صنعائي، نادية الكوكباني (اليمن)، رواية Nadia Al Kawâkibânî - Yémen

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 12-12-2015، العدد: 10125، ص(17)
الصفحة : ثقافة
ممدوح فرّاج النّابي


’صنعائي’.. أسرار المدينة ووجوهها المتعددة


رغم ما يحفل به اليمن ومدينة صنعاء على وجه الخصوص من مُنجز حضاريّ وثقافيّ وتاريخيّ حافل وثريّ يدفع المدينة إلى أن تتبوّأ مكانة عالميّة، فإنها لم تجن من كلّ هذا إلا الحروب والدمار، ولم يبقَ فيها إلا دويّ المدافع والصراعات بين التقليديين مِن حرّاس الإمام المتزمتين والحداثيين من الجمهوريين. هذا ما ترصده رواية “صنعائي” لنادية الكوكباني، الصراعات التاريخية المتواصلة في هذا البلد إلى اليوم، مبعثرة أحلام شعبه على مدى الماضي السحيق.

تُقدِّم الروائية اليمنية نادية الكوكباني في رواية «صنعائي» الصّادرة في طبعة ثانية عن دار الحوار 2015، وقد سبقتها طبعة عن مركز عبادي بصنعاء، وجوه مدينة صنعاء المتعدّدة؛ وجه المدنيّة، وجه الحبّ ووجه الحرب والصراع، وهذا الأخير شكّلته ميليشيات الصّراع السّياسيّ في اليمن، وهو الذي شكّل منعطفا خطيرا في تاريخ اليمن الحديث، فقد انعكس على نهضتها وأخرجها من اللحاق بركب التنمية والتقدّم الذي لم تلحق به، فقد جز عام 1948 الإمام أحمد أعناق الثوّار وأباح صنعاء لجشع ووحشية أفراد القبائل الذين اقتحموا المدينة ونهشوا خيرات أسواقها ونهبوا مخازن حكّامها وأغنيائها، دمّروا منازلها وقتلوا مَن وجدوه من البشر، لم يفرّقوا بين أطفال أو نساء أو شيوخ، وتلت ذلك صراعات توالت في أعوام 52، 62 حتى انتهت بحصار صنعاء 1968 وقتل وسجن وتهجير مَن قام بتحريرها. ثمّ بعد اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي 1978، ومع الوحدة بين طرفي اليمن الشمالي والجنوبي التي أعقبت حرب 1994 وهلل لها اليمنيون، إلا أن السّاردة تقدّم لنا الصّورة الأخرى لهذه الوحدة التي كان ظاهرها الدفاع عن الوحدة، لكن جوهرها هو تصفيّة القوى المدنيّة.

الحرب والحب

كان طغيان المادة التاريخيّة التي جاءت مُدْمَجة في نسيج السّرد عبر حكايات الشخصيات عن الماضي في رواية «صنعائي» عاملا لكشف اللثام عن حالة التشويه والتزييف التي مورست ضدّ الثوّار الذين اغتيلوا مرتين، جسديّا ومعنويّا وهو ما فطن إليه والد البطلة الهارب في عزلته بعد أحداث الحصار، والذي تستهل الرواية أحداثها بعودته إلى مدينته التي عشقها ودافع عنها وأورث عشقه لها لابنته، ولكنه عاد جسدا مسجّى ليدفن في مدافن خزيمة المرأة اليهودية التي كشفت وجها من رحابة المدينة في قبول الآخر والتعايش معه، عندما أخبرها بجوهر الصراع وأنه ليس كائنا “في خشية القوى التقليدية من قوى الحداثة والمدنية التي أظهرها الشباب في الجيش وفي نسيج المجتمع أثناء الدفاع عن صنعاء”.

تتخذ الكاتبة من التاريخ والأحداث السياسيّة التي كانت أشبه بصراع على السُّلطة في اليمن بين معسكري التقليديين والمحدثين إطارا لروايتها، كما توغل في المدونة التاريخية، ليس فقط قصد قراءة الماضي بعيدا عن الرواية الرسميّة، وإنما لتقرأ الحاضر الذي يتجاوز الصّراع الدائر في اليمن منذ أحداث 11 فبراير 2011، إلى قراءة واقعنا العربيّ بعد عثرات الربيع، وحالات الإخفاقات التي انتهت إليها جميع دوله في هذا المشهد البائس، لتقول لنا كيف أدار الرجعيون المعركة، قديما وحديثا؟ بإحالة وقائعها على أحداث الماضي.

