الأربعاء، ٨ يونيو/ حزيران ٢٠١٦
جريدة الحياة
عمر شبانة
«مذبحة الفلاسفة» تروي فلسفة الشرق القديم
بعيداً عن مألوف الرواية التاريخية، وعن التصنيفات و «التجنيس»، وبقدر كبير من الاحتفاء باللغة ومكوّناتها وجماليّاتها، خصوصاً ما يرتبط منها بالزمن الروائي وثقافته ومعطياته، يأخذنا الروائي تيسير خلف، مع روايته الجديدة «مذبحة الفلاسفة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في رحلة شديدة الثراء والإمتاع، لنشهد مرحلة من التحوّلات في حياة مدينة تدمر، خصوصاً السنوات الأخيرة من تاريخ مدينة جسّدت «عاصمة إمبراطورية المشرق» في عصر الملك «أذينة وهب اللات»، ثم الملكة زنوبيا، وبحضور عدد كبير من الفلاسفة والحكماء، على رأسهم «قصيّ»، وهو محور أساس للرواية، يكاد يجسّد شخصيّة زعيم روحي بلا «مدوّنة»، فـ «السلاميّون» الذين هو من أبرز رموزهم كانوا بلا «مدوّنات».
تنتمي رواية خلف هذه، أساساً، إلى عالم تاريخ الفلسفة، وآفاق هذا العالم المتشعّبة، سواء على المستوى النظريّ للفلسفة، أم في حضورها ضمن الأطر الدينية والتاريخية والسياسية والاقتصادية، من خلال مزجها هذه العناصر كلّها في عمل إبداعيّ مبتكَر ومتميّز، وشديد التعقيد، خصوصاً لجهة كثرة الأسماء، أسماء الفلاسفة والحكماء والحكّام تحديداً، كما لجهة المقولات الفلسفية التي تتحاور هنا، فضلاً عن نصوص ذات طبيعة شعرية/ دينية وإنشادية. وهي بذلك كله، تضعنا في قلب عالم متعدّد الأبعاد، عالم قلّما ولجته الرواية العربية بمثل هذا الجهد، بحثاً وتفكيكاً وإعادة تركيب.
في الهامش الأخير الملحق بالرواية، وقد يُعدّ جزءاً من بِنْيتها، نتعرف إلى باحث أكاديميّ، يسعى لنيل الدكتوراه، من إحدى الجامعات السويسرية، عن بحث في «ديانة العرب قبل الإسلام». فيحضر السؤال عن حجم التاريخيّ الحقيقيّ، وحجم المتخيّل في هذه الرواية، ولا إجابة محددة، إذ إننا أمام قائمة من المراجع التاريخية، من جهة، وحيال بحث ميدانيّ في الأمكنة، من جهة ثانية، وأمام أسماء حقيقية وأخرى روائية، من جهة ثالثة، ما يجعل الإجابة تقتصر على تناول لأبرز محاور هذا العمل.
أسئلة كثيرة تضعنا الرواية أمامها، وأمام اختبار حقيقيّ لرواية (الراوي) حنبل بن جرم اللات، (يظهر في الهوامش الأخيرة في الرواية باسم «أنيبالوس بن غيراموس»)، فهو من يروي ويكتب سيرة قصيّ بن كلاب «الأفكل: كبير الكهنة في مدينة تدمر السوريّة»، قصيّ الذي جاء إلى تدمر وهو دون العشرين من عمره، جاءها من مكّة، مع والدته، وعاش فيها وعايش حكّامها، من «أذينة» وصولاً إلى الملكة زنوبيا، ورحل عنها قبل المعركة الأخيرة لهذه الملكة، التي أسفرت عن هزيمتها في مواجهة إمبراطور روما أورليانوس.
على إثر هذه الهزيمة، يسوق الإمبراطور الملكة وأبناءها وبناتها وحاشيتها، بمن فيهم كبير كهنة تدمر «حنبل» نفسه، إلى السجن في روما. السجن هو أحد القصور الثلاثين التي تشكل المجمّع الإمبراطوري الكبير المسمّى «فيلا هدريانا»، قصر «بناه رئيس مجلس شيوخ تدمر الهدريانية «بونا بن خيران» تقديراً لما فعله الإمبراطور الصالح هادريانوس من أجل تدمر وشعبها»، قصر يصلح «لاستجمام الملوك»، لا لسَجنهم، فهو المنتجع الذي أراده الإمبراطور هدريانوس «مدينة فاضلة، فيها نماذج مصغّرة من أكاديميّة أفلاطون، ولوفيون أرسطو، واستوا زينون»، وفيه تشرع زنوبيا في وضع أطروحة فلسفية حول «التربية الأفلاطونية»، لكنها تموت بداء الوساوس السّود، بعد عام ونصف العام من السجن في هذا «القصر الملعون».
