الجمعة 31 مارس 2017
إيلاف - أول يومية إليكترونية صدرت من لندن عام 2001
"روحي" : رحلة بحث مغتربة عن هويتها اللبنانية
“إيلاف” من القاهر : بعد جولته في المهرجانات السينمائية المهمة منها ميونخ السينمائي الدولي ومهرجان دبي السينمائي الدولي، تستقبل دور العرض اللبنانية في نيسان فيلم “روحي” للمخرجة جيهان شعيب. وهو يحكي قصة “ندى” الفتاة الشابة التي عاشت طفولتها في لبنان لكنها سافرت إلى فرنسا مع والديها، لتتعلم وتنشأ هناك، ولكن لسببٍ ما في نفسها تعود لتنبش في الماضي باحثة عن هويتها الحقيقية التي نشأت عليها وليست التي اكتسبتها من حياتها بفرنسا. فتعود إلى لبنان لتشعر بالغربة كالأجنبية، وتطوف في الشوارع، فيعاملها الناس كغريبة، ويوحي لها كل شيء بالاغتراب، إلا بيت جدها القديم الذي نشأت فيه.
وهي تمكث في البيت الخرب الذي يضج بالفوضى، فتشعر بأن شيئاَ غريباً حدث في هذا البيت، وتتساءل كيف وصل إلى هذه الحالة من الإهمال؟ أين جدها؟ هل قُتل أم اختفى؟ ولو مات أين جثته؟ وهل لهذا علاقة بالحرب الأهلية المنتهية مؤخراً في لبنان؟ وأين كان الجيران لحظة اختفاء الجد؟ كل هذا الأسئلة أثارت الذكريات في عقل هذه الشابة، لتبدأ رحلتها بالبحث عن سر اختفاء جدها الغامض، وهي تشعر بأن لجيرانها دخلاً في ذلك.
وفي الوقت نفسه يرسل أبوها من فرنسا أخيها سام في مهمة لبيع المنزل القديم، لا يخبرها سام بالأمر ويحاول التصرف دون علمها، إلا أنها في تصاعد الأحداث تعلم بنيته لبيع المنزل، فينشأ بينهما صراع. بحيث يؤمن سام بأن لا مكان له بلبنان، بينما تؤمن ندى بأن لبنان هو البيت والذكريات، وهو الوطن الذي لا مفر منه. وينتهي الأمر بينهما إلى البحث عن الجد، في رحلةٍ طويلة وشاقة من البحث في الماضي تضع ندى بين قرارين، أما البقاء في الوطن، أو العودة إلى فرنسا.
ولا بد هنا من القول أن التجربة الشخصية هي التي تثير حماس المخرجين، وبدونها لكان فيلم روّحي مازال فكرةً في بال مخرجته جيهان شعيب، فحين تغترب عن وطنك وتسمع نداءً داخلياً يحثك للعودة، فتستجيب وتعود، ولكن يظل الهاجس بداخل ينادي “روحي!” ستسأل نفسك وأنت في الوطن، إلى أن تعود في وطنك؟ لتعرف أن الأشياء تتبدل، أنت في الوطن الذي تغير وأصبح شبيهاَ بالوطن، يحمل تعريفاً جديداً، وأصبحت أنت بهويةٍ جديدة.
جيهان شعيب تروي التفاصيل
وتقول جيهان عن المعنى خلف فيلم روّحي “العودة أو الحنين لا تعني فقط الوطن، أو البيت، فشعورك تجاه الحيطان التي تقطر ماءً، والألوان الباهتة، وتلك الحديقة التي تتحول للخراب، والبيت الذي أصبح مهجوراً، شعورك بأن كل شيء قد انهار، ينادي بداخلك: روّحي! ولكن إلى أين؟”.
ولقد ربطت “شعيب” اختفاء الجد بالحرب الأهلية في لبنان، وهي تقول: “كانت لديّ رغبة لمواجهة الحرب الأهلية في لبنان، ذلك النسيان الجماعي الذي أصاب الوطن، فأثناء الحرب الأهلية اختفى ما يقارب من 17 ألف مواطن، فهل أصبحوا فقط تحت التراب، أما مازالوا على قيد الحياة؟ لا يصح أن نبكي عليهم ونندب، وهذا بالضبط ما تحاول ندى التأكد منه بالبحث عن جدها المفقود”.
وفي حوارٍ دار بينها وبين الكاتب اللبناني وجدي معوض “مؤلف مسرحية Incendies التي اقتبسها المخرج دينيس فيلنوف في فيلمه الذي ترشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2011” أخبرها خلاله أن العودة إلى لبنان كفتح صندوق باندورا “في الأساطير الإغريقية هو صندوق بداخله كل شرور البشرية”. وتقول شعيب: “بالنسبة لي، فقد حاولت فتح صندوق باندورا في هذا الفيلم، أن نعلم ما يترصدنا بداخله، أردت أن أخاطر وهذا هو سبب الفيلم، فالفيلم ليس الصورة الفعلية للمجتمع اللبناني، بل هو الصورة الخيالية من أعين شخصية ندى الباحثة عن جدها المختفي خلف الحروب الأهلية”.
