الإثنين 24 يونيو 2019
جريدة رأي اليوم الإلكترونية
ثقافة - راي اليوم
د. محمّد محمّد خطّابي - كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا
فيلم “كَازَابْلاَنْكَا” مَا فَتِئَ يُقاوِمُ الزّمَن ويُبْهِرُ المُشَاهِدِين
77 عاماً مرّت على ظهور فيلم ” كازابلانكا” و 62 عاماً على رحيل بطله الأسطوري “همفري بوغارت” حيث أصبح هذا الفيلم من أشهر الأفلام التي أنتجتها هوليود أوائل الأربعينيّات من القرن الفارط ،عاد الحديث عنه فى مختلف الاوساط الأدبية،والنقدية، والسّينمائية فى أوربا وأمريكا على وجه الخصوص ، ففى 14 يناير من عام 1957 توفي بطل هذا الفيلم هُمفري بوغارت بعد أن بصم على الشاشة الكبيرة إحدى أكبر الأساطير الرومانسيّة فى تاريخ الفنّ السابع. وبعد أن خلّف لنا عشرين فيلماً دخلت برمّتها تاريخ السّينما العالمية من أوسع أبوابها، وفى طليعتها فيلم “كازابلانكا” الذائع الصّيت الذي ما فتئ يُبهِر عشّاق الفنّ السّابع، ويُسحر المشاهدين جيلاً بعد جيل، ويساير ويعايش كلّ عصر، وأصبح – نتيجة النجاحات المتوالية التي حققها منذ ظهوره أوّل مرّة عام 1942- تراثاً إنسانياً مشتركاً فى عالم السّينما السّاحر.
هذا الممثل ذو الملامح الجادّة،والقسمات الصّارمة ، والنظرات الثاقبة،والطبع الجافّ بغضّ النظر عن العشرين فيلماً الأخرى التي مثّل فيها دور البطولة،فإنّ فيلم كازابلانكا هو الذي جعله يتدثّر بأردية الرومانسيّة الحالمة فى أبهىَ صورها عندما يقع فى غرام الممثلة السّويدية الرّقيقة ذات الحُسن الباهر، والجمال الظاهر إنغريد بيرغمان ،والذي كان يُهدّئ من رَوْع تباريحه، ويداري حدّة معاناته فى حبّها فى إحدى قاعات الليل المُهيّأة للحفلات فى مدينة الدار البيضاء بالمغرب . اثنان وستّون عاماً مرّت على رحيل هذا الممثل الغريب الأطوار ،وسبعة وسبعون عاماً على ظهورهذا الفيلم الذي ما فتئ يخطف أنظار المشاهدين ،ويحصد إعجابهم إلى اليوم،وقد حزّ فى قلوب عشّاق الفنّ السّابع عندما رأوا البيانو الشّهير الذي كان يتوسّط الصالون الكبير لمقهى “ريك” بالمدينة البيضاء الذي كان يعزف عليه ” ديلي ويلسُون” أغنية ” يجب ألاّ يَعزُبَ هذا عن بالك قُبلة إنما هي مُجرد قُبلة” قد زُجّ به بين بضائع قديمة، وكراكيب مهترئة ليباع فى المزاد العلني.
“كتاب السّينما الخالد ” !
