قراءات - Comptes rendus de lecture

مصر التي في خاطري، دلال البزري (لبنان)، رواية Masr Allaty Fee Khatiry, Dalal Al-Bizri (Liban), Roman

, بقلم محمد بكري

جريدة الحياة

الأثنين 27 حزيران/يونيو
الحياة - بيروت - رشا الأطرش

دلال البزري [1] تطرح أسئلة البداهة الأصعب

دلال البزري كاتبة وباحثة لبنانية

إنها الكتابة باعتبارها الرؤية، التحديق اليومي، الإنصات الذي يلي السَّمع، بحواس إضافية، قد يكون القلب بينها، والنقد بالطبع. انها المخيلة إذ تستعير من السينما ومن تجارب واقعية، بل من حسّ دعابة مُطعّم بأكثر من ثقافة. يفيض كتاب دلال البزري الأخير «مصر التي في خاطري» (دار الساقي) بذلك كله وأكثر، غير أن قراءته المتمهلة تغذّي خاطرتين أساسيتين، مع كل نقلة رشيقة من فصل إلى آخر، من «مصر الصوَر» إلى «النقاب والحصانة»، أو من «النساء والرجال: تحرّش لا حب»، إلى «المثقفون وجهاء بوهيميون».

ترتسم الخاطرة الأولى انتروبولوجياً، إذ يذكّر الكتاب بمقاربة علماء إناسة يدرسون قبيلة ما بالمعايشة، محاولين الاندماج في يوميات مجتمع لا يدّعون معرفته، اللهم في ما خلا ما جمعوه بالقراءة والتواتر. كأن البزري عايشت مصر هكذا عقداً من الزمن، تاركة لنفسها أحياناً أن تقع في فتنة البلد وناسه، كما لم تنكر عليها لحظات غضب أو يأس أو حتى انزواء.

في بدايات كتابها، تحكي البزري كيف أنها، طفلةً في عائلة لبنانية تدير مطعماً في المغرب، لطالما افتتنت بمصر من قبل أن تزورها أو تقيم فيها. وزادتها حباً زيارة الفريق الرياضي المصري للمصارعة إلى مطعم العائلة في الدار البيضاء: «كانوا رجالاً اقوياء، سعداء، وجذابين، تنضح منهم الثقة بالنفس وبالمستقبل، وجميعهم وسيمون يشبهون صلاح ذو الفقار». وطبعاً، وَسَم سطوع نجم جمال عبد الناصر مراهقة الكاتبة وبعض شبابها، شأنها في ذلك شأن جيل أو أكثر. غير أنها، حينما استقرت في مصر بين العامين 1999 و2009، تعرضت إلى «صدمة حضارية سلبية»، كما تقول، صدمة معكوسة من أن هذه البلاد التي كانت على لائحة الهجرة بالنسبة إليها، هي بلاد مهرولة نحو التراجع، نابذة للنساء وأصحاب الديانات الأخرى والغرباء: «غريبة بقيت في مصر، غربة لم أتوقعها، لم أقرأ عنها، غربة كأنها آخر مطاف الغربة، وقعها مثل فكرة توسّع حدود الكون، لا نهاية لها ولا شفاء منها».

ربما بسبب هذه «البرّانية» بالذات، تمكّنت البزري من طرح الأسئلة الأوّلية الأصعب. «غربتها» الطويلة في مجتمع انصهرت فيه وتورّطت في حبّه، بعدما احتكّت بمختلف فئاته، حفظت لها عيناً لا تسلّم بما تراه، عين متآلفة كفاية مع «بورتريه» القاهرة لتكون قريبة منها، بل غالباً مشارِكة في يومياتها بفاعلية لا افتعال فيها. لكنها أيضاً عين مستجدة كفاية لتتساءل في شأن تلك المرأة المنقّبة التي انصاعت لها النساء بعد صلاة الجمعة في جامعة الأزهر، يومَ التظاهرة لدعم فلسطين: ما هي ملامح وجهها؟ هل هي سلفية؟ إخوانية؟ من أي حي أتت؟ أتصاب عضلات وجهها وملامحه، تحت النقاب، بكسل فلا تعود تتحرك أو تعبّر؟ أتنشط عيناها فتختزل «كلام» وجهها؟

شاهدت البزري، و«جرّبت» بلا وجل، ملقية بالآراء والأحكام الجاهزة في سلّة أبقتها قريبة من متناولها، لأنها لا بد من أن تعود إليها فتقارن المعايشة بالمفاهيم، الأيديولوجيا بالحياة اليومية. لا بد من أن تعود إلى الأنا والآخر وما بينهما. هكذا، تخبر كيف ارتدت النقاب ذات ليلة ونزلت إلى الشارع برفقة صديقة محجبة لتشعر أنها... «دبّابة»! فالشعور بالحصانة، لا الثأر، هو ما داخَلَها فيما مشت منقّبة في شارع طلعت حرب-ميدان المتحرشين المفضل، مستلذةً عدمَ الاستباحة، بالنظر أو اللسان، أو حتى اللمس. غير أنها تعاود التفكير في النقاب كـ «موضة الرد» على العولمة والغرب، بالهوية الصارخة، فيما النقاب في رأيها «أنتي-موضة»، استئناف لما سبقه، أي الحجاب، وانقلاب على الحجاب أيضاً بما يؤهله لأن يكون، للمفارقة، استئنافاً للعطر الباريسي وسواه من رموز الموضة المتعولمة. تفكر وتكتب كيف أن هذه «المواجهة» تتم على جسد المرأة دون الرجل.

