع إلى حد كبير مع صورة أمه وإن بدت الأخيرة أكثر قوة... بشكل عام يؤكد المؤلف على أن العائلة وأفرادها كانت من المصادر التي “ينحت” منها محفوظ أبطال رواياته وشخصياتها، وبالطبع لا يسرد حيوات هذه الشخصيات كما كانوا في الواقع وإنما كما تراءوا له وشعر بهم.

من كنز الوثائق يحلّل شعير أيضاً النصوص الأخيرة التي كتبها محفوظ، ما أضافه إليها وما حذفه منها، وكيف وصلتْ بنسختها النهائية إلى جمهور القراء، رابطاً التعديلات التي أجراها بمسيرته في الكتابة والحياة وبتطور تعامله مع اللغة... والأهم ما وراء ذلك من حكمة وفلسفة تطورت مع توالي الأعوام ودنو الأجل، ليخلص إلى أنه “مثلما كان صبي (الأعوام) حاملاً لصوت نجيب محفوظ طفلاً، وكمال عبد الجواد ممثلاً لأزمته الوجودية في مرحلة الصبا والشباب، فإن عبد ربه التائه يحمل صوت نجيب محفوظ في زمن آخر، في مرحلته المتأخرة”.. كقناع أخير توارى خلفه نجيب محفوظ لتقديم وصيته الأخيرة.

مع المجهود الكبير الذى قام به محمد شعير في اكتشاف نص “الأعوام” وتدقيقه، ومع الدراسة المعمقة التي قام بها في النص، ومتابعة أثره في كل أعمال محفوظ، والباب الذي يفتحه أمام إعادة قراءة أعمال محفوظ وسيرته، سيكون من الظلم حصر الكتاب في عالم الصحافة فقط أو البحث فقط أو حتى النقد فقط، رغم الإسهام الكبير الذى قدمه في كل منها، فما قدمه شعير في هذا الكتاب وما قدمه من قبل في كتابة السابق “أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة”، هو نقلة نوعية في الدراسات الأدبية العربية، كتابة لا تقف عند حدود النص بل تتجاوزه إلى العوامل التاريخية المؤثرة في لحظة إنتاجه، وهو ما بينه إدوارد سعيد وأكدت عليه رضوى عاشور من قبل في سياق الحديث عن “النقد ما بعد الكولونيالي” و"التاريخيون الجدد"، حيث لم يعد النص الأدبي إنتاجاً فردياً أو مستقلاً بل ظاهرة ثقافية تاريخية تجسد واقع الصراع الاجتماعي وشروطه التاريخية.

(*)"أعوام نجيب محفوظ البدايات والنهايات" كتبه الكاتب الصحافي والباحث محمد شعير وصدر عن دار الشروق.

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


مقالات ذات صلة :

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)