“كازابلانكا” الفيلم الأسطوري الذي ما إنفكّت تزيده مرورالأيّام إشعاعا وتالّقا ،وما زال يلهب مشاعرَ المشاهدين فى مختلف أنحاء المعمور ، وينال إعجاب الناس وإقبالهم عليه بشكل ليس له نظير فى مختلف فنون الخلق والإبداع الأخرى.حتى أصبح هذا الفيلم فى عُرف النقّاد، و صُنّاع السينما، والمُغرمين به بمثابة “كِتَاب السّينما المقدّس” فى تاريخ هذا الفنّ الجميل. فى هذا السياق يتساءل الناقد السّينمائي الإسباني ” خابيير كورتيخو”: كيف يُعقل أنّ فيلما كُتب بطريقة عفوية إرتجالية على عجل، قد تحوّل إلى “كتاب السينما المقدّس”، وكيف يمكن لفيلم وُلد من رحم عمل مسرحي، إذ هو مُستوحىً من مسرحية ” الجميع يؤمّ مقهى ريك ” لمُورَايْ بَارنيت وجون أليسون أن يتحدّى مرور الزمن ، وأن يتأقلم مع مختلف تقاليع الموضة ، والتيّارات والميولات المستجدّة والمتواترة، بل وحتى مع بعض التأويلات الملتوية ليخلد فى ذاكرة تاريخ السينما فى العالم..؟ كيف أمكن لموسيقاه أن تظل خالدة ولايمرّ عليها الزّمن..؟ و كيف أمكن لنبل المشاعر، ونبض الأحاسيس التي تترى بدون رتابة أو ملل فى هذا الشريط أن تظلّ نصب أعيننا إلى اليوم..؟ كيف أمكن لوجه إنغريد بيرغمان الصّبوح أن يظلّ مشعّاً وضّاءً، سَمْحاً وساحراً على مرّ السنين..؟ الأمر يبدو كما لو كان قد مسّته مسحة أو مسّ من سرّ أو سحر، أو غلفته معجزة مّا . ماذا وراء هذه الفُرجة المرئية الحالمة المثيرة..؟ هذه الميلودراما التي تحفل بالومضات والجمل التي لا يمكن محوها من الذاكرة ، والتي لا نتعب أو نملّ من مشاهدتها أو تردادها المرّة تلو الأخرى.ربما هذا هو السّبب الذي حدا بالعديد من النقاد والمشتغلين بالسينما فى العالم عند حديثهم عن هذا الفيلم، وعن النجاحات الكبرى المتوالية التى حصدها على إمتداد العقود السبعة التي مرّت عليه ،إلى القول أن هذا الفيلم قد أصبح فى عرفهم “تراثا عالميّاً للبشرية جمعاء”.
رقّة وخُشونة وطراوة ورُعونة ..
يُعتبر فيلم “كازابلانكا” من أجمل الأفلام الفريدة في تاريخ السينما الأمريكية التي جسّدت الرومانسية الحالمة لقصّة حبّ عارمة إبّان الحرب العالمية الثانية ، وقد جمع الشريط بين نعومة ورقّة إنغريد بيرغمان، وخشونة وغلظة همفري بُوغارت، وأصبحت العديد من الجُمل والتعابير التي نطقها البطلان في الفيلم تشكّل إرثاً حيّاً في الثقافة اللغوية الشعبية داخل أمريكا وخارجها ، مثل عبارة:” إعزفها يا سام” أو عبارة:”دائماً تبقى لنا باريس” ، دخلت هذه الجمل والتعابيراللغة، واستقرّت في لسان الإستعمال اليومي في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، بل وفى سواها من اللغات الأخرى. وأصبحت ذات كيان أو هويّة لغوية لها دلالات خاصة بها بعيداً عن سياق إستعمالها في الشريط ، ففي مناسبتين مختلفتين ومتباعدتين من الفيلم يطلب البطلان من “سام” (ديلي ويلسون) كلُّ واحدٍ منهما على إنفراد عزف نفس المقطوعة الموسيقية الساحرة ( إنسياب الزّمن أو مروره)على ” البيانو” الذي كان يتوسّط مقهى “ريك” في قلب مدينة الدار البيضاء المغربية، ففي المناسبة الأولى تطلب البطلة (بيرغمان) من “سام “العزف، كما ترجو منه بأن يغنّي إستذكاراً وإستحضاراً للزّمن الجميل الذي ولّىّ وانقضى ولن يعود.وفي مناسبة أخرى يطلب البطل(بوغارت) من” سام” عزف المقطوعة ذاتها حيث يقول له وهو يستشيط غضباً : “لقد عزفتها لها، والآن عليك أن تعزفها لي أنا كذلك ،إذا كانت قد إستطاعت أن تتحمّل ثقل الوطأة عليها ، فأنا بمقدوري أن أتحمّل ذلك أيضاً”. ثم تنطلق الموسيقى تصدح منسابة رخيمة في فضاء وجنبات المقهى الكبير.
دائماً تبقى لنا باريس !