هكذا، ولأنها لم تسلّم بصداقاتها في مصر، ولم تحصرها في أشباهها من المثقفين أو الكتّاب أو حتى النساء الليبراليات المتعلمات العاملات، فإنها، عن سبق إصرار وانفتاح، والأهم عن فضول جميل، سمحت لنفسها بالملاحظة والاقتراب من مروحة بشرية مصرية ملونة، فخرج كتابها قوس قزح إنسانياً يحفظ، في الوقت نفسه، فرصة القارئ في رأي خاص.

وإذا كانت الخاطرة الأولى عن الكتاب أنتروبولوجية، فإن الثانية تذهب إلى عالم مختلف كلياً، عالم الأدب. فعلى رغم أن البزري لم تكتب رواية، ولا حتى نصوصاً بهذا المعنى، لكنها تسرد، بين لحظة تأملية وأخرى صنوها، المشاهدة. تروي، بين فكرة تستلّها من علم الاجتماع وأخرى تستعيرها من السينما المصرية التي «تنقل الواقع من دون أن تكون واقعية (...) تغازل الواقع (...) كأن هناك اتفاقاً ضمنياً بين المخرج والجمهور بأن ما يعرضه عليه هو الحياة السينمائية التي يخوض بها في يومياته، بصفته يقوم بتمثيل حياته»، كما تكتب.

وتحضر، ههنا، الروائية الإنكليزية جاين أوستن، لاسيما كتابها «الكبرياء والتحامل» على نحو خاص، حيث يتجلّى أسلوبها في بث رونق حيّ في التفاصيل التي تحيكها نسيجاً اجتماعياً ومشهدية كاملة للسردية الأساس: موضة عمرها قرنان، صنوف الأشغال اليدوية والأطعمة وآداب حفلات الشاي والسهرات. ومثلما تشرح جاين أوستن القُطَب المختلفة التي قد تبرع بطلتها في تطريزها، تفتح دلال البزري خزائن بطلاتها المصريات، مفنّدة أنواع الحجاب الرائج في مصر، من «السبانش» إلى العراقي و«السبور» والجلباب، ولا تنسى إشكاليات الأجساد والأذهان تحت كل ستر. فهذه صديقة تنتمي حركة جسدها إلى ماضيها اليساري، قبل أن يستقرّ القماش على رأسها على كبر. وتلك يرتاح جسمها إلى تاريخ احتجابه كتحصيل حاصل منذ البلوغ.

وقد تذهب البزري إلى توثيق على طريقتها الخاصة، من ضمن مشروعها الاستكشافي المصري. تشحذ أدواتها لهذه المهمة، معيدةً التفكير في التعريفات، راذلةً البداهة. فمتى، مثلاً، يصبح تودّد الرجل للمرأة تحرشاً؟ إذ ثمة تشابه كبير في ميكانيزمات السلوكين. وتوصلت البزري أخيراً إلى أن التحرّش «لا يولّد لقاء، إنه اقتراب وليس تقرباً، وليس تعبيراً وجودياً عن التوق إلى الجنس الآخر. التحرش، ويا للمفارقة، مرافق لحالة أخرى، هي الوحشة القائمة بين الجنسين».

تلوّن دلال البزري في خواطرنا مِصرَها، تاركة العنان لقصص مترو الأنفاق... لاختلافات وعود الحب على وجوه العشاق، المتنزهين على ضفاف النيل، عن «الكود الغرامي» في سلسلة المقاهي المتعولمة، وعن مَرتَعي الجيل القديم في «مقهي غريون» أو «اليوناني»... لأثر المرايا بين السلطة والمجتمع... لفكفكة ترسانة لغوية تدجج العبارات والمحادثات في مصر وتربطها بـ «الحل»، أكان الإسلام أم العلمانية أم الديموقراطية، لأن «شيئاً ما» هو دائماً الحل.

«مصر التي في خاطري» بدأ إنجازه قبل إنجاز الثورة المصرية. وقد يصح القول بأنه من الكتب المفصلية لـ «العاديات»، على الحدود بين تاريخين، إنه انطباع أخير قبل البدء من جديد. ولعله، بهذا المعنى، محطة قد يرغب المرء في معاودة زيارتها بينما تستقيم الثورة دولة.

عن جريدة الحياة

يقدم موقع دارالحياة.كوم، إضافة إلى المحتوى الخاص به الذي ينشر على مدار الساعة، محتوى المطبوعات التي تنتجها« دار الحياة »، بنسخها الإلكترونية، وهي : الصحيفة اليومية « الحياة » الطبعة الدولية على العنوانين الأول أو الثاني، والحياة السعودية الطبعة السعودية، والمجلة الأسبوعية لها. ويضم دارالحياة.كوم أيضاً حاضنة للخدمات الرقمية على العنوان.

دارالحياة.كوم محطة تزود الزوار بالمستجدات والتقارير والتحليلات وبمواد أدبية، من صحافيين ومراسلين من الحياة، ومتعاونين آخرين. ويسعى إلى تأمين التواصل بين القراء وكتاب المطبوعات. كما يؤدي دور الواجهة التي تروج لمحتوى المواقع الثلاثة الأخرى. كذلك، يرعى دارالحياة.كوم مشاريع صحافية مستقلة ويستضيفها.


