كوابيس بيروت، غادة السمّان (سورية)، رواية منشورات غادة السمّان - 1974

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الخميس، ١٩ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٥
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«كوابيس بيروت» لغادة السمان: امرأة تطرح أسئلة الرعب في الحرب


لا شك في أنّ أي تاريخ مقبل سيكتب لمسيرة الثقافة والفكر والإبداع في شكل عام، في لبنان، سيفرد لسنوات الحرب اللبنانية التي اندلعت ودمرت البلد بين العام 1975 والعام 1990، العدد الأكبر من الصفحات، إذ في شتى المجالات سيمكن القول ان الإبداع الحقيقي في هذا البلد ومن حوله، إنما انطلق واغتذى مما حدث خلال تلك السنوات، بصرف النظر عما كان عليه حجم قسوتها وعنفها مقابل ضآلة التغييرات الاجتماعية والذهنية التي انبثقت منها. واضح ان ثمة اختلالاً في التوازن هنا، لكن الإبداع يبدو دائماً وكأنه عوّضه. ففي السينما كانت هنا ولادة السينما اللبنانية الحقيقية، وفي الفكر شهدت تلك السنوات طفرات مدهشة، وكذلك في المسرح كما في الغناء والموسيقى والرسم والشعر وما شابه. أما في الرواية فكان التطور اكبر ويكاد يماثل ما حدث في السينما ذاتها، حيث لدينا اليوم متن روائي كبير بدأ من الحرب ومعها، ولا يزال يتواصل الى اليوم في أعمال باتت تتميز عن معظم التيارات الروائية العربية المجايلة. طبعاً لن نضع لوائح هنا لأن الأسماء، أسماء الكتاب والروايات باتت أكثر من ان يفي بها إحصاء يتاح في هذه العجالة. ومع هذا يمكن وضع اسم السورية/اللبنانية غادة السمان في المقدمة، وعلى الأقل كرائدة لرواية الحرب اللبنانية، هي التي كانت قد رسخت مكانتها منذ ما قبل ذلك بكثير على أية حال. ونتوقف هنا عند واحد من أبرز أعمال غادة السمان الروائية، «كوابيس بيروت» التي صدرت مع أولى سنوات تلك الحرب لتبدو وكأنها نبوءة!

للوهلة الأولى سيعتقد القارئ بأن «كوابيس بيروت»، مجرد تسجيل يومي لذكريات امرأة عايشت تجربة الرعب، وعاشت الليالي الطويلة في مواجهة الموت. والقارئ سوف يخامره احساس، ما ان يصل الى اطراف الصفحة رقم 500 من هذا السجل الضخم، ان هذه المرأة حين وجدت نفسها تواجه كل ذاك الرعب وكل ذاك الموت، اكتشفت انها لا تملك سوى سلاح واحد: الكلمة، الكلمة - السلاح، الكلمة - اللطمة والكلمة - التعويذة، فجلست ليلة بعد ليلة وأخذت تكتب وتكتب وتكتب حتى ملأت عشرات الصفحات، ثم جلست تستريح وقد شعرت اخيراً بأن شيئاً ما أزاح ذاك العبء عنها.

هذه الصورة لهذه المرأة، في ظل تلك التجربة، قد لا تكون بعيدة من الواقع. غير ان المهم هنا ليس الجو الذي في ظله كتبت غادة السمان هذا العمل - السفر المدهش، وإنما الشيء الذي كتبته، فالقارئ، ما ان يتجاوز الوهلة الأولى، حتى يجد نفسه في مواجهة عمل أدبي حقيقي، قد تكون ظروفه ساعدت على خلقه، وقد تكون الأقدار والمصائر والأحداث لعبت في هذا الخلق دوراً اساسياً، لكن من الواضح ان قدرة غادة السمان على التقاط الحدث - اكثر من تصويره بكل زخمه - وعلى ربط هذا الحدث بنوع من التراجع الزمني، وعلى اعطاء حياة لعشرات الشخصيات المستقاة اساساً من الواقع المعاش، من الواضح ان هذه القدرة كانت هي العنصر الأساس في الموضوع، او لنقل: المحرك الأول لهذا السيل الكبير من الأشخاص والأحداث والأحلام والكوابيس والذكريات والمواقف.

