جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 11-09-2019
المدن - ثقافة
شريف الشافعي - كاتب وشاعر مصري
"غنا المجاذيب" لمنال السيد..انفلات سينمائي من واقع عبثي
كثيرة هي مسارات تكسير واقع القاهرة الراهن، الخانق القاهر، الذي لم يعد يرضى عنه المنغمسون بأجسادهم في ترابه، الغارقون في زيفه وأوبئته وكوارثه وتسونامي انحداره وانحلاله، حيث التردي المجتمعي والتاريخي والمكاني في وطن تبدل كل شيء فيه إلى المرارة والبؤس والوجع والقيد والانسحاق.
في مثل هذه الأجواء المستغلقة، والدوائر المأسوية كدوّامات من جحيم وأدخنة، يصير أقرب إلى المستحيل استدعاء إرادة التغيير، أو حتى أسلحة المقاومة، ويكاد يقترن التمرد المزعوم على ما هو كائن بشق أنفاق للهروب، وليس بخلق واقع جديد، أو إزاحة الحقيقة وتدميرها بقبضة يد واعية.
المسارات المتاحة لنفي الواقع ورفضه هي ببساطة سيناريوهات الرحيل الفعلي والمجازي عن إحداثياته المكانية والزمانية، عبر طرق وآليات شتى، منها: السباحة في ذكريات الماضي، وامتطاء بساط الريح مع الخيالات والأساطير والقصص الوهمية والسير الشعبية المأثورة، واستدعاء شريط الصور الشخصية “الخاصة” ومشاهد الأفلام السينمائية “العامة” وأبطالها بالأبيض والأسود، والتوحّد مع جنون المجاذيب في غنائهم الهيستيري المُفجع، وضحكاتهم التي بطعم البُكاء.
في روايتها “غنا المجاذيب”، تتحد الكاتبة منال السيد، مع الراوية الأساسية للأحداث المفتتة المفككة “الفتاة ابنة محمد وبهية”، ومع شخصيات منطقة كوبري وحدائق القبة ومنشية الصدر (شرق القاهرة) التي تزيد على عشرين رجلًا وامرأة وطفلًا في حيز زمني يتمحور في معظمه حول الربع الأخير من القرن العشرين (زمن نضج الفتاة الراوية، المولودة في 15 يونيو/حزيران 1971).
كذلك، من جهة أخرى، تتطابق الكاتبة حدّ التماهي مع مفردتي عنوان روايتها “غنا المجاذيب”؛ فهي تتحدث بلسان “الغناء” الذاتي والمونولوج الداخلي على طول الخط الدرامي الحافل بالتشرذم والتشظي، مهما حاولت إخفاء ذلك الصوت الأحادي بالحيل السردية المتنوعة والشخصيات المتعددة، كما أنها تتسلل من مسامّ الجلد وشقوقه لدى مجاذيب جامع محمد فرج في “حدائق القبة” لتتقمص قلوبهم وأكبادهم وأرواحهم، وتطلق أغنياتها وملاحمها من أفواههم، وذلك مفتاح الرواية الحقيقي الأول، الذي يقود إلى قراءة مغايرة لعبث الحياة، بالخلط بين عوالم المجاذيب وعوالم الأصحاء بشكل سريالي، ليتبادلوا الأدوار والمقاعد، ويبقى السؤال معلقًا: “مَن المجنون ومَن العاقل؟!”.
أما المفتاح الثاني للولوج إلى عالم الرواية الاستثنائي فهو “شبّاك” السينما المفتوح على أزمنة غابرة مرت بالمكان “حدائق القبة”، في أيام مجده، فهو الشاهد على قصر نجيب الريحاني وفيلا جورج ودولت أبيض، واستوديو جلال، وهو كذلك منفذ الإطلال على أحداث سينمائية وردت في أفلام شهيرة، يجري استدعاؤها من خلال الراوية المحورية وشخصيات العمل السردي الثانوية الكثيرة، وتتماسّ بعض مواقف هذه الشخصيات حرفيًّا مع مرّ به أبطال أفلام الأبيض والأسود رشدي أباظة ومديحة يسري وعماد حمدي وسامية جمال وتحية كاريوكا وسناء جميل وهدى سلطان وشادية وآخرون في مشاهد بعينها في أفلام من قبيل: “امرأة على الطريق”، “المومياء”، “شباب امرأة”، “الزوجة الثانية”، وغيرها.
أما كلمة السر اللازمة لعمل هذين المفتاحين معًا من أجل فك شفرات الرواية غير النمطية فهي “الانفلات” في كل شيء، والذي ينسحب على كل شيء: الحبكة الدرامية، تسلسل الأحداث وترابطها، لغة السرد والحوار، الراوية الرئيسية، الشخصيات الروائية، المجاذيب، أبطال الأفلام السينمائية، الخ.
هذا الانغماس التام في الانفلات، على مستوى العجينة التشكيلية للرواية والخميرة الصياغية النشطة والأطر الهيكلية والقياسات البنائية وأبجديات رسم التحركات والعلاقات والمصائر البشرية وما إلى ذلك من عناصر التوليفة ومفرداتها، قاد في محصلته الجمعية المنطقية إلى رواية منفلتة، خارج الحسابات الرياضية والهندسية والمعايير المألوفة في الرواية المصرية الحديثة، فهي نثارات قصصية ومرايا صغيرة متجاورة متحاورة، بؤرتها المركزية هي الفتاة الراوية التي تطل على جميع الأفراد وتفلسف كل التصرفات والأحداث وتستدعي الذكريات والمشاهد والصور، وانعكاساتها وظلالها هي بقية الشخصيات التي تزيد على عشرين فردًا، والتي تأخذ أدوراها في الحكي عن نفسها والآخرين في الجزء الثاني من العمل، الذي تتنحى فيه الراوية عن الواجهة منسحبة إلى الهامش.
