جريدة المدن الألكترونيّة
السبت 11-11-2017
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي
صباح وفيروز وما بينهما
<article4358|cycle|docs=5118,5119,5120,5121,5122>
دخلت صباح عالم السينما باكراً، العام 1944، يوم تعاقدت معها المنتجة آسيا لتلعب دور البطولة في فيلم “القلب له واحد”. نجح الفيلم، وتبعته بسرعة سلسلة من الأفلام أدّت فيها صباح مجموعة كبيرة من الأغاني الجميلة، لكبار الملحنين العرب، لكن شهرتها كممثلة طغت على حضورها الغنائي، ولم يُعترف بها كمغنية إلا بعد سنين طويلة من العمل، كما صرّحت مراراً في خريف عمرها.
في مقالة من توقيع “موسيقي”، تعود إلى العام 1948، قدّمت مجلة “الإذاعة” اللبنانية تعريفاً بكوكبة من المغنيات اللبنانيات، وقالت في وصف صباح: “ممثلة أكثر منها مطربة. صوتها خدمها جداً في الشاشة، فقد زيّن أدوارها، وهي تُفرح نفسك بتمثيلها كما تُفرحها بصوتها. فيه عذوبة، لكنه من غير قوة. فيه براعة في الاقتباس، لكن من غير ابداع. فيه طرب، لكنه من غير قصيد. فيه، أو جلّ ما فيه، لونه اللبناني الجبلي الذي يتلاءم كل الملاءمة مع وجهها وحركاتها وصوتها العادي. صباح نجمة سينمائية زاد الصوت في مواهبها موهبة، لكنه ليس أساساً في قيمتها”. بعد عامين، كتبت مجلة “الكواكب” في آذار 1950: “كان ظهور المطربة صباح على الشاشة حدثاً جديداً أثار عشاق الأفلام الغنائية المصرية، فقد كانت افلامنا مفتقرة إلى هذا اللون من الغناء الذي اختصت به صباح، وهو اللون المرح الخفيف الذي اشتهرت به ديانا دربن، ومثيلاتها من نجمات الغناء الأميركيات. فلا عجب إذا لقيت صباح ما لقيت من نجاح، عززته شخصيتها المرحة، فتضافرت لها أسباب المجد وهي في حداثتها. وهي الآن زوجة وأم، لكنها ما تزال تحتفظ بشخصيتها التي اشتهرت بها في أفلامها”. وفي تلك الحقبة، كتب سليم اللوزي عن مجموعة من الأصوات في مجلّة “الإذاعة”، وتوقّف أمام تجربة صباح، فقال: “طفلة في ثياب امرأة، وصولها أقرب إلى الجبل منه إلى المدينة، ولو أنها بقيت محافظة على شخصيتها الغنائية الأولى عندما كان اسمها الشحرورة، لبقيت على القمة، لكنها أرادت أو أُريد لها أن تغني الألوان العاطفية الحزينة وهي ألوان تحتاج إلى حنجرة قوية صلبة، وبذلك أصبحت كالتي رقصت على نص السلم. وهذا الرأي لا يشمل بالطبع شخصيتها التمثيلية، فصباح الممثلة خير من وجوه كثيرة فُرضت على الشاشة البيضاء فرضاً بلا رحمة ولا شفقة بالجمهور المسكين”.