«كوابيس بيروت» في الرواية عددها 206 كوابيس، سجلها قلم غادة السمان في ظروف قد يكون من الصعب تماماً الحكم على ما اذا كان من الممكن ان تتاح لأي أديب آخر في اي زمن آخر. لكن غادة السمان، كشفت من طريق هذا المشروع، عن وحدة قاسية لامرأة بدأت تخرج عن ذاتها، لتواجه عالماً كانت قد تصورته غير هذا، امرأة خرجت من دائرة الانغلاق لتجول بعينيها ويديها في العالم الفسيح، وفي لحظة غير عادية من تاريخ هذا العالم، في لحظة تعلق فيها كل شيء بالنار والرصاص والدمار. في تلك اللحظة بالذات، وقفت الكاتبة لتتأمل الأشخاص المتحركين من حولها. أمسكت بمبضع الجرّاح وأخذت تدرس حالتهم واحداً واحداً: كل واحد من هؤلاء الأشخاص عالم قائم في ذاته: يوسف الذي تجلس معه عند شاطئ البحر، والعم فؤاد الذي بصدفة من الصدف يغني أغنياته على ألحان شوبان، نانو، الممثل المسكين الذي ظل طوال تلك الأيام مختبئاً في بيته، أمين الذي ابتلع خمس حبات «فاليوم» لكي يتمكن من النوم ولم يستطع، خاتون التي تحولت من خيّاطة الى بصّارة، شاكر الذي منعه رجال الشرطة من دخول شارع الحمراء ليبسّط على الرصيف، فاتجه ليبيع في القنطاري في يوم أسود لم يجئه فيه من الزبائن سوى أمرأة عجوز واحدة، صابر الذي عمد في نهاية الأمر إلى طرد الجثث المجهولة الهوية، وحتى المستشرق الذي كان لا يكف عن ترديد: لا غالب ولا مغلوب وفي كأسه ترتسم صورة لشاب جائع. شخصيات كثيرة لا يمكن احصاؤها... وكوابيس تطارد الكاتبة فتهرب الى الكتابة. وفي كل كابوس، رغم الشكل المترابط والمتسلسل للكوابيس، مشروع لأكثر من رواية.
ان هذا الشكل الأدبي الذي اعتمدته غادة السمان، قد لا يكون صنواً لأعمال مشابهة وإن كان اكثر غرابة. لكنه بالتأكيد شكل يضع كل الإمكانيات الذهنية في خدمة كلمة يراد لها ان تصل عالية ومدوّية. يضع تلك الرحلة العجيبة في عالم الموت والحلم والأمل، في صراع مع ذات تريد ان تتجاوز نفسها وأن تتجاوز كل ذاك الفاصل الحاد بين عالمين: عالم الداخل وعالم الخارج. وإذا كانت غادة السمان قد عجزت، ولظروف موضوعية واضحة، عن الاستمرار في محاولتها لربط العالمين ببعضهما بعضاً، وإذا كان الفارق قد ظل واضحاً بين اللحظات التي تعود فيها غادة من الداخل الى الخارج، ثم من الخارج الى الداخل... وهو فارق كان - بالتأكيد - في مصلحة الاختيار الأول، فإن هذا الكتاب قد كشف عن ان هناك اكثر من «غادة السمان» واحدة. وأن الأفضل بين الأوجه المتعددة لهذه الكاتبة الفذة، هو ذاك الوجه الذي لا يكف عن التفرس في العالم المحيط به. هو ذاك الوجه الذي يرسم علامات استفهام ساخرة، ترقص من حول عالم تراقبه، وليس بكثير من الهدوء التأملي أو الصوفي!

لقد كشف بعض أقوى صفحات «كوابيس بيروت» عن ان لدى غادة السمان امكانية لتكون من أنجح الكتّاب الواقعيين في الأدب العربي. صحيح ان بذور هذا الاكتشاف كانت تطل برأسها، بالتحديد من خلال رواية «بيروت 75» وبعض اجمل قصص مجموعة «رحيل المرافئ القديمة»... غير ان ما كان ينقص الكاتبة آنذاك، هو تلك التجربة القاسية العنيفة. هو تلك المواجهة مع الآخرين من طريق معايشة الآخرين، وليس من طريق انعكاسهم المجرد على مرآة الذات. وهذا النقص تقلص الى حد كبير في بعض اقوى صفحات «كوابيس بيروت». ففي تلك الصفحات التي تواجه فيها غادة عالماً بدأت تفهمه وتفهم ما يحدث فيه، وسبب ما يحدث فيه، برزت مقدرة الكاتبة التي تشير بالتأكيد الى أن اعمالها المقبلة ستختلف جذرياً عن أعمالها السابقة، مع درجة متزايدة من الوعي الاجتماعي، وتركيز متزايد على الغوص في أعماق الواقع وهو ما حدث بالفعل في العديد من إنتاجاتها اللاحقة. ولقد كشفت «كوابيس بيروت» أيضاً أن غادة السمان لا تفتقر الى الخيال، ولا الى رهافة الحس، ولا الى القدرة على التسلل الى داخل حياة شخصياتها. ولكن اذا كان هذا كله قد تجلى في عدد كبير من صفحات «كوابيس بيروت» فإن صفحات كثيرة اخرى أتت يومها لتطرح امامنا، وأمام غادة السمان، سؤالاً مهماً يتعلق بـ «هل يحق للكاتب بعد ان ينجز عمله أن يقدمه كما هو، مادة خاماً» ام ان عليه ان يعيد النظر فيه اكثر من مرة». انه سؤال طُرح على هامش عمل رأى البعض يومها أن طوله يزعج احياناً. غير ان ما غفر لهذا الطول هو الثراء الفاحش المتجلي في كل صفحة، ولا سيما في الصفحات الخمسة والعشرين الأخيرة حيث قدمت غادة السمان في «مشاريعها الكابوسية» بعض أقوى ما كُتب في «الرواية» العربية خلال تلك السنوات، إلى جانب «مرايا» نجيب محفوظ ؟

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)