أمران آخران منحا الرواية انفلاتًا إضافيًّا؛ الأول: الشفافية الشعرية في الاستشعار والتعبير اللغوي: “في التل لم يعد هناك قمر في السماء، كان قد هجر مكانه، واستقر فوق جبين عمتي فاطمة”، والثاني: فتح مجال الخيال الروائي للساردة على السيرة الذاتية للكاتبة نفسها، في تفاعلها المباشر مع “حدائق القبة” كخريطة مكانية وبشرية وتاريخية، ومصدر إلهام سينمائي (استوديو جلال، قصر الريحاني، فيلا أبيض)، وملعب للجن والأحلام والأساطير والشخصيات العجائبية (مجاذيب الجامع والحضرة الصوفية، والجارة “سنية المجنونة” على وجه الخصوص).
هكذا اكتملت الخيوط والخطوط والخامات في التكوين الكولاجي البديع المرهق، ليجد القارئ ذاته في متاهات صغيرة متداخلة تقود إلى الشتات الأكبر، فالراوية العليمة المحيطة بالشخوص والأحداث، والتي لا مسمّى لها سوى أنها “ابنة محمد وبهية”، تطلق روايتها منذ أولى كلماتها من منصة التمزق والتعب: “هو التعب إذن، تعب من جمع أجزاء الصورة. ناس كثيرون يقفون مكتوفي الأيدي، يتأففون من طول الانتظار”. وفي مقابل رصيف محطة قطار منشية الصدر الذي تحتله الطوابير، ثمة طوابير افتراضية أخرى، عالقة بالاستوديو والسينما والسينمائيين: “سينما سينما سينما، دولت أبيض رفعت حاجبيها في كبرياء، بصت لزوجها من تحت نظارتها: طيب أحسن نبني الفيلا في شارع الملك، ليه نبنيها وسط غيطان الحدايق؟!”.
تقص الفتاة عن إخوتها وأمها وأبيها وعمتها وجدها وجدتها وجيرانها، وتتداعى اليوميات الصغيرة كهدف بحد ذاته للإفضاء الإنساني الاعتيادي المشحون بالمفارقات والشجن والخلافات العائلية وما إلى ذلك من صور الحياة التي هي هكذا في الحقيقة بدون رتوش، وفي الأغلب بلا قضايا كبرى وشعارات مفتعلة وسط الهموم الطاغية المسيطرة على البشر المطحونين من أبناء الطبقة المتوسطة وما دونها.
وبين المشكلات والنزاعات والفقر والقهر والخيانات والحرمان والاحتياج والتهميش والفقد والموت، يضيق الأفق وتنسدّ الدروب وتتكالب المحن وتتأزم الحياة بوصفها محنة هي الأخرى لا يمكن مواجهتها سوى بالتلاشي أو بالهروب إلى صور الماضي الحية أو بالإبحار في الأحلام والأساطير أو بالجنون.
لم تعمد الكاتبة إلى اتخاذ نسق بنائي محكم، فالعالم نفسه كما تراه محض أنقاض متهاوية، والراوية العليمة تقص شذرات من هنا وهناك (موت العمة، مرض الجدة، إصابة الأخ في حادث قطار، طلاق الجارة، الخ)، ثم تقص الشخصيات الأخرى باقتضاب المواقف ذاتها بدون إضافة وجهات نظر مغايرة، فلربما أرادتهم الكاتبة مجرد “كورال” أو “جوقة” لترديد ما قيل إمعانًا في تأصيله كفلك غائي يدور فيه النص الضيق المحبوك على مقاس محدد بعناية، دون زيادة أو تأويلات.
توزّع الراوية غناءها الشجيّ على ألسنة شخوصها، أما روحها الحقيقية فهي تلك المفتتة الذائبة في شخصيات المجاذيب، وفي شخصية الجارة “سنية المجنونة” ذات الأفعال الخارقة. وعن هؤلاء المجاذيب تحكي: “المجاذيب، ليس بالضرورة أن تكون وجوههم متسخة، ملابسهم يملؤها طين متيبس، شعورهم ثقيلة من وطئ الرياح لها. ليس بالضرورة أن تكون أقدامهم جافة، كل هذا ليس مهمًا، فدائمًا عيونهم تبرق، وحتى في صمتهم يغنون”. أما “سنية المجنونة” فإنها تلك المرأة المتجاوزة، التي “تصنع كل الأشياء في الوقت ذاته، بسرعة خيالية”، ولذلك يراها العقلاء مجنونة، وتراهم هي “خائبين”.
ومثلما تماهت الفتاة الراوية مع شادية في أحد أفلامها، وهي تلف فستانها أعلى جذعها كتمثال تغلي فيه الحياة، فإن قارئ رواية منال السيد يجد نفسه متدثرًا بالسخونة النابعة من أنفاس صادقة متلاحقة، من لحم ودم وروح، تفر من صدور العقلاء والمجانين، لتصيبه بلوثة كدوار البحر، إلا أن هذا القارئ يجد ما يحدث له أمرًا محبّبًا، فكم من جَمَال يحمل في يده الوخزات.
(*) صدرت عن “الدار المصرية اللبنانية”.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.