جريدة الشرق الأوسط
الاثنين - 27 جمادى الآخرة 1440 هـ - 04 مارس 2019 مـ
الصفحة : ثقافة
لندن : عدنان حسين أحمد
«شمس بيضاء باردة»... محاكمة السلطة الأبوية والسياسية
من روايات «القائمة القصيرة» لجائزة «بوكر» العربية
تتعلق رواية «شمس بيضاء باردة» لكفى الزعبي الصادرة عن «دار الآداب» ببيروت مع «ملحمة جلجامش» وتستحضرها نصا دراميا موازيا بثيماته وشخصياته الرئيسية، كما تتلاقح مع كتب أخرى يعرفها القارئ المتابع مثل «تاريخ الجنون» لميشيل فوكو، و«أسطورة سيزيف» لألبير كامو، و«الجريمة والعقاب» لديستويفسكي وغيرها من الكتب الأدبية والفكرية التي تركت بصمتها الواضحة على القرّاء والمتلقّين في مختلف أرجاء العالم، لكن هذه التعالقات الأسطورية، والتلاقحات الفكرية برمتها لم تمنع من تدفق النص السردي الذي اجترحته الروائية كفى الزعبي من الواقع الأردني الذي لا يختلف كثيرا عن واقع الدول العربية الأخرى.
حين صدرت هذه الرواية عام 2018 منعتها الرقابة الأردنية لكنها سرعان ما تداركت الأمر وسمحت بنزولها إلى المكتبات لأنها تعرف جيدا أنّ وسائل التواصل الاجتماعي كفيلة بإيصالها إلى كل القرّاء الذين يتحرّقون شوقا لقراءة الكتب والروايات المحظورة التي تحجبها الدولة وتمنع تداولها في الأسواق.
قبل الولوج في تضاعيف هذا النص السردي الجريء لا بد من الإشارة إلى أنّ كفى الزعبي قد أصدرت خمس روايات ناقشت فيها ثيمات حسّاسة، ففي رواية «سقف من طين» تعود إلى سيرتها الذاتية لتنهل من سنوات الطفولة والصبا والشباب أفكارا لما تزل تتردد في كتاباتها. وفي رواية «عُد إلى البيت يا خليل» تتناول معاناة الإنسان الفلسطيني الذي يرزح تحت ظل الاحتلال الإسرائيلي، أما في رواية «ليلى والثلج ولودميلا» فقد تناولت فيها الأنا العربية والآخر الروسي، بينما ركّزت في «ابن الحرام» على السلطة الأبوية والسياسية، فيما تمحورت رواية «س» على الصورة النمطية للمرأة التي يرى فيها المجتمع العربي كائناً هشاً، وضعيفا، وناقصا لا يكتمل إلاّ بوجود الرجل.
لم تبتعد روايتها السادسة هذه عن مجمل الثيمات والمفاهيم والأفكار التي وردت في رواياتها السابقة لكنها ركزت على البطل السلبي، المأزوم الذي تُفضي به حياته السوداوية إلى الجنون، كما يدفع الفقر، واليأس، وشظف العيش، بصديقه أحمد إلى الانتحار بطريقة مروّعة حين ينحر نفسه بسكين حادة يقطع بها رقبته من الوريد إلى الوريد.
لم تتبّع الروائية نسقا تصاعديا في السرد وإنما تبدأ من نهاية الحكاية تقريبا، إذ تقدِّم لنا بطلها الإشكالي بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى، فهو قروي من أصول بدوية يسكن في قرية لم تُسمّها الكاتبة كي توسّع دلالتها إلى كل القرى الأردنية، ولديه أسرة تتألف من أمه وأبيه اللذين لم تُسمّهما أيضا، وشقيقه الأكبر فهد، وأخته نوال. لو تتبعنا البطل «راعي» لوجدناه يحب القراءة، ويقتني كثيرا من الكتب التي أفسدته لأنها جعلته «مُلحدا وزنديقا وفاشلا» كما يعتقد الوالد، وأكثر من ذلك فقد جعلته معزولاً ومتوحداً لا يشبه الناس الآخرين فهو يعتقد أنه ولِد من أجل تحقيق غايات عظيمة كما تصوِّر له مخيلته المجنّحة لكنه في واقع الحال ليس أكثر من متشرّد، بائس، يقترض النقود من أصدقائه القليلين، ويعاقر الخمر، ويبحث عن أجوبة شافية لأسئلته الوجودية لكنه لم يعثر عليها في الكتب الأدبية والفلسفية التي يقرأها.