زنوبيا، هي إحدى الشخصيّات الأساسية في الرواية، يقدّمها الراوي على نحو يقارب «الأسطوريّ»، فهي التي عزّزت «مملكة الفضيلة»، بمن جلبتهم من فلاسفة، لكن الأبرز هو صورتها في نهاياتها، حيث «خاضت حربها مع أورليانوس بكل شرف وإقدام، على عكس ما فعل هو، إذ لم يترك خديعة أو خيانة إلا ولجأ إليها»، وهي التي «لم تكن ترغب في الحرب، ولم تسعَ إليها..»، بل كانت تدافع عن مملكتها «الفاضلة» المهددة بالسحق والزوال، وحتى حين استسلمت، «بعد أن انكسر السيف بيدها وهي تدافع عن نفسها.. استسلمت وهي شامخة الرأس».
بعد هزيمة تدمر، يعقد أورليانوس المحكمة في حمص، يقوم بتوجيه الاتهامات إلى الملكة زنوبيا ومن معها من فلاسفة، بخيانة روما، ويحكم بالصلب على كل من «كاسيوس لونجينوس الحمصيّ، وجنتليانوس أميليوس الأثرويّ، وبوسانياس الدمشقيّ، وكليكراتس الصوريّ، ونيوكوماخوس الجراسيّ، وفيليب السيثوبوليتيّ، ويعفو عن الملكة وابنها القاصر وهب اللاتوس، وعن كاهن تدمر الأكبر أنيابالوس جيراموس..» (حنبل). فتصرخ الملكة «هذا ظلم، أصلبونا جميعا، لا ذنب لهم، أنا الملكة وصاحبة القرار الأول والأخير».
هكذا كانت «مذبحة للفلاسفة» إذن، وقد «أراد أورليانوس أن تصل أصداؤها إلى أقصى أطراف الإمبراطورية لغاية في نفسه». وفي الأثناء نقرأ خبراً عن أن قصيّ الذي وصل العربية السعيدة قد «بنى مسجداً في قرية بين يثرب ونجران.. وتحلّق حوله كثير من المؤمنين بكرامته..»، أي أنّه «بنى مدينته الفاضلة». وحنبل يكتب «سيرة حياة هذا الرجل الاستثنائيّ في كلّ شيء».
ومن خلال سيرة حياة قصيّ هذا، يقدّم لنا حنبل سيرة حياة تدمر والتدمريّين، ويتجاوزها إلى عرض طروحات الفلاسفة والكهنة والديانات المنتشرة والفاعلة آنذاك. ووسط طغيان الهمّ الفلسفيّ/ الدينيّ خصوصاً، ومعالجة هذا الجانب بقدر كبير من التفاصيل، إلى حدّ يبدو معه الدخول في الحلقات الفلسفية الضيّقة، فائضاً عمّا تحتمل الرواية، فهو شأن المختصين به، وسط هذا البحر الفلسفي نسي الكاتب، أو تناسى وأهمل تفاصيل من الحياة اليوميّة للتدمريّين، الحياة بعيداً عن القصور وعن الفلاسفة، أي حياة الأسواق والحمّامات الفاخرة التي أشار إليها.
يتّخذ الراوي (حنبل) من قصيّ هذا قاعدة ارتكاز وانطلاق نحو الزهد والفضيلة، بدءاً من كونه نباتيّاً، لا يأكل اللحوم، ولا يشرب الخمور، وذلك ضمن «فلسفة» خاصة به، إذ يميّز بين النبات واللحم قائلاً، بل «رائيا» أن «اللحم مستودع الخبائث، وما نشمّه ونراه من الجيفة، إلا الخبائث الكامنة في أصلها. أما النبات، فحين يموت يجفّ ويبقى طاهراً، مهما مضى عليه الوقت، وحين نزرعه في باطن الأرض، تعود له الحياة، ويعطي ثمراً طيّبا طاهراً، فهل تشبه طهارة هذا نجاسة ذاك؟!»، وفي ما يتعلّق بالخمر فهو يرى أن «الخمر خِمار سميك يحجب العقل، والمخمور أشبه بالدّابة منه بالإنسيّ...»
تتيح الرواية، في بعض مفاصلها، إمكان إجراء مقاربات بين حوادث يسردها الراوي من ذلك التاريخ البعيد، وحوادث حصلت في التاريخ الحديث والمعاصر. وفي الإمكان التوقّف على الأقل عند حدثين معاصرين، يبدو الشبه شديداً بينهما وبين حدثين من ذلك التاريخ. الحدث الأوّل يتعلّق بسقوط روما تحت ضربات الفرس والبرابرة، وكأنه سقوط الدولة العثمانية أمام أوروبا الحديثة. بينما يتعلّق الأمر الثاني بالتشابه بين سقوط بغداد 2003، على نحو شكّل صدمة للعالم، وبين السقوط المدوّي لتدمر.
يلجأ المؤلف إلى لغات وأساليب، تراوح بين السرد الوصفي والتصوير والواقعي وبين التخييل والتصوير الفنتازيّ لبعض مشاهده. ففي ما يتعلق بالمعركة الأخيرة لتدمر، على سبيل المثال، يحضر الحسّ الغيبيّ بقوّة، فنقرأ هذا المشهد الخُرافيّ «إن المقاتلين حين سقطوا منهكين، وهلكت أجسادهم، واصلت أرواحهم القتال، لثلاثة أيام بلياليها... أرواح فرسان على حُصُنهم يكرّون، ويُغير بعضهم على بعض، وتصدر عن غاراتهم أصوات صاخبة، يمكن سماعها من مسافات بعيدة!».
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.