من المفارقات الغريبة، أن الإذاعات لم تعترف بصباح في النصف الثاني من الأربعينات، ورأت فيها مغنية سينمائية خفيفة فحسب، وعند مراجعة جداول برامج الإذاعات في المجلات المتخصصة، يتّضح أن هذا “التغيبب” استمر في بداية الخمسينات، إذ اكتفت الإذاعة اللبنانية باستعادة بث أغنية “ربيع لبنان” التي غنتها الشحرورة في فيلم “سيبوني أغني”، وهي من تلحين فريد غصن. خرجت صباح من دائرة “المغنية الخفيفة”، بعد فترة وجيزة، حين غنّت أمام الجمهور، فاتضّح انها مغنية من الطراز الرفيع، وفتحت الإذاعات أبوابها أمامها بعدما كانت قد أغلقته لسنوات عديدة. أشار محمد سلمان إلى هذا “التحوّل” في العام 1952، وكتب في مجلة “الإذاعة”: “كان رأيي في النجمة اللامعة صباح انها مطربة خفيفة تؤدّي الأغاني السريعة في السينما، ولم أكن قد سمعتها بعد على المسرح، وجاء هذا الصيف وجمعنا العمل في كازينو طانيوس، فإذا بصباح حيويّة متدفّقة تملأ المسرح والصالة، ورشاقة تسيطر على الجمهور وتسلبه مشاعره. ومن أهم مزايا صباح انها لا تشعر بالرهبة عندما تواجه الجمهور بل تقف أمامه ببساطة تامة، وتأتي بأصعب الحركات الغنائية من دون أن تفارق الابتسامة الناعمة وجهها الجميل أو تغيب النكتة الطريفة عن لسانها. وعندي أن النجمة المحبوبة لو اهتمت بالمسرح وأعطته شيئاً من عنايتها لكسبت منه أضعاف ما تكسبه من السينما”.
رغم هذا التحوّل، ظل اسم صباح مستبعداً من الاستفتاءات التي دأبت المجلات الفنية على إعدادها منذ نهاية الأربعينات، وحين أجرت مجلة “الموعد” استفتاء العام 1953، حصدت سعاد محمد لقب “المطربة الأولى في سوريا ولبنان”، وحلّت في المرتبة الثانية فيروز، وتبعتها في الثالثة نجاح سلام، ثم ماري جبران، فتاة دمشق، أوديت كعدو، زكية حمدان، نهوند، ونازك. مثلت سعاد محمد في تلك الفترة “الغناء العربي الأصيل”، ومثّلت فيروز “الغناء المتأورب” الحديث، واستمرّت المنافسة بينهما في الاستفتاءات المتتالية. والغريب أن صباح بقيت خارج هذه الحلقة، رغم النجاح الهائل الذي حققته. نضج صوت شحرورة الوادي، ولمع في سلسلة متواصلة من الأفلام المصرية، كما لمع لبنانياً في مجموعة أغانٍ سجلتها لحساب شركة “صوت الشرق”، أولها “هويدلك”، “ليّا وليّا”، و"حبّيب متلنا"، و"يا ويل القلب" من تلحين نقولا المنى، و"مين قلك حب" و"لمين بدي اعطي قلبي" من تلحين فيلمون وهبي. باتت صباح مع هذه الأغاني، مغنية من الطراز الأول تمتاز بـ"حنجرة قوية صلبة" قادرة على تأدية أصعب المواويل والأغاني البلدية، وتصدرت أسطواناتها المبيعات، غير أنها لم تحظ بلقب “مطربة سوريا ولبنان الأولى” الذي حملته تباعاً سهام رفقي، ثم سعاد محمد، ثم نجاح سلام، قبل أن تحمله فيروز بشكل ثابت بعد استفتاء أجرته مجلة “الشعلة” العام 1956.
تابعت صباح مسيرتها في النصف الثاني من الخمسينات، منتقلة من نجاح إلى نجاح. كما في السابق، غنت في أفلامها المصرية من ألحان محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش ومحمد فوزي ومحمود الشريف وسيد مكاوي، وانتقلت إلى جيل جديد من الملحّنين، فغنّت من ألحان منير مراد ومحمد الموجي وكمال الطويل، كما قدّمت في هذه الأفلام أغاني لبنانية حصد بعضها نجاحاً كبيراً في سائر أنحاء العالم العربي. إلى جانب عملها المتواصل في السينما، أحيت صباح بشكل متواصل سلسلة من الحفلات في لبنان ومصر والعراق، وكانت لها جولة في أوروبا وأميركا في العام 1956. وتعاونت مع شعراء الإذاعة اللبنانية وملحنيها، وقدّمت سلسلة طويلة من الأغاني، منها ما ضاع أثره، ومنها ما حُفظ على أسطوانات.