من مقالات دلال البزري :

السيرة و التاريخ... مخيلتان متلازمتان متكاملتان
الأوان، الخميس 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2007

هذه أفكار حول كتابة التاريخ والسيرة الذاتية :

التاريخ و السيرة يُشبهان التراجيديا الكلاسيكية. مثلها يتأسّسان على وحدة الزمان والمكان والفعل. ومثلها يتوقان الى صياغة معنى اجتماع هذه الثلاثة: معنى الفعل المحدّد الذي وقع في زمان ومكان محدّدَين. فلا الفعل له معنى خارج أي زمان و مكان، إلا المعنى الفنتازي، و هذا ليس مضمار التفكير في هذا المجال… ولا المكان والزمان يستاهلان التأريخ من دون فعل داخل إطارهما؛ فعل صالح أوطالح… لا ضَير. المهم أن يكون هناك ما يُروى، أكان من زاوية المؤرّخ العالِم، أو من زاوية صاحب سيرة ذاتية مروية بلسان صاحبها،أو بواسطة باحث ميداني. عند هذا الحدّ يجتمع التاريخ بالسيرة الذاتية،ثم يختلفان بعد ذلك.

الزمن أولا: صحيح أن زمن المؤرخ يلتقي بزمن صاحب السيرة، سواء عاشه واقعيا أو كتمرين للخيال عندما يؤرّخ لحقبة ماضية لم يعرفها في حياته. فالاثنان يتقاسمان “روح” العصر وأحواله وأحداثه وذهنيته ومعاييره؛ وإن لم يكن المؤرخ عائشا في العصر الذي يؤرخ له، فعليه على الأقل الأخذ به وبأحواله، وإلا وقع في التفويت (anachronism)؛ أي أسقط زمنه المعيش شخصيا على الزمن الذي يؤرّخ له.

لكن المؤرخ و صاحب السيرة يختلفان هنا في المدى الذي يأخذه الزمان في مخيّلتهما. فالمؤرخ زمنه متّسع و ممتد، فيما زمن صاحب السيرة منحسر ومحدود. الأول يتناول أجيالا وحقبا وعهودا، أو يضعها على الأقل في اعتباره؛ وهذه أزمنة تتجاوز معدل العمرالإنساني الواحد. فيما الثاني، صاحب السيرة، يؤطّر زمنه بعمره، بحياته، بعدد السنوات التي عاشها حتى لحظة روايته. و هذه سنوات قليلة، ضئيلة، تكاد تختفي أمام ركام من الأزمان الشاهقة؛ أزمان الذين سبقوه و جايلوه وسوف يلحقون به… في التاريخ.

المكان وفق ذلك سوف يكون مختلفا أيضا. صاحب السيرة، مواطناً كان أم شخصية فذّة، لن يخرج عن إطار المجالات التي عرفها أو وُجد فيها، أو سمع عنها، إن متابعة وإن مراقبة. مع الاختلاف طبعاً بين الاثنين: فكلما كانت “مواطنية” صاحب السيرة “بسيطة”، على ما يُقال “مواطن بسيط”، ضاقت المجالات التي عرفها أو دخَل إليها؛ وكلما كانت مواطنيته “متميزة”، ذات فعل خاص أو قول خاص أو موقع خاص،اتّسعت مجالاته. لكنها مهما بعُدتْ تلك المجالات، مهما اتسعت، فإنها لا تبلغ مبلغ مجالات المؤرخ، فهذا الأخير يمضي دهراً في دراسة المجال الواحد؛ وأحيانا يحيط بجملة من المجالات؛ وبذلك يكون مكانه ومخيلته أعرض من مكان صاحب السيرة ومن مخيلته. وتبعا لاختياراته: الشعوب، الطبقات، المؤسسات، البنى، التيارات، الميول الخ… فإن كل الموضوعات عنده تؤخذ جماعةً: ظواهر، تيارات، حالات، عصورا؛ حتى لو كان “موضوعه” رمزاً من رموزها.

والكلام نفسه تقريباً ينطبق على الفعل. في السيرة، الفعل بحجم صاحبها. المواطن “البسيط” بالكاد يكون مجال فعله هو مصيره الشخصي؛ اما المواطن “المتميّز”، فيطال فعله دائرة أوسع؛ من المناصرين أو المتعاطفين أو المؤيدين أو حتى المعجبين… لكن فعل الاثنين يبقى قليلا ضئيلا أمام فعل التاريخ.

فالتاريخ يتدخل في تقرير مصير صاحب السيرة، من غير أن يكون بالمقابل لصاحب السيرة بالضرورة يدٌ في التاريخ؛ إلا إذا كان نبياً أو بطلا خارقا. لكن الأنبياء والأبطال لا يكتبون إلا نادراً سيرهم. فهم مشغولون بصناعتها. و حتى في هذه الحالة، من المشكوك فيه أن لا يكون التاريخ قد هيأ لمصير النبي أو البطل.

أما الاختلاف الاهم بين السيرة و التاريخ، فيقع في دائرة المعنى المحدّد. المؤرخ يعطي معنى لمعطيات متباعدة، تسمو على أية حياة شخصية واحدة، حتى لو كانت عظيمة. يصيغ موضوعه، و يسمي ما يحتاج الى تسمية، ثم ينطلق بعد ذلك في استكشافه واستقصائه؛ فيجرّد ويعمّم ويرزْنِم (من روزنامة)، و يجدْول، ويفرز ويدقّق بالوقائع والروايات. يضع نفسه مكان الجماعة المدروسة كلها، ويبتعد عنها في آن. مخيلته معقلنة، و موسومة بفرديته، لكن هذه الفردية محجوبة خلف عينه البعيدة والباردة، المتخصّصة والملمّة بمعطياتها… أو هكذا يُفترض به.

والخطورة الوحيدة التي تهدّد هذا المعنى المتسامي للتاريخ، أنه يقع دائما بأيدي المنتصرين و كَتَبتهم. لكل عصر حقيقته التاريخية، و لكل عصر أدواره و محرماته.