ثمّة وجه آخر يطلّ على المدينة القديمة غير وجه الحرب والصراع السياسي، وهو وجه الحبّ الذي جمع بين صبحيّة وحميد عندما التقته في مرسمها صدفة، فقصّة الحبّ التي جمعت بينهما كانت المدينة صنعاء شاهدة عليها بل ومُحفِّزة لها، فصبحيّة التي غرس فيها أبوها حبّ المدينة تتمنّى أنْ تتزوجَ «مِن رجل صَنعائي خالص مئة في المئة، نشأ وتربى في المدنية القديمة تحديدا، يعرف أزقتها، لعب في حواريها، وعجنته عاداتها وتقاليدها الإنسانية، حتى غدا إنسانا يجري في دمه حبّ المدينة وألقها الذي لم يَخْبُ لحظة منذ ألفي عامٍ ويزيد، رجل صنعائي مثل أبي» وهو ما يتحقّق في حميد الضابط الخمسيني ابن واحد من الثوّار الذين قتلوا في حصار السبعين، يشاطرها الوله بالمكان والغيرة عليه، وهو ما يدفعه في بداية الأمر إلى استنكار قدومها للمكان، ومشاطرته هذا الحب للمدينة التي يرى أنه لا يحبُّها أحد أكثر منه، فيتساءل «هل أردت الانتقام منها لترحل عن مدينتي؟»، ويمارسان في المدينة عشقهما وجولاتهما في أزقتها وحماماتها القديمة، ويرتشفان قهوتها ويتجولان في أسواقها الأثرية. يحفر العشق بينهما طريقه، حتى تظهر صاحبة الستارة التي تكشف عن الصورة الأخرى لحميد العاشق والمولع بالنّساء وعن تعدّد علاقاته، فهو زوج وله أبناء إلا أنّه محبّ للنساء وعاشق لجمالهن.

استعادة المدينة

سعت السّاردة عبر حالة التماهي بين شخصياتها والمكان/ صنعاء القديمة، إلى استعادة هذه المدينة بكافة وجوهها التاريخيّة وصراعاتها الدموية والثقافية، وأيضا برحابتها في قبول الآخر، وبثوّارها الحقيقيين كالبطل علي عبدالمغني، وأماكنها المتعدّدة التي تعكس تاريخا حافلا شاهدته حاراتها وأزقتها وسورها القديم بأبوابه الكثيرة، وحماماتها التركية، ومقاهيها مثل مقهى سمسرة وردة الشهير، ونساء المقهوية وأسواقها كسوق البقر، وبملابسها المميّزة السترة واللثمة في صورة تقية والرجال بالزنّة، وكذلك طقوس الاستحمام في الحمامات التركية، ونساء البلدة وما يفعلنه من طقوس لسحر الرجال بغية غوايتهم.

وكذلك تتناول الكاتبة ما تحويه المدينة من عادات خاصة بأهل صنعاء كمقايل القات التي يمارسها الرجال بعد العصر، والرقصات التي تتميّز بالدلال والغنج، التي علّم الجدّ منها زوجته سمرة الجدة، والتي راحت هي الأخرى تُعلِّم حفيدتها خطوات الرقص الثلاث الدعسة والوسطى والسّارع، كانت الاستعادة كاملة بما في ذلك الأسماء العربية التي منحتها لأبطالها كـ: تقية، صبحيّة، حميد، حظية،حورية مسك، ذهبة، وغمدان. وكذلك الأغاني اليمنيّة وأشهر مطربيها مثل أحمد السنيدار، وعلي السّمة، ومحمد الحارثي، وصناعاتها مثل الجنبية والخناجر التي تتوّسط جسد الرّجل اليمني، كدليل على عنفوانه ورجولته.