تدريجياً، خلعت الشحرورة ثوب السندريلا الذي لازمها في النصف الثاني من الأربعينات، وتحولت إلى أنثى فاتنة تفيض أنوثة، وتابعت نشاطها بين مصر ولبنان على المنوال نفسه في السنوات الأخيرة من الخمسينات. غنّت للثورة في مصر الناصرية، ثم غنّت للوحدة من ألحان فريد الأطرش “حموي يا مشمش بلدي يا مشمش”، و"من الموسكي لسوق الحمدية". كما غنّت من ألحان عبد الوهاب أهزوجة “سو اسوا أدي مصر وسوريا”. مثّلت لبنان في حفلات “أضواء المدينة” في زمن الجمهورية العربية المتحدة، وكانت لها المساهمة الكبرى في نقل الغناء اللبناني إلى خارج دائرة المشرق العربي من خلال هذه الحفلات.
محلياً، تكرر ظهور الشحرورة على المسرح في لبنان، وبلغ القمة في بعلبك العام 1960 حيث اجتمعت مع وديع الصافي في “موسم العز”، وكانت فيروز قد سبقتها في الظهور على أدراج بعلبك في أولى “الليالي اللبنانية” عامي 1957 و1959. بعد “موسم العز”، عادت فيروز إلى بعلبك في “البعلبكية” العام 1961، وقدّمت في السنة التالية “جسر القمر”. عادت الشحرورة إلى بعلبك في “الشلال” العام 1963، وتكرر حضورها في “مدينة الشمس” حيث قدمت “أرضنا إلى الأبد” في 1964، ثم “دواليب الهوا” في 1965. استقرت صباح في لبنان، وانقطعت عن زيارة القاهرة بسبب قضية تتعلق بالضرائب التي تطالبها بها الحكومة المصرية كما تشهد الصحافة، وأدت دور البطولة في سلسلة طويلة من الأفلام اللبنانية المحلية. في العام 1964، أجرت مجلة “الشبكة” استفتاءً جديداً حول “أفضل فنان في لبنان”، وحصدت فيروز وصباح معاً لقب “أفضل مغنية”، وجرى لقاء الفائزتين بهذا اللقب في الاحتفال الذي أقيم بهذه المناسبة. تجدّد هذا اللقاء بشكل آخر على خشبة “مسرح بيروت” في 1969، حيث قدّم خمسة من الفنانين عرضاً مسرحياً يقوم أساساً على العمل الجماعي، وهؤلاء الخمسة هم روجيه عساف، نضال الأشقر، ألين تابت، جان ماري مشاقة، وميشال عساف. حملت هذه المسرحية عنوان “طبعة خاصة”، وحوت مجموعة اسكتشات حمل كل منها عنواناً شبيهاً بعناوين زوايا الصحف اليومية. في مشهد زاوية “الفن”، لعبت نضال الأشقر دور صباح، ولعبت ألين تابت دور فيروز. ظهرت نضال بالميني جوب، مع شعر منسدل، وقلّدت صباح بـ"الحركات الزائدة عن الحد الطبيعي، والحماس الذي يبلغ حد العصبية". في المقابل، ظهرت ألين تابت بثوب ماكسي، وقلّدت فيروز بـ"الرنة الهادئة، القريبة من السكون".
تناول هذا العرض “مهرجانات بعلبك”، وفيه استعادت نضال الأشقر أغنية صباح “قلعة كبيرة وقلبها كبير”، واستعادت ألين تابت أغنية فيروز “بعلبك أنا شمعة على دراجك”، ودار السجال: أيهما أفضل؟ فيروز أفضل من صباح؟ أم صباح أفضل من فيروز؟ أم أنهما متعادلتان في الأفضلية؟ دخل المعجبون بالفنانتين في هذا النقاش الذي تحوّل سريعاً إلى خناقة حامية، واتّضح ان لكل فنانة جمهورها الذي يتعصّب لها. يعكس هذا العرض “المنافسة” الخفية التي دارت بين نجمتي مهرجانات بعلبك، وقد استمرّت هذه المنافسة إلى أن توقفت “الليالي اللبنانية” العام 1974 إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. في الخلاصة، حضرت فيروز في ثمانية من عروض هذه الليالي البعلبكية، وحضرت صباح كذلك في ثمانية عروض أخرى، وتعادلت النجمتان في هذا الصراع الذي لما زال محتدماً بين جمهوريهما اليوم، تماماً كما احتدم في مسرحية “طبعة خاصة” العام 1969.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.