أما معنى السيرة، فيرتدي وجه صاحبها. اذا كان هو كاتبها، فغالبا ما يكون ذاأثر سياسي أو ثقافي أو فني… صاحب إنجاز ما، يودّ ان يسجله في روايته لحياته. و هو بذلك يصيغ الدور الذي لعبه في محيطه أو مجاله أو بيئته ضمن المشهد الذي وجِد فيه.

أما إذا كان صاحب السيرة هو غير كاتبها، مواطنا “عاديا”، مجهول الهوية كما في سيَر كتابي “السياسة أقوى من الحداثة”؛ فإن المعنى ليس صافياً تماماً. والسبب أن هناك عالِم اجتماع ميداني “اختار” صاحب السيرة، بناء على مواصفات معينة (مدى احتكاكه بوجه من أوجه الحداثة في حالتي)، ثم طرحَ عليه السؤال، وتابع معه المقابلات، ودقّق بتفاصيلها… كل ذلك وهو، أي عالم الاجتماع، ممْسك بخيط محدّد (خيط “الحداثة” في حالتي أيضاً). ومهما كان موضوع هذا “الخيط” المسبق، فإنه بدوره يعطب شيئا ما: فهو يلْجم العفوية، ويهدّد بحجب الجانب الهوليستيكي، الوجودي، من روايات أصحاب السيَر. والجانب الهوليستيكي أساسي في صياغة المعنى: موجود في حياة كل إنسان، وإن بالكُمون. من دونه تتحول السيرة إلى استقصاء رأي. من دونه يُنتزع من السيرة ذاك التشابك الغامض بين القدر والحظ والطبائع والجذور العائلية-الاجتماعية… فضلا عن العهود السياسية.

وخلال مقابلاتي مع أصحاب السير، وتدقيقي بإجاباتهم، كنتُ حريصة على إقامة التوازن بين الخيط الحداثي، الضروري، و لكن اللاجم للعفوية، وبين إبقاء جذوة العفوية متّقدة، وهذه الأخيرة لا تقلّ ضرورة عن الخيط الحداثي.

ومن هذا التوازن رُسمتْ المخيّلة الممكنة لصاحب السيرة والمعنى الذي بثّه، وربما ثبّته في متن روايته: مخيلة شديدة الالتصاق بنفسها، فردية و مشْبعة بروح الجماعة الصغيرة والمتوسطة، من العائلة والحيّ والقرية والمسجد والحزب والجيران والعمل. أما المعنى الذي يعطيه أصحاب السير لحياتهم، فيكمن هو أيضا في الدور، فالمواطن المجهول الهوية، مثل المواطن الفذ، مهجوس بالدورالذي لعبه في مجاله الحيوي. وكتابته لحياته وروايته لها تنطوي على رغبة غامضة ودفينة في الاعتراف العام بهذا الدور. وهذا “العام”، يحدده مدى محيطه، مدى إتساعه.

هذه الاختلافات بين التاريخ والسيرة تغري بالتساؤل :

أيهما “أفضل”؟

أيهما أكثر “موضوعية”؟

لمن نعطي الأولوية في صياغة معرفة تاريخية، حاضرة أو ماضية، ذات مصداقية؟ معرفة غير مؤدْلجة، لما يجري أو لما جرى من قبل؟

يلتقي التاريخ مع السيرة بروح العصر الذي تقع فيه وحدة الثلاثة من زمان ومكان وفعل، كما أسلفنا. و هذا المشترك بين الاثنين يدفعنا إلى ملاحظة النسبية. فمن مكوّنات روح العصر الإيديولوجيا، تلك الآلة الذهنية التي تحوّل المرغوب إلى واقع. ينقذ المؤرخ نفسه منها إن تفرّد بخياله وعقله ومسافته عن نظرائه، مثل ابن خلدون الذي أخرج من رحم جماعته التي ينتسب إليها القانون الضمني الذي يملي فعلها في التاريخ، أي في زمان ومكان محدّدين. قانون العصبية، الحاكم لنشوء الجماعات الطامحة إلى السلطة، والقادرة عليها، والقاضي بانهيار الجماعات الأخرى التي كانت قابضة عليها.

آثار روح العصر و درجة طغيانها ليست واحدة عند المؤرخ وصاحب السيرة. فلدى الأول، الطغيان معلَن وعراك المؤرخ مع المحرمات أقرب الى الواجب المنهجي (و إن مفتعلا). أما صاحب السيرة، فإذا كان مواطنا فذا معروفا، فيتراوح الموقف عنده بين التسليم بهذا الطغيان والتمرد عليه. أما اذا كان مجهول الهوية كما في تجربتي، فإن الطغيان عنده مستبطَن، وتعوزه الكلمات. ولأن صاحب القصة غيّر اسمه، فهو لم يعد خائفا من طغيان أقرب مضطهديه، أقرب الرقباء عليه: زوجته أو جاره أو قريبه أو الشرطة أو مسؤوله المباشر في العمل… لكنه، مع هذه الحرية، يخشى شيئا آخر، غير محدّد، غير مسمّى، قد يقع في مجال الإجماع المخفي للجماعة الكبرى، هو ربما روح عصرها أو إيديولوجيتها.