لعل أول تعالقات هذه الرواية يحدث مع ملحمة جلجامش، فـ «راعي» يتقمص شخصية «أنكيدو»، و«عائشة» الفتاة المسكينة البلهاء تمثّل دور «البغي المقدسة»، وزوجة صديقه أحمد تلعب دور «عشتار»، وصاحبة الحانة تُحيلنا إلى «سيدوري»، أما الأب المستبد فهو مهموم بنهب ممتلكات الآخرين والسيطرة عليها خلافا لمنظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تربّى عليها في القرية أو استمدها من البادية. وعلى الرغم من التناقض الصارخ بين الابن وأبيه، فإن كليهما يقترف أخطاء جسيمة حين تزورهما عائشة وأمها التي تذهب ضحية حادث سير وتترك ابنتها البلهاء نهبا للأقدار، وبينما ينهمك الأب في سرقة مصاغها الذهبي، والاستيلاء على حقها الشرعي في البيت والأرض الزراعية، يستجيب «راعي» لإغراءاتها فيزرع جنينه فيها ليضع العائلة أمام محنة لا منجاة منها إلاّ بإسقاط الجنين أو التخلّص من عائشة، فيُوسعها الأب المتوحش ضربا مبرحا حتى يموت الجنين في بطنها فتفارق الحياة.
تتفاقم الأحداث حين يبدأ «راعي» بارتياد المكتبة العامة في جبل عمّان ويقع في حُب امرأة جميلة وسوف يكتشف لاحقا أنها زوجة صديقه أحمد الذي انتحر، لأنه لم يعد قادرا على تلبية احتياجات الأسرة ودفع إيجار المنزل لضيق ذات اليد، فيضع حدا لحياته تاركا زوجته الجميلة في مواجهة عبث الأقدار في مجتمع لا يوفّر فرص العمل لأبنائه الخُلّص الذين يملأون المقاهي والحانات.
يُنقَل «راعي» من عمّان إلى مدرسة أخرى في محافظة الزرقاء القابعة على حافة الصحراء، ويستأجر بمساعدة صديقه أحمد غرفة في شقة المهندس مازن، فتتشظى الأحداث وتأخذ أبعادا فلسفية جديدة بفضل هذا البدوي السُريالي المثقف الذي يثير تعاطف صاحبة الحانة، ويستميل بعض المشرّدين الذين يربضون أمام الحانات المتوارية في الأحياء الشعبية بعد أن خسروا في المعركة الدائرة بين الأرض والسماء منذ الأزل. لم تُسفر اللقاءات المتكررة بين «راعي» وزوجة أحمد عن شيء مهم سوى الاتهامات التي كان يوجهها إليها وكأنها كانت السبب الأول والأخير في انتحاره، الأمر الذي يدفعها للانتقال إلى مكان مجهول. وحين يعجز «راعي» عن الوصول إليها مُجددا يسقط في دوّامة الجنون التي كان يقف عند حافتها سابقا. تتمحور الرواية برمتها حول سؤال جوهري مفاده: مَنْ أنا؟ أو ما الإنسان؟ ولم يجد جوابه في معظم الكتب التي قرأها لكن حين تُدهمه مجموعة أشخاص وهو يهذي في غرفته المتعفِّنة والخالية من النوافذ ويسألونه السؤال نفسه الذي أرّقه طويلاً: «أتعرف منْ أنت؟» فيجيب من فوره: «أنا كاتب عظيم وخالد، وإن اسمي سيحظى بقدسية حتى أبد الدهر».
