جريدة العرب
نُشر في 03-03-2017
الصفحة : ثقافة
العرب - القاهرة
مخرج استطاع بالسرد المكثف مناقشة القضايا الشائكة
كتاب “سينما توفيق صالح” يتتبع رحلة المخرج من مقاهي القاهرة وأزقتها إلى الغورية العبقة برائحة الناس والشعب المصري البسيط.
يعرض كتاب “سينما توفيق صالح” لمؤلفه محسن ويفي الرحلة الفنية للمخرج المصري الراحل توفيق صالح (1926-2013)، فبعد رحلة طويلة من الإبداع السينمائي ترك للسينما المصرية والعربية سبعة أفلام روائية طويلة وسبعة أفلام قصيرة.
ويتتبع الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع في نحو 235 صفحة من القطع الكبير، رحلة المخرج من مقاهي القاهرة وحواريها وأزقتها إلى الغورية العبقة برائحة الناس والشعب المصري البسيط، وذلك بعد أن عاد من باريس التي فتحت له أفق الوعي اللانهائي في السياسة، فتعرّف على الاتجاهات السياسية والفكرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت خلال الفترة الحرجة التي مرت بها أوروبا التي تلت مباشرة نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي تمزّقت فيها القارة الأوروبية العجوز الخارجة لتوّها من حرب عالمية طاحنة بين تيارات الماركسية والوجودية، خاصة وجودية جان بول سارتر بمواقفه واختياراته.
وفي هذه الفترة تعرّف توفيق صالح على متحف اللوفر ومدارس الفن التشكيلي الحديث واتجاهاته المختلفة في التكوين واللون والخطوط والشخوص، كما ولج ميدان الموسيقى الذي أخذه إلى عالم آخر من الإبداع والتجريد والتخلص من التفاصيل، وصولا إلى الأساس والجوهر والروح بأصوات الآلات وإيقاعاتها المتنوعة مثل تنوع الحياة والكون والإنسان.
نور باريس
في باريس لم يشاهد توفيق صالح السينما فقط، بل اقترب من صناع السينما الفرنسية في أستوديوهات عاصمة النور، وعلى الرغم من أن تجربته في أستوديوهات السينما لم تكن طويلة، إلاّ أنها كانت مفيدة، حيث تعرّف في السنة الثانية من إقامته في باريس على مدير إنتاج يعمل في صناعة أفلام فرنسية، وهذا الشخص ساعده على أن يسجل نفسه في نقابة التمثيل بفرنسا كمساعد مخرج تحت التمرين، وأول فيلم عمل فيه كان بعنوان “صحبة فرح” وكان بطله ممثل أصبح نجما في السينما الفرنسية في ما بعد، وهو شارل ترنييه.
كما تعرّف الراحل خلال هذه الفترة على ممثلين اثنين أصبحا في ما بعد من أهم ممثلي الكوميديا في فرنسا، أحدهم طلب منه أن يكتب له اسكتشات كوميدية ينتجها لحسابه، وهذه الفترة من عمل توفيق صالح في باريس هي التي عوّضته معنويا ومهنيا عن خسارته لمكانه في أستوديو الجيزة بالهرم بعد أن اصطدم بالممثلة والراقصة الراحلة نعيمة عاكف، زوجة المخرج حسين فوزي في ذلك الوقت.
ويؤكد المؤلف أنه في السوربون توطّدت واكتملت علاقة توفيق صالح بالسينما، ولكن هذه المرة تجاوزت علاقته بالفن السابع مرحلة الحب والدهشة والانجذاب، إلى مرحلة معرفة أبجديات الحرفة السينمائية، وعلى الرغم من أن اللغة الفرنسية عنده كانت ضعيفة، إلاّ أنه استطاع أن يتعلم أسرار المهنة من عمله في الأستوديوهات الباريسية، ومحاضرات السينما التي كان يستمع لها ضمن مادة علم الجمال في قسم الفلسفة بجامعة السوربون الأشهر في فرنسا وفي أوروبا.
ومع ذلك، ففي هذه الفترة أيضا مرّ توفيق صالح بنقطة قطيعة جديدة أثّرت على حياته الفنية ومسيرته المهنية بعد ذلك، حيث قابل عالم الجمال الفرنسي الشهير إيتان سوريو، وبسبب تأثره بأفكاره ترك السوربون، بل لم يعد يهتم بمحاضرات السينما ولا أستوديوهاتها، فانطلق ليدرس الرسم الفوتوغرافي، وقضى أوقات طويلة في متحف اللوفر، ثم ذهب إلى السينماتيك. وفي هذه الفترة تعرّف صالح لأول مرة على الأدب الروسي، وقرأ لتشيكوف وتردّد لمدة ستة أشهر على مرسم الفنان الفرنسي الشهير أندريه لوت، وحضر جلسات تصحيح رسوم طلبته وتعلّم وهو بينهم التكوين والتشكيل. وينقل مؤلف الكتاب عن توفيق صالح قوله إن الرسم هو أهم ما تعرّف وتعلّمه خلال فترة وجوده بباريس.