وللسيرة سمات إضافية من الذاتية. ففي ما قمتُ به من عمل في كتابي المذكور آنفاً، كانت “الحقيقة المطلقة” أو “الصدق الكامل” غير واردين في حسابي، إذ أحسب أن لا طائل من ورودهما. لذا، لم أكن أدقّق إلا في درجة التماسك في الروايات، أو درجة المعقولية. كنتُ اسأل، وأعيد السؤال، فقط عندما كانت الرواية تبدو لي غير منطقية، أو غير منسجمة التواريخ (الولادة، الزواج، الانتقال الى المدينة، الشهادات الخ). والنص المرْوي بحد ذاته أعدت هيكلته، وفصّحتُ نصف لغته؛ بحيث يكون قصة قصيرة، ممتعة ومسلية ومفيدة. و إذا اضفتَ الى كل هذه “المصافي” للموضوعية، “الخيط” الحداثي الذي أمسكَ بتلابيب عناصر السيرة المتناثرة، أمكنَكَ قياس درجة الذاتية في مجموع هذه السيَر. ذاتية أصحابها، و ذاتيتي الشخصية، المسقَطة على النص، طواعية أو بغفلة مني.

هل نستنتج من كل ذلك ان للتاريخ أفضلية على السيرة، وبمَ يتفوق عليها، بدرجة موضوعيته وإحاطته و امتداده الزمني؟

زعمي أنه لا يجب الانجرار وارء جاذبية هذا السؤال. قد لا يفيد شيئا الإجابة عن السؤال بشغف الباحث عن الحقيقة. الأجدى هو التشجيع على دراسات مقارنة بين التاريخ والسيَر ذات الأزمنة المتطابقة. و بما أن نتاجات السيرة اقل عدداً من نتاجات التاريخ… بسبب شيء ما في نرجسياتنا الفردية… فأمامنا مجال قريب و شبيه: مجال الرواية الأدبية، لو أردنا تبديد الفجوة بين إنتاج التاريخ و إنتاج السيرة.

فـالخيط الجامع موجود أيضا في الرواية. ولكنه متشكّل من خيوط رفيعة مخفية، متشابكة ومتداخلة؛ من صنع الراوي، من صنع ذاتيته، الواعية و غير الواعية. و قد لا تجد أثراً لهذه الخيوط في بعض الروايات، من روعة الأقنعة التي تُداريها. لكنها خيوط هوليستيكية وجودية، أيضا، تنتظر من يسْتجلي معانيها. فالقصة هي المعنى، و في القصة احتكاك حيّ، كيميائي، بمخيلة القارىء و حساسيته. و هاتان مَلكَتان أساسيتان، بعد العقل والذاكرة، لالتقاط معنى التاريخ، المطروح من غير كَلَل على بساط البحث.

إن المقارنة بين التاريخ والسيرة مثل الاجتماع بين مخيلتين، بين قدرين يتلازمان ولا يلتقيان. وما يتولّد عن هذا الاجتماع قد يصيب كليهما بأسهم من وعيه تجاه الآخر… فالأرجح أنهما يتكاملان.


الذكورة والانوثة الراهنتان... فصل من فصول العلاقة بين الرجال والنساء
الأوان، الجمعة 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2007

هذه محاولة لصياغة معنى للمشهد المضطرب بين الجنسين، اضطرابَ المشاهد الأخرى.

هذه العلاقة كانت دائما إشكالية؛ حتى أيام “التوازن” الغابرة والرومانسية. لكنها اليوم، وفوق إشكاليتها السابقة، مصابة بأكثر من اضطراب. ومن العوارض السريعة لهذين الإشكالية والاضطراب، تضخم ظواهر الخصومة بين الجنسين: الطلاق، العزوبة والعنوسة، العنف العائلي، الاغتصاب، التحرش العنيف في الأمكنة العامة، العودة القوية للتصورات البائدة… يقابلها غياب أية ثقافة تقاربية إنسجامية بين الطرفين، أفرادا وجماعات، لا في الفن ولا في الأدب ولا في غيرهما من مجالات توليد المعاني.

ما الذي يهيمن على العقول الآن؟ إيديولوجيا دينية جديدة معطوفة على ذكورة مشحونة. مهما اختلفت التصنيفات: إسلاميون، رجال سلطة، جماهير، علمانيون، ليبراليون، قوميون…. كلهم يجدون أنفسهم ملزمين بأن يعودوا إلى المرجعية الدينية إذا أرادوا تثبيت خطاهم. المرجعية بفهمها الحرفي السلفي الشكلي، وخزانها القرآن والحديث والسيرة والصحابة وأحيانا اصدقاء الصحابة. الحق مع كل واحد يغرف من هذا الخزان شيئا مما يعطيه الشرعية. إيديولوجيا تبعية المعرفة والوعي للدين.

ثم إنه عصر العودة إلى ماض متخيّل. أو كما يتخيله رجالات هذه الهيمنة، أي الدعاة والشيوخ الفضائيين والأرضيين وخطباء الجمعة في أقاصي القرى والأحزاب الدينية على اختلاف تلاوينها… وليس كما يحتاج المؤرخون واللغويون والأنثروبولوجيون والشعراء… إلى كتابته. رجالات هذه الهيمنة يؤرخون للماضي ويصيغون الحاضر، وأكثر ما يبغضونه في هذا الحاضر، أكثر ما يبدون انهم يقاومونه، هو خروج النساء الى المجال العام، ظهور النساء في المكان العام. الحلال والحرام منْبع سطوتهم. منظومة التحريمات أخذت مكان القانون المدني الصادر عن الدولة. لا يكلّ ولا يملّ المؤمنون عن السؤال عنها، في أبسط تفاصيل حياتهم…. سيل من الفتاوى والفتاوى المضادة.

