قراءات - Comptes rendus de lecture

مشاعر مهاجرة، منى الشرافي (الأردن)، رواية Mshaa’ir Mouhajirah, Mona Sharafi (Jordanie), Roman

, بقلم محمد بكري



رواية “مشاعر مهاجرة” لمنى الشرافي تيم : أحلام تستيقظ ببطء واتزان على أرصفة السرد


جريدة النهار اللبنانية

الإثنين 30 كانون الثاني/ يناير 2012
النهار - أكرم خلف عراق


نشعر ونحن أمام رواية “مشاعر مهاجرة” للكاتبة منى الشرافي تيم ("الدار العربية للعلوم"، 2011)، كما لو أن الأحلام هي من طيور النفس، لا تفلت إلا من قفص الجسد، خلف قضبان الشعور وبين جدران التأمل. لكنها عندما تفلت، تكون وحدها القادرة على أن تحلّق بآلامنا وأوجاعنا، فتخترق غيوم الذات الملبدة بالأحزان الداكنة اللون.

تحلق الرواية في سماء الوجع الإنساني المزمن، بحكم ما تطرحه من انفعال وغضب وأحزان، وكبت وحرمان وقضايا إنسانية. يشعر القارئ بانسياب عجيب بين ثنيات الخيال والتأمل، ليجمع متناقضات الوهم والحقيقة، النعيم والشقاء، النصر والخذلان، الخوف والأمان. تبدأ الأحداث بوصول ديانا إلى المستشفى، وهي في حالة ذعر واضطراب، كي تلحق بوالدها الذي دهمه المرض، وهناك تفاجأ بقدر آخر، بمريض آخر، يلتحف ببرودة الموت فوق أحد الأسرة. ديانا الطبيبة النفسية، هي شخصيّة الرواية الرئيسية، تسكنها أسراب الأحلام والمشاعر المهاجرة، انطلاقاً من ارض اليقظة، حين تجد نفسها أمام ذلك المريض، المجهول في واقعها، المتمكن من أحلامها، القابع في سجلات قدرها. في خضم الضجيج، تزرعنا الكاتبة في جسد القدر المتمثل في فوضى المشاعر، وغليان النفس في مواجهة ذلك الغيب، لتتحول عصفورا ورقيا مهاجرا، يطرق ضمير القارئ على غير موعد !

يسير قلم الكاتبة ببطء واتزان على أرصفة السرد الروائي، تجول بقلمها على لسان الطبيبة النفسية، لتضيء التسلط الأسري، والتشرذم الاجتماعي، الذي تعاني منه، وكيف أن صلة الرحم يمكن أن يغتالها سكين الغيرة والحسد، غيرة ندى، وحسد ندين، وحماقة رائد، وقسوة الأم. أمور تتكشف في الفصل الأول من الرواية، فتعجز ديانا التي أبدعت في علاج مرضاها، عن علاج أسرتها، وعن إزالة فطر الكراهية السام، الملتصق بجدران قلوبهم الملوثة. تجتاز ديانا بنجاح أزمة سارة، ليتحول بؤسها عاصفة أمل، لا عاصفة انتحار، بعدما كادت أن تُدفن مع خيانة وائل لها في مقبرة الحب.

تتكشف للقارئ أزمة النص، وهي أزمة الكاتبة نفسها، تحاول أن تقدمها للمتلقي، كي يفك عقدها المتداخلة. يمتزج خيط الإحساس بوجع ديانا، فيشكل بداية الحبكة في الرواية، متمثلا في علاج أختها ندين، الفتاة التي تعرضت إلى الاغتصاب، إبان الحرب الأهلية اللبنانية، لتخرج بعار اجتماعي التصق بها رُغماً عنها، حين فقدت عذريتها ورحمها، التي أصبحت صحراءها القاحلة. تصفعها سياط القدر، التي جُلدت بها وهي في مقتبل عمرها، فتؤثر الاحتراق في فرن الحرمان والحقد والكراهية والانتقام، بعدما تحولت بين ليلة وضحاها من ضحية إلى مذنبة... فقط لأنها امرأة شرقيّة!

تستعر نيران الحبكة، فتخترق ستائر النص، وستائر المخيلة معاً، لتجعل من تساؤلات القارئ لهيباً يحدث زوبعة من التكهنات، حين تُطل علينا الكاتبة بشخصية سلوى، المرأة اللبنانية المتزوجة من رجل تونسي. تلك الأم الثكلى بابنها احمد، الذي لقي حتفه على يد البوليس الديكتاتوري، وقد سيطرت على كيانها قوى الرفض، الموغلة في عقلها الباطن. في هذه النقطة الشديدة الحساسية، نلحظ حرارة قلم الكاتبة، الذي يأبى إلا أن يخوض غمار ما يحدث على أرض الواقع من الثورات والانتفاضات العربية، مشيرة إلى انطلاقته الأولى، حين قدّم التونسي محمد بوعزيزي نفسه قربانا للحرية، لا قربانا للنار.