عبارة “ودائماً تبقى لنا باريس” ! أضحت من أشهرالعبارات التي ما فتئت تُستعمل جيلاً بعد جيل، وتلوكها الألسن حتى اليوم كناية عن اللحظات الحلوة ، و الهنيهات السعيدة المعاشة، وهي العبارة التي ينطق بها “ريك” (بوغارت) إلى “إلسَا” (بيرغمان) عندما يهمّ لوداعها معبّراً عن حسرته، وألمه ،وحنقه لفراقها، لفراق هذا الحبّ المستحيل الذي نما وترعرع في فرنسا في ظروف وملابسات صعبة ومريرة إبّان غزو النازيين لهذا البلد حيث تعرّف البطل على خليلته في عاصمة النور باريس.وكانت ” إلسَا” تشعر بالحيرة والضياع بين حبّها لزوجها زعيم المقاومة التشيكية وتعلقها بريك.
لقد صنّف معهد السينما الأمريكية في مناسبات شتّى فيلم “كازابلانكا” ضمن قائمته كأحسن الأفلام التي تضمّنت أجملَ العبارات ،وأرقَّ الجمل في تاريخ السينما الأمريكية وفي مقدّمتها عبارة ” إعزفها يا سام”بل إنّ المخرج الشهير “هودى آلن “قد وضع فيلماً عام 1972 يحمل عنواناً بنفس هذه العبارة ،حيث يتلقّى البطل في هذا الشريط النصائح من ” همفري بوغار” خيالي.إلاّ أنه أوردها كما يلي:” إعزفها مرّة أخرى يا سام”.
حرب وجاسوسيّة وتباريح الجوىَ
يبدو هذا الفيلم في البداية كشريط يدور موضوعه عن الحرب والجاسوسية لإثارة الحماس، وتأصيل وبثّ حبّ الوطن لدى المواطنين الأمريكيّين في زخم الحرب العالمية الثانية، حيث يظهر البطل (بوغارت) وكأنّه في البداية لا يريد أن يحشر نفسَه في هذا النزاع إنطلاقاً من مدينة الدار البيضاء (كازابلانكا) إلاّ أنه في الأخير يتخلّى عن محبوبته لصالح مناهضة الفاشية.
على الرغم من مضمون الفيلم الأيديولوجي ومحتواه الحربي إلاّ أنّ شريط (كازابلانكا) يتذكّره الجميع كفيلم يدور موضوعه عن الرومانسية الحالمة، وتباريح الجوى، والصبابة، والحب الشفيف ،وكأنّ الفيلم قد غدا فى نظر كثير من المشاهدين قصيدة،أو قصّة حبّ مصوّرة يحفظها العشّاق عن ظهر قلب (وعن ظهر عين !) من جيل إلى جيل فى مختلف أنحاء المعمور. فلا عجب إذن إذا إحتلّ هذا الفيلم الرتبة الأولى في قائمة “المعهد الامريكي للسينما” كأعظم قصّة حبّ في تاريخ السينما الأمريكية.كما يحتلّ هذا الشريط الرتبة الأولى كذلك كأحسن سيناريو سينمائي حسب “نقابة كتّاب السيناريو” في الولايات المتحدة الأمريكية ، فقد تفوّق “كازابلانكا” حتى على أفلام عالمية شهيرة أخرى مثل “العرّاب” و”شيناتاون” و”مواطن كين”.هذا الشريط الذي هو من إخراج ” مايكل كرتيز” حصد ثلاث جوائز الأوسكارمنها أوسكار كاحسن فيلم ، وأحسن إخراج ، وأحسن سيناريو،حتى وإن لم يحصل أيّ من الممثلين العمالقة الذين شاركوا فيه على هذه الجائزة الكبرى في عالم الفنّ السابع.
وبمناسبة مرور سبعة عقود ونيّف على هذه التحفة السينمائية الرائعة كانت قد أقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية فعاليات الإحتفال بالذكرى السبعين لعرض هذا الفيلم لأوّل مرّة عام 1942 بتقديمه في مسرح “وارنر” التابع للمتحف التاريخي الأمريكي بواشنطن.كما كانت مؤسّسة ” وارنر بروذرس” قد أخرجت طبعة خاصة جديدة محدودة من هذا الفيلم وطرحتها في مختلف المدن الأمريكية مصحوبة بشريطيْن وثائقيْين حوله تمّ عرضهما في الأسواق الأوّل مرّة كذلك. بالإضافة إلى مطبوعات تتضمّن أخباراً، وصوراً ،ومشاهدَ لم يسبق نشرها أو مشاهدتها من قبل حول هذا الفيلم.