التحريم النوعي، أي التحريم الذي يطال النساء، أو بالاحرى العلاقة بين الجنسين، هو المسيطر في منظومة التحريمات بطبيعة الحال. أنظر إلى كتاب بن باز “من منكرات الأفراح والأعراس”، نموذجا للفكر التحريمي السائد، حيث يحرم على المرأة مثلا شهر العسل (هل من شهر العسل من دون المرأة-العروس؟) والوقوف على الشرفة والالتفات الى الوراء والمشي وسط الطريق وإظهار القدم أو الظفر والجلوس مع الخطيب على المنصة أو الهودج… ناهيك طبعا عن السفور والتبرج والاختلاط الخ. في سوق المطبوعات الورقية والإلكترونية تجد كمّا هائلا من الكتب والكتيبات من هذا القبيل. الآن، ماذا في الواقع؟ ماذا في إنتاج المعاني والفنون؟

في الواقع أولا: في المجال العام، حيث تلتقي النساء بأخريات وبآخرين. الطريق، الشارع، السوق، مكان العمل أو الدراسة، المقاهي، السيارة والمترو، أو أية وسيلة نقل عام… الخ. المكان الخارج عن المنزل. كيف يبدو مشهد هذا الواقع؟ تسيطر عليه المحجبات. يسيطر عليه عدم الاختلاط بين الجنسين. يسيطر عليه التحرش العنيف، اللفظي والجسدي، والأخير يصل إلى الاغتصاب في حالات شبه يومية. شارع طارد للنساء إجمالا؛ محجبات كن أم منقبات أم سافرات.

في مجال إنتاج المعاني، والمسيطر الآن عليه هو التلفزيون. وعلى هذا التلفزيون يسيطر صنفان: القنوات المتخصصة أو نصف المتخصصة في فن الغناء، والذي يستحوذ عليه الفيديو كليب الآن. إنه الإرسال الاقوى، الطلب الأكبر من المشاهدين-المستمعين. ونجمات الكليب الآن هن المهيمنات على نجمات الفنون الأخرى، وعلى نجمات مجالات أخرى. ثلاث منهن انتُخبنَ مؤخرا من بين “مئة أقوى شخصية عربية”. أما المضمون، الذوق، المفهوم، النموذج… التي يبثها الكليب، فتعود إلى عوالم الحريم المتخيلة. الأنثى طريدة تبحث عن صياد.امرأة من “الحرمْلِك”، حيث المنافسة بين النساء هي من أجل الاستحواذ على شهوة الرجال؛ فاقدة الحرية، بجمالها، مع انها متحررة من اللباس التقليدي ومن غيره… يفكّك الصحافي احمد المغربي في مقال عن أغنية الكليب فيصف “التناقض المذهل بين ابتذال الـ”أنا" بصريا واستعمال صفة “الأنا” (في الأغنية) التي يفترض أن ترفع من شأنها"، أي شأن هذه “الانا”.(الحياة 16-3-2007).

الصنف الثاني: قد تكون لاحظتَ طبعا أن مستهلكي الفيديو كليب هم انفسهم مستهلكو الشاشة الدينية الأصولية المتخصصة ونصف المتخصصة؛ أو ذات المضامين الدينية الأصولية المتناثرة. الاعتصامات والحملات الالكترونية (موقع “حماسنا” خصوصاً) التي يخوضها شباب مقربون من “الإخوان المسلمين” ضد مغنيات الكليب، ضد “الأباحية” و"الانحطاط الأخلاقي"، ومطالبتهن بالاعتزال والتحجب الخ… كل هذا دليل على مشاهدة عالية وشغف واضح.

وما يجعل الأمر اكثر إثارة هو أن صانعي الفيديو كليب هم أيضا صانعو البرامج الدينية “المنافسة” لها… ظاهرياً. هم أنفسهم الذين يدفعون لهيفاء وهبي ومروى، يدفعون لعمرو خالد وخالد الجندي. اكثر من ذلك: أصحاب هذه الفضائيات اشتروا أفلاما كلاسيكية مصرية يعرضونها في قنواتهم بعدما “يقصّون” مشاهدها الساخنة؛ سخونة متواضعة إذا ما قيست بخلاعة الكليبات التي يعرضونها على شاشات أخرى. وكذلك هم بعض مخرجي الكليب. مثل مخرج الأغنية الساخنة جدا، “نجلا والحصان”، الذي صار الآن يخرج أناشيد دينية، لا وجود لامرأة فيها بتاتاً.

الذكورة في الواقع، كما في المخيلة، موحدة المعاني: السيطرة الكاملة على النساء عبر الدين والجسد. بين الكليب والحجاب التعايش تام. بل يذهب البعض الى اعتبار رواج الكليب من ضرورات رواج مثل ذلك التديّن. عالمان لا يجب التوهّم بأنهما عالم حرية وعالم سجن. بل قد يكون عالم المحجبة أكثر حرية من عالم المرأة-الجسد.

الذكورة الثقافية لها ما يسندها في التقاليد طبعاً. لكنها زادت حدة في الآونة الأخيرة، بل وجدت لها مكانا في الصراع الإقليمي العربي: يوصف “الممانعون” أنفسهم بالذكور، وينعتون غير الممانعين من بينهم بالإناث. ما سمح لبشار الاسد أن يطلق على القادة العرب الآخرين صفة “أنصاف رجال” لأنهم لم يؤيدوا عملية “الوعد الصادق” لـ"حزب الله" الصيف الماضي.