جاءت هذه الاستعادة عبر نسيج سردي محكوم بلغة رشيقة غنائية في كثير من أجزاء السّرد حيث الحنين إلى الماضي وتدفق الذكريات، وعبر صوتي صبحيّة وحميد اللذين كانا يتبادلان السرد والفصول، في تقنية جعلت من صوتيهما بمثابة القرار والجواب؛ فالأسئلة الكثيرة التي كانت تطرحها صبحيّة كان يأتي الجواب عنها في سرد حميد، كما أن البناء السردي كان أشبه ببناء معماري، إذ نقلت الكاتبة خبرتها الهندسية إلى الحكاية، فبدأت فصولها بمقتطفات لها دلالاتها داخل سياق الفصل، وبعناوين مميزة جدّا مختزلة، كما استعادت في حكيّها تراثا شفاهيا قديما يتمثّل في نقل الحكاية عن آخرين، حيث ثمّة رواة مجهولون يتمثل حضورهم في إشارات (قيل/ سمعت/ جاءت الحكاية عن…).

غلب التوازي على بنية الشخصيات، إذ تتوازى شخصية الأب الهارب مع شخصية حميد الذي استقال من عمله عندما عجز عن مجابهة الفساد.

كان حضور المرأة مميزا سواء في دورها إبّان الصراع الدائر في تلك الحقبة، أو بدورها في المقاومة وتحمّل نتائج الحرب التي كانت فادحة بالنسبة إليها بغياب الزوج وافتقاد العائل، وأيضا بعشقها وتمردها، كما كان واضحا في شخصية حورية مسك، التي كانت نموذجا دالا على ذكورية الرجل بكافة تنويعاته، أب/ أخ/ حبيب… أعطت كلّ شيء للجميع لكن لم يُقابل عطاؤها بشيء.

هذه رواية عن الحرب والمكان والحبّ والعشق للمكان وللإنسان معا، سعت الكاتبة إلى أن تتخذها وسيلة أساسية لمقاومة تأثيرات الحروب على الجميع، بما في ذلك أخلاق الشيوخ الذين تحوّلوا من الحماة إلى الطغاة المستغلين لظروف الناس بأبشع الطرق.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



جريدة القدس العربي


جريدة القدس العربي
السنة السادسة والعشرون العدد 8032 الثلاثاء 3 آذار (مارس) 2015 - 12 جمادي الأول 1436 ه
زهور كرام، كاتبة مغربية


روائية المعرفة التاريخية في «صنعائي» لليمنية نادية الكوكباني


اعتمدت الرواية على مرجعين مهمين في بدايات التأسيس والتأصيل: على المجتمع باعتباره فضاء للتحول الذي يليق بمنطق الرواية، ثم على التاريخ باعتباره خلفية تستطُيع الرواية أن تعتمدها، وهي تُشيد أعمدة معمارها.

تميزت العلاقة في البداية بين الرواية والمجتمع/التاريخ بعلاقة أفقية، تجعل المرجع هو الأساس، والرواية كاتبة/واصفة لهذا الأساس، لهذا هيمن مفهوم التفسير والانعكاس على تلقي الرواية، ثم أخذت العلاقة بعد ذلك، انزياحا عن البعد الأفقي، ودخلت زمن العمودي، عندما تطورت الرواية شكلا وكتابة ونظاما، بموازاة مع تحول المجتمع.

تداخلت العلاقة بين الروائي من جهة والاجتماعي والتاريخي من جهة أخرى، مع هذا الزمن، وبدأ منطق المرجعية يتفتت، ويتحول إلى سؤال، وموضوع داخل الجنس الروائي. تُعبر عملية التجاذب، والتداخل بين الرواية وباقي المرجعيات عن انتقال الرواية من مجرد شكل تعبيري عن وضع اجتماعي، أو مادة تاريخية، إلى حالة ثقافية اجتماعية، تصبح بموجبها زمنا رمزيا لإنتاج وعي جديد بالمرجعيات.