مقهى ريك..!
المقهي الأسطوري”ريك” الذي دارت بداخله أحداث فيلم كازابلانكا العاطفي المثير لم يعد خيالاً في مخيّلة المشاهدين الذين شاهدوا واستمتعوا بهذا الفيلم الأمريكي منذ 77 سنة خلت والذي ما زال يعيش بين ظهرانينا حتى اليوم ، بل إنّ هذا المقهى قد أصبح حقيقة ماثلة نصب أعيننا بعد أن قرّرت مواطنة أمريكية تدعى “كاثي كريغر” عام 2004 إفتتاح مقهى كبير في قلب مدينة الدار البيضاء يحمل إسم المقهى الرومانسي “ريك” الذى كان يمتكه ويديره في فيلم كازابلانكا مواطن أمريكي وهو بطل الفيلم ريك (همفري بوغارت). وكانت هذه المواطنة الأمريكية تعمل من قبل بسفارة بلادها في المغرب، وبعد إنتهاء مهمّتها في السلك الدبلوماسي قرّرت القيام بهذه المغامرة الاستثمارية الكبرى التي كلفتها ما يناهز المليون دولار.
المقهى الذى رآه المشاهدون في الفيلم كان قد أقيم في الحقيقة في أحد إستوديوهات هوليود. وكان السيّاح الأوروبيّون وبشكل خاص الأمريكيّون الذين يزورون مدينة الدار البيضاء المغربية لا يجدون أثراً لهذا المقهي للإستمتاع بأجواء هذا المكان الأمريكي السّحرى الحالم الذي رأوه في فيلم “كازابلانكا” وهامُوا به، وها هي ذي الأسطورة تصبح اليوم حقيقة ، وينزل الخيالُ من عليائه ليرتطم بأرض الواقع،وها هو ذا مقهى “ريك”الجديد قد عاد وفتح أبوابه مرّةً أخرى على نفس شاكلة المقهى القديم،محتفظاً بأجوائه الرومانسيّة الحالمة ، وبرونقه، وبهائه، وأصبح يؤمّه العشرات من الزوّار كلّ يوم، ولا عجب إذا كان مُعظم زوّاره أو روّاده فى المقام الاوّل من المواطنين الأمريكيّين، كما يؤمّه زوّار من جنسيات أخرى من مختلف أنحاء العالم وهم يحتسون فنجانَ قهوة،أويشربون كأسَ شايٍ مُنعنع، أو يتناولون شراباً حُلواً أو مُرّاً، ويتناولون طعاماً مُزّاً وهم يحدّقون، وينظرون بإعجاب إلى الصّور الكبرى (أبيض وأسود) التي تعلو جدرانَه المخمليّة لبطليْ الفيلم إنغريد برغمان، وهمفري بوغارت وسواهما من الممثلين الذين شاركوا فى هذه التّحفة السينمائيّة الفريد التي ما إنفكّت تملأ قاعات العرض السينمائية فى مختلف أرجاء المعمور إلى اليوم..
عن موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية
من تقديم مؤسس ورئيس تحرير جريدة رأي اليوم الإلكترونية
سياستنا في هذه الصحيفة “رأي اليوم”، ان نكون مستقلين في زمن الاستقطابات الصحافية والاعلامية الصاخب، واول عناوين هذا الاستقلال هو تقليص المصاريف والنفقات، والتمسك بالمهنية العالية، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بقدر الامكان، والانحياز الى القارئ فقط واملاءاته، فنحن في منطقة ملتهبة، تخرج من حرب لتقع في اخرى، في ظل خطف لثورات الامل في التغيير الديمقراطي من قبل ثورات مضادة اعادت عقارب الساعة الى الوراء للأسف.
اخترنا اسم الصحيفة الذي يركز على “الرأي” ليس “تقليلا” من اهمية الخبر، وانما تعزيز له، ففي ظل الاحداث المتسارعة، وتصاعد عمليات التضليل والخداع من قبل مؤسسات عربية وعالمية جبارة تجسد قوى وامبراطوريات اعلامية كبرى، تبرخ على ميزانيات بمليارات الدولارات، رأينا ان هذه المرحلة تتطلب تركيزا اكبر على الرأي المستقل والتحليل المتعمق، وتسمية الامور باسمائها دون خوف.