الذكورية الأصولية تتضاعف الآن. مع الغزو العسكري الأميركي، وفكرة الجهاد والمقاتلة بالقتل. وسيادة “حرب الحضارت” على ما عداها من حروب وصراعات. الجهاد الداخلي أيضا، وأداته التكفير. وعداء شديد لكل تعبيرات حداثية من غير قطيعة مع الحداثة. وهذه إشكالية، أو بالأحرى مرحلة جديدة من الإشكالية الإيديولوجية الدينية مع الحداثة، تنتظر من ينكبّ على وصفها.

أيضا لأن الحداثة أنثوية برغم ذكوريتها. قبل الحداثة، لم يكن للنساء أدوات تعبير غير تلك، المتواضعة، التي رسّختها الهيمنة الذكورية السابقة على مصائرهن… وجلّها ينحصر في البكاء والتظلم والركون إلى الأولياء الصالحين. الآن الحداثة مكّنتهن مما باتت الذكورة تعيشه كاستفزاز وتحدّ. العودة عن الحداثة، ولو بالعشوائية التي نشاهد، هي من أجل ستعادة ذكورة متخيلة بأدوات تنتجها بنفسها. صرخة الشيخ الكبيسي لنساء العراق بعيد الغزو الاميركي : “يا نساء العراق تحجبّن!”… رداً على الاحتلال… خير تعبير عن هذه الاستعادة.

الحجاب. عنوان الهيمنة الدينية الذكورية الراهنة. قد تكون حقبتنا أكثر الحقب تكلما وتأكيدا وتكراراً وكتابة حول الحجاب ومن أجله. وحتى الموقف السلبي من الحجاب يستمد أحقيته من المرجعية الدينية. لماذا كل هذا الشأن للحجاب؟ كل هذه الفتاوي والخطب والمقالات والمناظرات…. حول الحجاب؟

أولا: لأن النساء خرجن عن نطاقهن السابق. نطاق الداخل والمنزل. الأمثولة الماضية معروفة: من بيت الأهل إلى بيت الزوج ومن بيت الزوج إلى القبر. في السابق، الحجاب لم يطرح بهذه القوة، ببساطة، لأن لا نساء في الخارج… وإن وجدنَ، فهن لسن “حرات” ليلبسنه، بل “أمات”… فلا نقاش للحجاب، ولا صخب حوله. اما الآن فكثافة الحضور النسائي… يقتضي ليس فقط الحجب بل الفصل أيضا بين الجنسين.

ولكن أيضا: النساء بخروجهن تغيرن. لم يعدن كما كن. الخروج أعطاهن وظائف ومهارات وطبائع جديدة، كلها تتحدى الذكورة، وتهدد امتيازاتها السابقة. مهما كانت هذه الوظائف والمهارات ضئيلة… وهذا بالضبط ما يقلق الذكورة، ويعيدها الى هويتها المتخيلة الاولى. فالرجال، مثلهم مثل كل الكائنات الذكية، شديدو الغيرة على امتيازاتهم ووظائفهم. خاصة أنهم لا يعرفون عالما غير ذاك. وكما تستمد جماعة من الهوية قوة للـ"جهاد" ضد الغرب المعتدي، كذلك تستمد الذكورة من الهوية الذكورية قوة وعنفاً، دفاعا عن هويتها. إذ لا تملك غيرها أمام هذا الطوفان النسائي لمجال الرجال الحيوي، الواقعي والمتخيَّل.

الذكور لم يتغيروا، فيما الإناث تغيرن؟ أحدس شيئا مختلفا: النساء تغيرن والرجال تغيروا أيضا. قليلون جدا دخلوا عوالم المنزل الجديدة عليهم. والذين في الماضي، مثل الطهطاوي أو قاسم امين، تعاطوا بشؤون النساء، لم يعد الآن من يرثهم من الرجال… فالغالبية صارت أكثر توترا، أقل وضوحا، أقل ثقة وتماسكا، أكثر عنفا… مع ميل صريح وضمني لإعادة النساء إلى البيت أو إلى وظائفه. في الشارع بالتحرش بعد التحجيب والتنقيب والفصل. وفي المخيلة بالحريمية الفنية القيمية.

وكلها أسهم ضد الذكورة. إنه صراع. يصل إلى الحرب غالبا. عنوانه الولاء لهذه الذكورية بالحجاب. شيوخ الحجاب يقولون عنه أنه يجسد “التواضع الأنثوي”. وهي الكلمة الملطّفة للخضوع، للولاء. عنوان التسليم بضرورات الخروج البيت، الخروج “السليم”… وإن كان عنوانا غير كاف.

وهنا حالة من حالات البوح عن معاني الولاء في الحجاب؛ بطلته باحثة قومية تقدمية غير محجبة. اذ تكتب في مجلة “المستقبل العربي” (العدد 336 شباط 2007) مقالا عنوانه “إلى لبنان المقاوم… رسالة محب”. تصف فيها أول زيارة لها لحسن نصر الله، الأمين العام لـ"حزب الله"، فتقول: “أذكر دائما المرة اليتيمة التي التقيتُ فيها بالأمين العام لحزب الله، ولم يكن الجنوب قد تحرر، ولا كان هو حسن نصر الله الذي بات يعرفه كل طفل عربي. ودُعينا للقائه (…) ودار حوار حول ما إذا كان رجال الحزب سيطلبون منا وضع غطاء الرأس قبل لقاء السيد، وكنت ممن قلن لو طلب فلن أذهب (…) استمعنا إليه باهتمام يحكي عن خبرة مقاتليه في مواجهة الصهاينة وهم يفرون أمامهم كالجرذان، يتحدث بثقة (…) ويطمئننا على أن نصر الله قريب (…) قلتُ لنفسي: في المرة المقبلة إن طلبوا مني غطاء رأس قبل لقائه فلن أقاوم…”. إنه صراع. لا تخوضه كل النساء بهذا المنطق من التسليم.