هذه الحركية والمرونة التي تُميز الرواية منذ ظهورها، تجعل منها قيمة معرفية، لكونها، تشتغل في منطقة الوعي المتجدد بالمرجعيات. وكلما تحولت الكتابة إلى حالة حوار/اصطدام بين التخييل الروائي وباقي الخطابات التي كانت ذات مرحلة مرجعية، شخَصت الكتابة حالة مجتمع يتحول، ويعيش دينامية في بنيته. لكن، هل هذا الوعي بالرواية باعتبارها قيمة معرفية، مُنتجة لوعي متجدد، يحضر في الدرس التعليمي للرواية في المدرسة والجامعة، وفي الدرس النقدي الأدبي؟ سؤال يمكن تطوير النقاش فيه، باعتماد خطابات تدريس الرواية وقراءاتها ونقدها، وشكل حضورها في الوعي الجماعي الثقافي.

بالعودة إلى علاقة الرواية بالتاريخ، نسجل حضورا مختلفا لصيغة هذه العلاقة في نماذج روائية عربية كثيرة خلال السنوات الأخيرة.

إذ، نلتقي بالرواية باعتبارها زمنا تخييليا لاحتضان سؤال الشك في تاريخ كبُر مع المواطن العربي باعتباره يقينا، يُقبر التفكير والدهشة والتأمل.

ولعل الرواية العربية في كثير من نصوصها، تُوثق للحظة الانزياح عن اليقين، واعتماد الشك، من أجل الحقيقة، وليس اليقين. تقترح رواية «صنعائي»( 2014) للكاتبة نادية الكوكباني، إعادة تركيب معرفة محتملة، حول حدث تاريخي، مرتبط بصنعاء سنة 1968.

تحضر صنعاء في الحكاية موضوعا تاريخيا، مرتبطا بأحداث سياسية، جعلت والد الساردة، يقرر الابتعاد عن صنعاء إلى القاهرة مع أسرته، وهو الذي ساهم في فك الحصار عنها، غير أنه كان ممن وقع عليهم الظلم، إذ تم اقتياده إلى السجن، بدون تهمة وتحقيق.

يقول الوالد: «أرادوا كسر شوكة المدنية التي قالوا إننا لا نعرف خطورتها على اليمن»(ص266). غير أن، الساردة «صبحية» ستظل تحمل صنعاء سؤالا للمعرفة، وعشقا، يجعلها تعود إليها، عبر حكايات جدتها، وغلاف المجلات اليمنية، ومن خلال رسم وجوه أبنائها.

تحضر صنعاء في الحكاية موضوعا سياسيا، ويُحولها السرد إلى حالة عشق، تبدأ علاقة بين المرأة والرجل، وتنتقل إلى حالة عشق لمعرفة التاريخ الحقيقي لأحداث صنعاء.

بعد وفاة الوالد، تعود «صبحية» لتستقر في صنعاء، وتفتح مرسمها، وتبدأ في البحث عن «صنعائها» الضائعة في التاريخ المكتوب.

يعتمد النص صيغة التناوب السردي، بين عدد من الساردين، تهيمن الساردة «صبحية» على المجال الأوسع من السرد، باعتبارها حاملة سؤال «صنعائي»، إضافة إلى ساردين آخرين، يختلفون في وضعيتهم داخل مجال الحكاية، مثل «حميد»، الذي يُشكل حضوره العاطفي بالنسبة للساردة الأساسية، أهمية، جعلت منه ساردا شبه أساسي، وعبره يظهر التناوب السردي بشكل ملموس، ثم «غمدان»، الذي يظهر والنص على وشك التلاشي، ليمنح للسرد بُعدا مُغايرا، أو يمنحه إمكانية جديدة جعلت المعرفة خارج مبدأ اليقين، إذ يستحضره السرد باعتباره مصدرا لمعرفة ما حدث في صنعاء 1968، ثم يتحول إلى سارد فاعل في السرد.

يُضاف إلى هذه الذوات الساردة والفاعلة، صيغا سردية، حضرت بقوة السرد، وانتقلت إلى حاملة للرؤية، يتعلق الأمر بصيغ الرسالة والقصاصات والأشرطة والسيرة الذاتية التي حفلت بها الرواية، فكل شخصية تدخل المجال النصي، تُقدم سيرتها الذاتية، كأنها تُوثق لوجودها باعتبارها مصدرا للمعرفة، فهذا «غمدان» الذي يفتتح سرده، بسيرته الذاتية، «اسمي، غمدان الصبري من جبل الصبري، في تعز، مدينة العز، كما يسميها أهلها» (ص205).