في خضم تداعيات السرد الروائي، الذي يتكئ على الاختلاجات النفسية، تدخل علينا الكاتبة بشخصية فاعلة في تحريك مجريات النص، فاضل شقيق سلوى. وعبر هذه الشخصية تقوم الكاتبة بالتجديف في بحر الورق، ليصل مركب الرواية إلى نقطة أبعد في السرد، حيث تبدأ مشكلات ندين بالتلاشي، أمام إصرار ديانا على علاجها وتخليصها من عقدها النفسية والاجتماعية المتردية، التي تفاقمت لتصل إلى ممارسة سفاح المحارم مع زوج شقيقتها ندى.

تطرح الكاتبة على لسان سراب، صديقة ديانا، قضية الفساد الثقافي في الأردن، الذي لا تقل وطأته عن الفساد المالي والإداري والسياسي، أثناء سردها معاناة الشاب الأردني ماهر، الكاتب المسحوق، الذي جاء إلى لبنان، وقد فقد حلمه في نشر روايته في عمان، بسبب انحراف أهداف بعض المفكرين والمثقفين عن مسارهم النبيل في سبيل الأنا العظمى، بحيث تُحوّل موهبة الأدباء الشباب من الجيل الجديد الواعد رماداً يتلاشى مع الريح.

تتوالى الأحداث وتتأزم الحبكة، ولا تصل إلى ذروة انفراجها إلا في ربعها الأخير، حين تتكشف حقيقة ذاك المريض المجهول. آنذاك يشعر القارئ كما لو أنه يتجول في ممرات الذات المتعرجة لديانا: “انتفضت ديانا ونظرت حولها، فقد ظنت أنها تستعذب تعذيب نفسها، أو أن الجنون قد غزا عقلها، أو ربما كانت تحلم وتريد أن تستفيق، فهي على منعطف خطير بين الحلم والكابوس. ولكنه هنا! أمامها! حيّ يحاورها ويحاكي مشاعرها. إذاً هي لم تنتظر وهماً”.

نكتشف أن ذاك المريض، المجهول في واقع ديانا، والمتمكن من خيالها، هو الذي يصنع عقدة الرواية وحبكتها ونهايتها، بكل ما يكتنفها من غموض ووضوح وتعاسة وفرح، وأن تعلق الطبيبة ديانا بأحلامها، هي التي قادتها إلى ذلك المجهول المخيف، فوصل بها إلى حتمية الاستيقاظ من غيبوبة الوهم: “تمنت ديانا لو تصرخ في وجهها... وتخرس صوت الجحيم الذي يطنّ في أذنها. تساءلت: لم كل هذا العجز”. مع السطور الأخيرة من الرواية، تبدأ رسالة الكاتبة تنجلي شيئاً فشيئا: “اقتربت ديانا من أوراقها التي تبعثرت على أروقة كيانها وعلى أعتاب أوهامها، وبعد أن تأملتها طويلاً... طوتها ثم وضعتها في صندوق خشبي من صناديق ذاكرتها”. يصل صدى صرخة الكاتبة الأخيرة إلى كيان القارئ، فيهزه بعنف، ويجعله في مواجهة مع ما يتوقعه من الحياة، ومع ما هي قادرة على منحه، إن هو أراد. فها هي تقول: “نحن البشر لا نعرف قيمة ما نملكه، إلا بعد أن نفقده، فالعمر زائل، ونحن نذبل، وفي غفلة من الزمان تمر بنا الأيام هاربة منا، كأسراب مشاعر مهاجرة، فلنصغ إلى صوت الأمل، ولنسرق من الزمان فرحة تملأ قلوبنا”.

عن موقع جريدة النهار اللبنانية


النهار هي صحيفة لبنانية سياسية مستقلّة رائدة. وقد صدر العدد الأوّل في 4 أغسطس/آب 1933 في أربع صفحات. بدأت الصحيفة التي كان عدد موظّفيها خمسة بينهم المؤسّس جبران تويني، مع رأسمال من 50 قطعة ذهبية جُمِعَت من الأصدقاء، وكانت تُوزِّع 500 نسخة فقط. ولاحقاً تولّى ابن جبران، غسان تويني، وحفيده الذي يحمل الاسم نفسه، جبران تويني، رئاسة التحرير والنشر. حالياً تشغل نايلة تويني منصب رئيسة التحرير ورئيسة مجلس الإدارة.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)