هناك نساء، حالات من النساء، يرمين الذكورة بأسهم إضافية تؤجج نارها:

— نوال السعدواي تصيب الذكورة في صلبها عندما تطالب بأن يُضاف اسم الأم الى اسم الاب في هوية الطفل. منطقها الصراعي يقسم العالم إلى فسطاطين: الابوة الشريرة، الديكتاتورية، الفاسدة. والأمومة نبع الحرية والعدل والحنان. (من موقع نوال السعداوي)

— د. سعاد صالح. العميدة السابقة لجامعة الازهر. أصدرت فتوى (أيدها المفتي بعد ذلك) تجيز إعادة غشاء البكارة بعملية جراحية لمن “ندمت أو تابت أو أرادت الزواج كستر لها”.

وتجيز لها بالطبع عدم البوح بالعملية. تصور! الذكورة في فخ امتيازاتها! حالة غير مسبوقة. مئات الشابات يذهبن الى الإمارات حيث تتوفر هذه العمليات من غير الجهر باسماء صاحباتها. كيف تردّ الذكورة على انتعاش أسلوب الإخفاء الحريمي النكهة، المتلازم مع ورفع راية المظلومية التاريخية في آن؟ بأية وسيلة تدافع الذكورة المخدوعة سلفا من ادعاء العذرية الكاذب؟

— مدرسة الإعلامية المصرية المشهورة هالة سرحان. مدرسة الربط بين الاستفزاز الجنسي والفضائحية، وبين الانعتاق من هيمنة الذكورة واستبدادية الدولة: يرى قسمٌ من المثقفين المصريين في هالة سرحان “جرأة واستفزازا يخرق التابوهات ويحطم كلاسيكيات الإعلام الرسمي، ويبوح بالمسكوت عنه”. فيما المثقفات يرين فيها “انعتاقا من قيود إعلام الدولة، وفرصة عصية على التكرار للوصول إلى الناس بأفكار تصدم وعيهم فيحصل ’الحراك’ المأمول”. (مقال حمدي رزق. ملحق نوافذ، يومية المستقبل. 4-3-2007)

 حالة الزواج العرفي. قبيل الهيمنة الدينية، كان الزواج العرفي محدودا. كانت تقبل عليه عادة الأرملة الراغبة بالزواج ثانيةً من غير خسارة راتب التقاعد لزوجها المتوفي. الآن صار الزواج العرفي “محلّلا دينيا شرعيا” للعلاقات الجنسية بين مئات الآلاف من الشابات والشباب وسط الهيمنة الدينية على العقول. الخاسرات فيه هن الشابات: الحمل وإنكار النسب، بل إنكار المعرفة الشخصية أصلا. مئات الآلاف من دعاوي النسب أمام المحاكم.

الدعوى الأكثر شهرة، دعوى هند الحناوي. والدها يستعين بالعلم الحديث (DNA) ليثبت صدق ابنته. فيكسب القضية التي يرفعها الى المحاكم. الـDNA يحدّ من حرية الذكور المتزوجين عرفيا في تدمير حياة رفيقاتهم في المتعة العابرة.

كل ذلك أشبه بالأسهم النارية. بالمناوشات الحربية. لا تبني، بل تقتنص. فيكون الرد بالمزيد من الذكورة المجروحة، التي تحمل النسوية تبعات جروحها. فيما هذه الاخيرة، ويا للمفارقةَ! لم يتبق من شحنتها السابقة الا الدفع الاستفزازي الذي أوجد النساء في الخارج… ولا شيء غيره.

والسؤال التالي على ما سبق هو: ماذا نفعل بهذه الحرب الضروس بين النساء والرجال؟ هل نؤجّجها مثل بقية الحروب؟ أم ندعو إلى وقفها؟ إلى هدنة عقل؟ هدنة تخفض درجة توتر هذا الصراع؟

كيف يتم ذلك؟

أولا: بنقد الأنوثة. بنقد صفات الأنوثة غير المستحبة. مثل الاستئثار والتحايل والابتزاز والغيرة والمازوشية وضعف القدرة على التجريد، تماما كما تُنقد الذكورة .

ثانيا: الإعلاء من شأن الذكورة الحميدة مثل: التحليل والنجدة، وحس الفكاهة والواقعية والشجاعة ورباطة الجأش.. (معايير الأنوثة والذكورة مأخوذة عن كتاب عزة بيضون ’الرجولة وتغير احوال النساء’ . المركز الثقافي العربي. بيروت. 2007)

ننزع الألغام المحيطة بنا: نبدأ بوقف الحرب بيننا، أو بالتخفيف من جنونها. فنخفض درجة الاضطراب بين الجنسين. الأمر يستاهل؟ ربما… إيقاف الحروب الصغيرة أو تجميدها، بعد العجز عن إيقاف الكبيرة منها.

حواشي

[1كاتبة وباحثة لبنانية. أستاذة مساعدة في الجامعة اللبنانية - معهد العلوم الاجتماعية و باحثة في علم الاجتماع السياسي و مستشارة في الأسكوا. تحمل شهادة دكتوراة حلقة ثالثة في علم الاجتماع السياسي بعنوان : مدخل إلى دراسة الحركات الإسلامية السنية المعاصرة في لبنان. صدرت لها الكتب التالية : “دنيا الدين والدولة”، “غرامشي في الديوانية”، “أخوات الظلّ واليقين”، “السياسة أقوى من الحداثة”.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)