لا يمكن قراءة «شمس بيضاء باردة» قراءة واقعية فقط، لأن هدفها الأساسي يكمن في القراءة المجازية التي تبتغيها الروائية كفى الزعبي، فهي لا تجد ضيرا في أن تكتب نصا جريئا قد يعرّضها للمساءلة القانونية، لأن الثيمات الرئيسية والفرعية في هذا النص المشاكس تتجاوز حدود تشريح البنية الأسرية والمجتمعية وتتعداهما إلى مقاصصة السلطة السياسية.
عن جريدة الشرق الأوسط
جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد
الجمعة، ١٢ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٨
جريدة الحياة
محمد برادة
شخصيات كفى الزعبي تواجه الأفق المسدود
لا تبدو رواية «شمس بيضاء باردة» (دار الآداب، 2018) للكاتبة الأردنية كفَى الزعبي، نشازاً بالنسبة إلى السياق الذي يعيش فيه الفضاء العربي منذ ثلاثة عقودٍ على الأقل. ذلك أن الرؤية المُمعنة في السواد التي يحملها ويعبر عنها بطلُ الرواية تبدو متلائمة مع ما تعيشه غالبية الناس في المجتمعات المحرومة من الذهب الأسود، وبخاصّةٍ فئات الشباب. وعلى رغم الاختلاف الكبير بين الشعر والرواية، هناك ما يذكرنا، على مستوى الدلالة، بقصيدة نزار قباني « مُسافرون»(1985) التي تقول في مطلعها: «مسافرون نحن في سفينة الأحزان/ قائدنا مُرتزق/ وشيخنا قرصان/ مواطنون دونما وطن...».
إلا أن «شمس بيضاء باردة» ليست مجرد رؤية سوداوية صادرة عن بطل إشكالي أخفق في مواجهة العالم فاعتصم بالتشاؤم وندْب الحظ؛ بل هي نسيج يحكي تفاصيل الأحداث ويستحضر مسار حياة المعلم الشابّ «راعي» انطلاقاً من حياته مع أسرته البدوية، ووصولاً إلى تجربته في عمّان حيث أصبح معلماً يسعى للاستقلال عن سلطة الأب البطريركية، ليعيش وفْق الحياة المتحررة التي انجذب إليها. يصلنا السرد على لسان راعي، موزعاً على «النهار الأول» و «الليلة الأولى»، وصولاً إلى نهارٍ وليلة يندّانِ عن الإحصاء. وتكون البداية من مرحلة تقترب من نهاية النصّ، ثم يرتدّ السرد مسترجعاً ما فات، مُراوحاً بين ما عاشه البطل في الريف مع أسرته، وما عاشه في عمان داخل غرفة من دون نوافذ، متنقلاً بين المدرسة والحانة. ومنذ البدء، تتجلى صفة البطل الإشكالي لدى راعي، لأن حزام «الرواية العائلية» (وفق فرويْد) يلفّ جسده وعواطفه، وهو حريص على أن يتحرر منه، بخاصة من خلال خلافه وصراعه الدائميْن مع الأب الحريص على فرض وصايته المتمثلة في قيم دينية زائفة ونمطٍ من العيش غارق في التقليد والخنوع. فضلاً عن ذلك، هو مُغرم بشراء الكتب وقراءتها مُتوهّماً أنها ستوفّر له أجوبة شافية على الأسئلة المتصلة بالأوضاع المادية وأسئلة الكينونة والوجود... من ثمّ، تحتلّ الكتب مكانة أساسية في مسار راعي المأخوذ في شَرك العائلة والمجتمع والمؤسسات: «كيف أنجو من حربٍ شرَع زملائي المدرسون في شنها ضدي منذ الأسبوع الأول لِدوامي، لأنني لستُ مثلهم: لا أصلّي معهم، فلا أقدّم للتلاميذ المثال والقدوة الحسنة، ولا أمارس هداية هؤلاء الطلاب إلى الصراط المستقيم، ولا أتلو عليهم قصص عذاب الآخرة لعلهم يصلحون. كيف أتكيف مع هذا الواقع؟ كيف أتكيّف مع أبي؟ كيف أنسى عائشة؟ كيف أتكيّف مع هذه المدينة التي تحيا على قارعة الصحراء، تقرأ وتعيد في كل يوم، قراءة الرمال خشيةَ أن تنسى ما خطتْه هذه الرمال في الأمس (ص 189). على هذا النحو، تقصّ علينا نهارات وليالي «شمس بيضاء باردة» صراع راعي اليومي على ثلاث واجهات: مع العائلة، وبخاصةٍ مع الأب، في المدرسة مع المدير والزملاء، ومع هواجس الجنس والحب والجنون، بخاصة من خلال مغامرته المجانية مع عائشة البلهاء، وتعلقه الرومانسي بزوجة صديقه أحمد الذي انتحر بعد أن فشل في حماية زوجته من سطوة والدته... لكن راعي، في هذا الصراع الذي يخوضه ضدّ قُوى أكبر منه، يتسلح ببعض ما جناه من قراءاته، وليس مصادفة أن تكون استشهاداته تُحيلُ على «ملحمة جلجامش» و «أسطورة سيزيف» لألبير كامو، وتاريخ الجنون لفوكو.
لماذا الشمس لا تضيء ؟
تتوالى الأحداث والمشاهد في «شمس بيضاء باردة» انطلاقاً من مركز تلتقي عنده الخيوط، وهو «راعي» المعلم الشابّ، الفاشل، المحارَب من لَدُنِ الجميع، في بيت الأسرة بالريف، وفي المدرسة التي يعارض فلسفتها العتيقة، وفي المجتمع الذي لا يقبل سوى الذين يخضعون للنموذج الموروث: طاعة الوالديْن، أداء الفروض الدينية والزواج من ابنة حلال تعاونه على إنتاج ذرية صالحة... إلا أن راعي هو على النقيض من هذا النموذج المُكرّس، لأن رحلته الدراسية زرعتْ فيه لوثة التمرد والتساؤل عن الحاضر والمستقبل، عن العلاقة بالدين والنظام الاجتماعي والسياسي، وعن إمكانات السعادة في غابةٍ تشبه تلك التي ذهب إليها جلجامش مع صديقه أنكيدو كي ينتصرا معا على حارسها...محشورا في زاوية الرفض والتمرد، لم يجدْ راعي سوى الكتب والحانة وصديقه أحمد ملجأ ًيحتمي به من نيران الكراهية التي تطارده. لكن الكتب نفسها قلما تنجح في أن تمدّ له يدَ العون، فيتسلل الشك إلى ثقته في المعرفة: «... لكن ما جدوى أسئلة المعرفة وأسئلة الفلسفة وأسئلة الفكر والسياسة وغيرها؟ ما جدوى أسئلة العقل ما دامت سعادة المرء الغريزية تزداد طرْدياً كُلما ازداد جهله؟ (...) كيف يغدو الإنسان في نهاية المطاف سعيداً ومتصالحاً مع وجوده؟» (ص160).
إلا أن هذا البطل الإشكالي الباحث عن قيَمٍ مُغايرة لما هو سائد وخانق، نجده يتمادى في البحث والتساؤل دون أن يُقدِم على «فعل» يترجم نواياه المتمردة؛ وهو مدرك لهذا العجز الذي شدّ وثاقه إلى التشظي واللافعل ويعبر عنه على هذا النحو: «حاولتُ النهوض، غير أن قواي جميعَها كانت هجرتني. كنتُ جثة مفتوحة العيْنين، ترى وتسمع، وربما تفهم أيضاً، لكنها جثة. هذا ما إلتُ إليه. تطفو في ذهني أشباحُ أفكار عن مدرسة وطلاب يجب أن أدرّسهم، ومديرٍ يستشيط غضباً بسبب غيابي المتكرر عن الدوام، ومبالغ مخصومة من راتبي، وديون متراكمة، وجيبٍ ليس فيه قرش، وشهرٍ لا يزال بعيدا عن آخره. تشدّني أشباح هذه الأفكار إلى النهوض، وجسدي يرفض الاستجابة» (ص297).