رغبة في التغيير
عندما عاد توفيق صالح إلى القاهرة في ديسمبر من سنة 1953، كانت تحدوه رغبة عارمة في أن يغيّر العالم، وكان يريد وهو شاب في العشرينات من عمره أن يقدّم للجمهور المصري والعربي سينما راقية بعيدة عن سينما الأفيهات والفرفشة، حيث كان هناك مخرجون آخرون مثل صلاح أبوسيف وأمل التلمساني وبركات ويوسف شاهين وعزالدين ذو الفقار وأحمد بدرخان وأحمد كامل مرسي، ممن أخذوا على عاتقهم في هذا الوقت مهمة تقديم سينما تتجادل مع الأوضاع التي كانت سائدة في المجتمع المصري، وذلك من خلال سينما حرفية توضح نضج فهمهم للعالم وللسينما فيلما بعد آخر، بالرغم من الصعوبات المتعددة والمعوقات الكثيرة.
وفي هذه الفترة كانت ثورة 1952 قد قامت لتوّها ولا تزال تتحسّس أوضاع المجتمع، وكانت الثورة تحاول على طريقتها أن تحقّق آمال الحركة الوطنية في الحرية وفي الاستقلال وفي تحقيق العدالة الاجتماعية، وعلى الرغم من تردّد الأحزاب السياسية التي كانت موجودة خلال تلك الحقبة في إعلان التأييد للثورة الوليدة، فإن الأحزاب والحركات السياسية التي كانت موجودة حينها سرعان ما اضطرت إلى تأييد الثورة التي كانت قد اتخذت خطوات لتأكيد انحيازها للشعب مثل تحديد الملكية الزراعية وتمصير الشركات الأجنبية وتأميم المشروعات الرأسمالية.
كما أنشأت الثورة القطاع العام الذي شمل كل الهياكل الاقتصادية والثقافية فيما سمّي بقرارات يوليو الاشتراكية، وهو ما حدث بعد إلغاء كل الأحزاب اليمينية واليسارية بأطيافها المختلفة، وحظر الجماعات الدينية التي كانت تخلط بين السياسة والدين، ثم جاءت نكسة عام 1967 التي عصفت بأحلام هذا الجيل من الشباب، وهو ما انعكس على السينما في ذلك الوقت.
وخلال هذه الفترة من تاريخ مصر الاستثنائي، كان لتوفيق صالح ورفاقه من صناعة السينما المصرية دور لا يمكن إنكاره في رصد وتسجيل الحراك الاجتماعي والسياسي في البلاد، وطرح قضايا المجتمع من خلال أفلام جريئة، ترشح بعضها لجوائز دولية، ومنع بعضها من العرض، ونال مقص الرقيب من بعضها الآخر، لكن في النهاية فإن ما قدّمه توفيق صالح للسينما العربية والمصرية يستحق أن تقف عنده أجيال من السينما، سواء من الذين عاصروا توفيق صالح أو جاؤوا من بعده.
وجدير بالإشارة إلى أن أول أفلام توفيق صالح “درب المهابيل” كان في العام 1954، والذي تعاون فيه مع الكاتب نجيب محفوظ كمؤلف للفيلم، ليتوقف صالح إثره عن العمل لمدة سبع سنوات تقريبا، حتى عام 1962 عندما قدم فيلم “صراع الأبطال”، ثم أخرج بعدها ثلاثة أفلام “المتمردون” عن قصة للصحافي صلاح حافظ، و”يوميات نائب في الأرياف” 1968 عن رواية بنفس العنوان للكاتب توفيق الحكيم، ثم أخيرا “السيد البلطي” 1969 عن قصة لصالح مرسي، ثم سافر إلى سوريا وقدّم فيلم “المخدوعون” 1972 عن رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، ثم “الأيام الطويلة” 1980.
كما أخرج الراحل سبعة أفلام تسجيلية قصيرة وهي “كورنيش النيل” إنتاج 1956 و”فن العرائس” 1957، و”نهضتنا الصناعية” 1959، و”من نحن؟” 1960، و”نحو المجهول” 1960، والقلة 1961، و”فجر الحضارة” 1977.
عن جريدة العرب اللندنية
العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977
صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة
يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر