جريدة المدن الألكترونيّة
الأحد 13-09-2020
المدن - ثقافة
وجدي الكومي
محمد رشدي.. المطرب الذي هز عرش العندليب
حكايات عدة سمعناها عن عبد الحليم حافظ، منها الأغاني التي تبدو نافرة في مشواره الفني، أو بلغة هذه الأيام “تجريبا”، ومنها أيضاً الحكاية الشهيرة التي تتحدث عن اختطافه للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ليكتب له بعض الأغان، يرد بها على نجاح خصمه محمد رشدي، ويسترد بها عرشه الذي هزته أغنية “عدوية”... ومحمد رشدي الذي نحن بصدده في هذه السطور، يروي حكايته من البداية، في مذكراته المنشورة بعنوان “مذكرات محمد رشدي - موال أهل البلد غًنُوهْ” للكاتب سعيد الشحات*، وتتناول تاريخ مصر الموسيقى منذ عشرينيات القرن العشرين، حتى رحيل رُشدي في العام 2005.
لا يبدأ سعيد الشحات الكتاب بتفريغ حوارات سجلها على شرائط لمحمد رشدي كما هو معهود في كتب السير التي يكتبها صحافيون مصريون أو عرب، بل يبدأ من سنوات التسعينيات، حينما يلتقي برشدي ليجري معه حوارًا في إحدى الصحف المحسوبة على التيار الناصري المصري، ثم يعود بنا إلى بدايات رشدي، إلى قريته ومنابت أصله في دسوق كفر الشيخ التي انتمى إليها أبوه محمد عبد الرحمن الراجحي.
قسم المؤلف فصول الكتاب إلى سنوات، كل منها محطة من محطات حياة الفنان الراحل الذي اشتهر بالأغاني “الفلكورية” والمصرية الأصيلة. يحكي في الصفحات الأولى من الكتاب عن رشدي الإنسان الذي تردد عليه مرتين وأحيانا ثلاث مرات في الأسبوع لتسجيل قصة حياته، وجوانب شخصيته الإنسانية، ثم النوادر التي اقترفها في حياته، ومنها سرقته غنوة من سلة مهملات محمد عبد الوهاب، وغيرها من المواقف...
ندخل الكتاب بعد صفحات تمهيدية إلى فصله الأول المعنون 1928.
نسمع من هذا الفصل صوت رُشدي مخاطباً سعيد الشحات، وكأن رُشدي يخاطب القارىء بنفسه، فيقول: أمي لم تكن تعرف معنى الفنان الذي أريده، تصورت أن الغناء هو إحياء الأفراح والموالد، كأحمد الشربتلي، ومصطفى عابدين، وتوفيق حميدو، الذي أعطاني فرصة حمل الكمنجة والمشي بها وراءه، مقابل الغناء معه في الموالد عشرة أيام.
ترفض أم رُشدي غناءه في الموالد، وتستهجن جولاته مع المداحين والصييته، وهو ما يستغربه رشدي بقوله: الناس تحب الفن، لكن لا تحب أن يعمل أبناؤهم فيه.
هنا لا يفوّت سعيد الشحات الفرصة على القارىء، فيمنحه إضاءات متعددة على أمهات وأباء فنانين كبار، كسيد درويش، وعبد الوهاب، وأم كلثوم، حاولوا قطع طريق الفن والغناء على أبنائهم. يحكي الشحات قصة غضب زوج أخت سيد درويش، المعلم رفاعي على الحياة التي عاشها درويش متنقلا من مقهى إلى آخر، ويكتب قصة طلوع شقيق محمد عبد الوهاب على المسرح ليجذبه وسط الغناء، ويقيده من يديه وقدميه. ويروي قصة رفض أبي زكريا أحمد لعمله في الفن، وتصدي أعمام أم كلثوم لأبيها ورفضهم خروجها للغناء وهي طفلة، ويسأل سعيد الشحات: ماذا لو سادت وجهة نظر زوج أخت سيد درويش وإحترف النجارة بدلا من الفن؟ ماذا لو مضى زكريا أحمد في الطريق الذي رسمه له والده بدلا من الفن، ماذا لو اختار عبد الوهاب سكة السلامة وترك الغناء كي لا يضربه شقيقه حسن؟ وماذا لو استسلم رشدي لنداءات أمه بأن يكون أفنديا حتى يصبح سندا لها؟
يقدم سعيد الشحات إطلالات متعددة على كل شيء، ويستعرض نماذج مقاربة لحالة رشدي. بل يقدم إضاءات تاريخية على الأزمنة والظروف السياسية والاجتماعية، فنعرف مثلا أن مصر كانت تعيش أوقاتا مضطربة خلال العقد الذي وُلد فيه رشدي، إذ أصدر الملك فؤاد يوم 19 يولية تموز 1928 قراره بحل مجلسي النواب والشيوخ، كان ذلك قبل ولادة محمد رشدي بيوم.
أبو رشدي كان يعمل في قمينة طوب مع أنفار من القرى المجاورة. كانت مهمة محمد رشدي الطفل هي إيقاظ الأنفار يوميا في الفجر، والبقاء معهم طوال النهار، وكان يجمع الشغيلة في فناء القمينة، ويحولها إلى ساحة رقص وغناء، وفي كل مرة يتلقى جزاء على فعلته هذه، ضرباً وشتيمة وتوبيخا: أنت مش هتفلح في حاجة لها قيمة.
هذا الطفل الذي يعنفه أبواه، ستتفتح له الدنيا بعد ذلك بسبعة عشر عاما، حينما يظهر في حياته رجلان عام 1945 سيلعبان دورا حاسما في نقله إلى القاهرة، أولهما كامل إبراهيم الذي كان يقود فرقة موسيقية تصاحب محمد عبد الوهاب في حفلاته، والثاني هو فريد باشا زعلوك، الذي أصبح نائبا في مجلس النواب عن دائرة دسوق، كامل إبراهيم سيسمع محمد رشدي يغني في حفل يعقده أحد أثرياء دسوق... الاول يعرض على الأب أن يرسله ليدرس الموسيقى في القاهرة، أما الثاني، فيلحقه بمعهد فؤاد للموسيقى، بعد معركة انتخابية سانده فيها رشدي بالدعاية له وهو شاب حديث السن.
دخول فريد باشا زعلوك مجلس النواب، سيجعله يقيم الأفراح في دسوق، ويزين المباني، ويقيم الحفلات، حتى تأتي الحفلة الكبيرة، تحضرها أم كلثوم، فينتهز رشدي الفرصة، ويصعد على المسرح، ويغني غنوة “أنا في انتظارك” وبعدها يتوجه إلى الست في حجرة الانتظار الكبيرة، فتسلم عليه وتمسك يده قائلة: الولد دا صوته يجنن، هيبقى مهم، خد بالك منه يا فريد.
يلتحق رشدي بمعهد الموسيقى ويزور أحد أبناء بلده ويدعى أحمد المنشاوي الذي يعمل في مكتب عبد الوهاب، فيتردد عليه، ثم يبقيه معه في المكتب، ويصبح جزءا منه، ينادي عبد الوهاب على المنشاوي، فيهرع إليه رشدي ويلبي طلباته، وخلال ذلك يتعلق بعبد الوهاب الذي كان في غاية الأناقة، فيسمعه وهو يعمل على لحن “إنت إنت ولا أنتش داري” فيحفظ اللحن والكلمات، ويغنيه في الأفراح التي كانت تشركه فيها نقابة العوالم، تنتشر الغنوة بصوت رشدي، وبعد فترة تحدث المفاجأة، حينما يغني عبد الوهاب الغنوة في حفل بسينما راديو، عام 1948، وإذا بالصحافة تكتب: عبد الوهاب يغني أغنية يغنيها مطرب ناشيء في الأفراح.
يعرف رشدي خلال هذه الفترة من حياته، منتصف الأربعينيات، الطريق إلى كازينو بديعة. بعد طرده من مكتب عبد الوهاب، يلتقي في نقابة العوالم ممثلة مغمورة تسمي فيفي سعيد، تُعجب بصوته، فتقرر أن تستأجر له مسرحا، وتحضر له فرقة موسيقية وتجري له بروفات على أغنية كان قد سرق كلماتها من سلة مهملات عبد الوهاب، بالصدفة كان المذيع الشهير علي فايق زغلول حاضرا للحفل، فيشجعه على الغناء في الإذاعة المصرية... هكذا تبدأ مرحلة جديدة في حياة رشدي، مطلع الخمسينيات.
خطأ في التنفيذ plugins/oembed/modeles/oembed.html
ينجح محمد رشدي في اختبار لجنة الإذاعة التي كان القصبجي من أعضائها، ينال أول اعتراف بصوته، ويتقاضى راتبا يبلغ سبعة عشر جنيها نظير تأليف وتلحين وأداء الأغنية الواحدة. تنشر مجلة الإذاعة المصرية يوم 26 مايو أيار 1951 صورته وتحتها تعليق: محمد رشدي يذيع لأول مرة أغنية “ساكت وسامع ليه”.
ستكون الخمسينيات هي الأعوام التي يصدح أثير الإذاعة بصوته، ومع ذلك، لن يكون هو العقد الذي ينجح فيه، إذ سيتألق فيه العندليب، وسيتراجع رشدي كثيرا عن السباق، حتى مطلع الستينيات. وفي الكتاب، يقفز سعيد الشحات ستة أعوام، من عام 1953 إلى 1959، لنصل إلى نهاية عقد تربع فيه عبد الحليم حافظ على عرش الغناء الوطني لصالح ثورة يوليو، على حساب تراجع محمد رشدي، الاثنان تزاملا في القطار الذي حملهما إلى القاهرة، لكن قطار الفن سيحمل عبد الحليم إلى آفاق أبعد وهكذا تأتي الستينيات، ومعنويات رشدي في انخفاض، خاصة مع تعرضه لحادث سير، كاد يكلفه حياته.
خطأ في التنفيذ plugins/oembed/modeles/oembed.html
في العام 1961، يظهر في حياة رشدي محمد حسن الشجاعي، مدير الإذاعة المصرية، وواحد من الرجالات الذين دافعوا عن الذوق المصري لسنوات، وأثروا الغناء المصري بالمواهب، والأعمال العظيمة. يسند الشجاعي إلى رشدي غناء ملحمة أدهم الشرقاوي في الإذاعة. ينتشل العمل رشدي من كبوته، ويدفعه مرة أخرى دفعا ذاتيا إلى قمة النجاح، يختاره الشجاعي من عدة أسماء كانت مرشحة لغناء الموال، من بينها كارم محمد وعبد المطلب وقنديل وعبد الغني السيد. كانت مصر بصدد التحول الاشتراكي، وكانت التعليمات: ابحثوا عن أبطال ومناضلين في السير الشعبية.
لا يكتفي سعيد الشحات بحكاية الأحداث وتسلسلها، بل يعرض مثلا لأسماء مطربين تعلم منهم رشدي غناء المواويل، مثل محمد العربي، وزينب المنصورية. نعرف مثلا من سعيد الشحات، وليس من محمد رشدي، إن محمد العربي كان الأستاذ الثاني لفريد الأطرش، وكما كان أستاذا له، صار أستاذا لرشدي، ويفتح سعيد الشحات في هذا الجزء من الكتاب مراجعة تاريخية لسيرة أدهم الشرقاوي الحقيقية، وما كتب عنه في الصحافة، وتحقق محمد رشدي بنفسه من أصل أنه كان بطلا، وليس مجرما... يستعرض الشحات كافة المصادر التي تناولت قصة أدهم الشرقاوي وعرضت لكيفية شهرة قصته، والصراع الذي أنتج تحوله إلى شخص تصفه الوقائع المصرية بالشقي، وتصفه المواويل بالبطل.
نجاح رشدي في غناء الملحمة، يجعل العندليب يتلقف النجاح، ويغني الموال في فيلم ينتجه رمسيس نجيب، ويلعب بطولته عبد الله غيث. يقول رشدي لسعيد الشحات: الناس بدأت تعقد المقارنات بين موالي وبين غناء عبد الحليم في الفيلم لنفس الموال، واتهموا عبد الحليم باستغلال نجاحي، لكن الشعبية انتقلت إلى أرضيتي، لأنني غنيت الموال كما سمعته من محمد العربي، وزينب المنصوية.
بعد موال أدهم الشرقاوي، يساهم في صنع نجاح رشدي ظهور عبد الرحمن الأبنودي على ساحة الغناء آتيا إلى القاهرة، وبحثه عن رشدي، ليغني له قصيدته “وهيبة”، يلحن عبد العظيم عبد الحق الأغنية، ويقدمها رشدي في حفل منتصف عام 1964، وتصبح الأغنية صانعة حظ رشدي وأكبر نقطة تحول في مسيرة الرجلين.. هو والأبنودي، وبعد انضمام بليغ حمدي لهما، صنعوا أغنيات “العريس” و"المأذون" و"وسع للنور" و"عدوية" يهتز عرش عبد الحليم الغنائي، ويبدأ بـ"عملية خطف" الأبنودي وبليغ من رشدي.
يأتي عام 1966، فيتحول مسار رشدي الغنائي إلى صعود مستمر نحو القمة. يصبح هو النجم الذي تتهافت عليه الصحف والمجلات، وخصوصا بعد غنوة “عدوية” عام 1966، وفي العام نفسه سيكون الفراق بين الثلاثي رشدي والأبنودي وبليغ ليستفيد عبد الحليم من الاخيرين. يقول الشحات: كانت خطة عبد الحليم هي سحب الأبنودي، وكان هذا ذكاء من عبد الحليم لأن قطار الأغاني الشعبية كان يبدأ من الكلمة، والكلمة كانت عند الأبنودي.
يرد عبد الحليم على نجاح رشدي بأغاني التوبة و"على حسب وداد" و"سواح" محاولا استرداد عرشه، لكن مع ذلك لا يقف محمد رشدي وحيدا بدون ملحن كبليغ وشاعر كبير كالأبنودي طويلا، فيتعاون مع حلمي بكر وحسن أبو عتمان وتكون أغنية “عرباوي” و"يا حسن يا مغنواتي".
كتاب سعيد الشحات رحلة شديدة الإمتاع في فن السيرة الموسيقية. تستعرض الظروف السياسية والاجتماعية التي حركت سفينة رشدي من ولادته حتى هجرته للغناء خارج مصر بعد السادات، ويا للعجب، فما أن تأتي السبعينيات، يغني رشدي خارج مصر، ويموت عبد الحليم خارج مصر، وتموت أم كلثوم في مصر. كأن هذا العقد جاء، ليطوي صفحة من أجمل صفحات الغناء والموسيقى المصري.
* صدر الكتاب عن دار ريشة في القاهرة
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.