وسط حلكة اليأس والعبث التي كان راعي يعيش فيها، لاحت أشعة شمس دافئة تناديه إلى معانقة الحياة، وذلك بعد أن انتحر صديقه أحمد وترك زوجته الجميلة مع ولديها في ظروف صعبة. التقاها راعي في مكتبة كانت تتردد عليها لتحضير شهادة تعينها على تحسين وضعيتها. لكنه لم يستطع أن يتخلص من تساؤلاته الميتافيزيقة ومن البحث عن المسؤول عن انتحار صديقه. بل إن راعي، على رغم تعلقه بزوجة صديقه التي فتحت له ذراعيْها، ظلّ يلاحقها بأسئلة عن انتحار أحمد، لا تخلو من اتهامٍ مُبطن لها: «مضت أيام وأنا أحدق في الفراغ برُعب، ولا أرى سوى طيف أحمد؛ لكنني في نهاية المطاف نهضتُ وذهبت إليها: - ما كان يجب أن تتركيه. لو لم تفعلي لما كان انتحر. حدّقتْ فيّ طويلاً بصمت ثم قالت: - لهذا تغيب؟ لا تستطيع إلا أنْ تُحملني مسؤولية انتحاره؟ (...) أظن أنني أنا الضحية وليس هو. لطالما فكرتُ في أنه انتحر انتقاما مني وليس من السماء. انتحر وتركني أتعذبُ طويلاً. (...) أنتَ قاسٍ جداً. لقد هربتُ من ضيْم أمه فانتحر وتركني وحيدة مع طفليْن. هرب. أما أنا فلم أهرب. بقيتُ مع الطفليْن. رفضتُ كل العروض بالزواج لأنهم كانوا يشترطون أن أتخلى عن الطفليْن. رفضتُها لأنني لا أريد أن يخسراني بعد ما هرَبَ هو من مسؤوليته». (ص 282).
لحظة المواجهة هذه بين راعي وزوجة صديقه المنتحر، أزالت القناع عن وجه البطل الذي كان ينتحل الأعذار لكي لا يواجه الواقع ويخرج من اجترار الأسئلة المجردة إلى الإقدام على أفعال تثبت إرادته في تغيير الحياة. بينما زوجة أحمد المنتحر برهنت على مسؤوليتها بالملموس، متخطية كل ما يحول بينها وبين ضوء الشمس الدافئة. كأنما الكاتبة كفى الزعبي تريد أن تكسّر حدة النموذج السوداوي المتجسّد في راعي المشدود إلى الرفض السلبي والتشاؤم الغاضب، فجعلت من امرأة، زوجة المنتحر، نموذجاً متحدياً للجبن والتقهقر، إذ قررت أن تتحرر من الخوف والحزن: «... ثم انتبهتُ إلى أن الأمر سيّان، أكنتُ مُعذبة وأبكي في انتظاره، أم ساخرة وأضحك، فذلك لن يغيّر شيئاً، لا من الحقيقة ولا من واقعي. واكتشفت أنني أتعذب في سبيل الهباء، فعُدتُ أضحك وعدتُ أغني، لأن الموت سيأتي من دون أن يعنيَه أو يعني الحياة، كيف أعيشها». (ص259).
استطاعت «شمس بيضاء باردة» أن تبدع سرداً متدفقاً، جاذباً، يستوحي الواقع الكالح في الأردن وفي فضاءات عربية شبيهة، ضمن رؤية جدلية بين التشاؤم وتفاؤل الإرادة، بين الانهزام والانتصار للحياة. وفي ذلك انتصار للكتابة التي تُصغي إلى ما يصطرع في أحشاء الفرد وفي أعماق المجتمع، داخل سيرورة يطبعها الطغيان وسطوة المال، وجبروت التقاليد البالية.
جريدة الحياة
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.