لا يتم نمو السرد، من خلال تطور الأحداث، لأن الأحداث ترد في النص باعتبارها وقائع حدثت، ويتم استرجاعها من أجل التفكير في منطقها، ولهذا، فإن حركية الرواية، ونمو مسارها السردي يتم في مستوى الوعي بما حدث، الذي يتشكل بفعل تعدد مصادر السرد، وأيضا نتيجة لسؤال البحث الدائم لدى الساردة «صبحية». نلتقي بمظهر سردي في هذه الرواية، يُعبر عن تكسير المنظور الواحد للحدث، وجعله منظورا إليه من قبل التعدد المختلف والمتنوع. يظهر ذلك، على سبيل المثال، في منطق التناوب بين صبحية وحميد.

تسرد الساردة بضمير المتكلم المفرد، حكاية لقائها بحميد، وتحكي شكل تأثير اللقاء على وجدانها، تطرح أسئلة حول أحداث صنعاء، ولماذا هرب والدها، وعندما يبدأ حميد بالسرد، فإنه يُعيد سرد الحكاية نفسها، لكنه يسردها بشكل آخر، وكأنه يُحاور حكي الساردة، ويُجيب عن أسئلتها.

قد يشعر البعض بنوع من التكرار، غير أنه تكرار وظيفي، لأنه يشتغل على حبك الحكاية، ليس من توالي الأحداث، وإنما من إعادة ترتيبها.

وظاهرة التناوب، تتخلل سرد الساردين، إذ نصبح أمام تقنية العنعنة التي عُرفت في السرد التراثي العربي. يُصرح «غمدان» عن مصدر معرفته، «الحقيقة جاءتني في السابعة عشرة من عمري، بعد أحداث أغسطس بعشرة أعوام. وجدته بعد أن غاب عن حارتنا مباشرة بعد مقتل أبي.. إنه العم عبده سعيد»(ص216-2017).

ولهذا، امتلأت الرواية بملفوظات المتكلمين، لأن كل سارد يعتمد كلام المتكلمين مصدرا للمعرفة، وعندما يُدخل الشخصية إلى المجال النصي، فإنه يدعها تحكي ما سمعته وشاهدته وقرأت عنه.

والحاصل في مستوى هذا التركيب السردي، أن «صنعائي» تعتمد مصدر المعرفة الخطاب الشفهي، «سمعت عن والدك من خلال أصدقاء له ولوالدي»(ص227)، الذي تضعه في مواجهة تخييلية مع التوثيق، والتأريخ من خلال وثائق تاريخية، وبيانات وأشرطة تركها والد الساردة، غير أن عطبا ما حال دون اشتغالها.

تمت هذه المواجهة بين ضمائر عديدة، مفرد متكلم، مُخاطب وضمير جمع متكلم، ثم ضمير غائب، كان يتسلل إلى السرد، مرارا، من أجل تدبيره وتسيير منطقه، غير أن ضمير المتكلم المفرد، سرعان ما يُعيد سلطة الحكي لصالحه، مما جعل الأحداث التاريخية تخرج من اليقين، وتتحول إلى حيرة الجميع، بعدما بدأت حيرة خاصة بالشخصية – الساردة «صبحية».

تظهر حدة المواجهة في مُلازمة السارد من خلف لبداية كل مقطع سردي، يحكيه ضمير المتكلم، ويأتي لون الكتابة سميكا، ومختلفا في فضائه النصي، غير أن السرد انتصر في نهاية النص، لضمير المتكلم، وانتهت حكاية «صنعائي» بصوت الساردة «صبحية»، وجاء المقطع السردي الأخير، مُشخَصا لتعددية المنظور إلى التاريخ، وأحقية كل صوت يمني في إنتاج معرفة بما حدث، حسب موقعه من المشهد، وتبعا لمصادر معرفته.

ولهذا، اختلفت الرؤية بين حميد وغمدان، وتحول الاختلاف إلى مساحة مفتوحة أمام خيار الساردة «قبلتُ هديتيهما بعد أن قبلا شرطي في حرية اختيار مكان وضع الصور الثلاث» (ص288).

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf


صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)