جولشیفته
وعن سبب اختيارها للنجمة الإيرانية جولشیفته توضِح: “كنت مؤمنة إيماناً مطلقاً بالقوة في وجهها، المزج بين الملامح القوية والوجه البشوش والذي يعطينا رابطاً للوصول إلى عالمها الداخلي”. وتُعبِّر عن مدى إعجابها بالأداء التمثيلي لجولشيفته: “لها حضور قوي وغير عادي، غموضها، شفافيتها، نقائها في التمثيل كان مثل السحر، وسحرها هذا أطلق الفيلم خارج حدود الواقعية، وأصبحنا ليس فقط ننظر إلى شخصية ندى، ولكن أصبحنا ننظر إلى روحها”.
ولقد جازفت “المخرجة” باختيارها لممثلة تحمل الجنسية الإيرانية لتتقمص دور امرأة تبحث عن هويتها اللبنانية، هذا الذي جعل من التحدي إثنين، فلعب الشخصية تحدي، وتقمص الروح اللبنانية تحدٍ آخر، وكان هذا الاختيار هو أحد جوانب الإثارة حسب قولها: “بالنسبة لي الأمر ممتع، جولفشيفته تلعب جزءً من اغترابها في بلدها الحقيقي، فهي مثل ندى تعرف جيداً وجع الاغتراب”.
ولقد كان على “جولشیفته” أن تتعلم اللهجة اللبنانية، كفرنسية آتية إلى وطنها الأم وتبحث عن هويتها، فلا بد من أن تتقن اللهجة، وهذا بالفعل ما قامت به لدرجة جعلتها تتجول في موقع التصوير ليل نهار لا تتحدث إلا باللهجة اللبنانية، حتى أصبحت ندى تسكن بداخلها، أو تحولت بالفعل إلى ندى. ولقد سعت بقوة لتجعل الشخصية مفهومة للجميع، وآمنت بهذا من داخل، حتى في تصرفات ندى غير المبررة، واختياراتها غير المنطقية، وكانت أيضاً تحترم نص السيناريو المكتوب خاصة الحوار الذي كانت تحصي كلماته، ببساطة لقد أضفت جولشیفته على الشخصية من جمالها وإحساسها، واعطتها حياتها. ما دفع “شعيب” لتقول عن اتقانها للشخصية “استطاعت بشخصيتها إن تستولي على ندى، ولكن جولشیفته كان لها رأياً آخر فتقول”شخصية ندى هي التي استولت عليّ".
عن ماكسيميليان سيويرين
وتقول عن الممثل ماكسيميليان سيويرين “لقد كان مفاجأة بالنسبة لي، فهو بالضبط مثل سام، فهو فرنسي من أصل لبناني، لا يتقن العربية حين يذهب إلى لبنان، يحاول الإنخراط في مناقشات مع ناس يحملون ثقافات مختلفة، ولقد أقنعني بأن أختاره في دور الأخ الأصغر لندى”. وفي المشاهد التي جمعته مع أهل القرية تقول شعيب “أعطاني ماكسيميليان حرية كاملة في الإرتجال، خاصة في مشاهده مع أهل القرية، لأنهم ممثلين غير محترفين ولا يحملون خبرات تمثيلية”.
وفي بداية البحث عن ممثل في دور سام، كانت الأولوية هي إيجاد ممثل تنشأ بينه وبين جولشیفته كيمياء تمثيلية، وهذا ما حدث بالضبط، وتعبّر شعيب عن هذا قائلة “في أول لقاء بينهما انطلقا في ارتجال مشهد ما، ثم استقرا على العمل سوياً”.
وتقول جيهان عن ندى وسام “إنها قصة عن الأخوة، ولكن هذا لم يكن حقيقياً، فقد كانا وكأنهما في قصة حب، لا ينفصلان، حتى ولو تسبب أحدهما الألم للآخر من خلال بعض اللكمات أو الشتائم، فالحب لم يكن لينضب، جزءُ من إلهامي في علاقتهما كان في رواية Les Enfants Terribles للكاتب الفرنسي جان كوكتو”.
حملت ندى بداخلها الكره لأهل بلدتها، لأنها شعرت أن لهم دخل في اختفاء جدها، ولكن جلال هو الشخص الوحيد الذي استطاع التواصل معها والدخول إلى قلبها، فهو شاب مراهق يقضي وقته في التجسس عليها ومتابعتها، لأنه شعر أن ندى عادت مرة أخرى طفلة، بمجرد أن عادت إلى وطنها الأصلي وبدأت التخييم في طفولتها، كان بمقدورها التواصل مع شاب مراهق صغير لأنهما أصبحا في عمرٍ واحد.
وتضيف “جلال الشاب المراهق أصبح نوعاً ما كأخٍ آخر لندى، أخ مؤمنٌ بها ويطيعها طاعة عمياء ويتبعها كأخت أكبر سناً، وبطبيعة الحال وجدت ندى نفسها تستبدل سام بالشاب جلال، وهذا ما اندلع بسببه نوعاً من التوتر والغيرة ليشكل الثلاثة مثلثاً لحبٍ مثالي”.
عن اختيارها للممثل فرانسوا نور تقول المخرجة “فرانسوا لم يكن أبداً واحداً من فريق عمل الفيلم، ولكني كنت أبحث عن شخص يجعلني أفكر في الفيلم مثل بازوليني، ولقد أثبت فرانسوا لي أنه ممثل رائع وبسيط، ولديه عمق في تمثيله وتواضع يجعل منه ممثلاً على طبيعته”.
تاريخ ضائع
تمتلك المخرجة جيهان شعيب بيت للعائلة في لبنان، خرّبته الميليشيات المختلفة واحتلته وأُغرقت جدرانه بالكتابات البذيئة والسباب السياسي، البيت مازال موجوداً حتى الآن، لم تدخله إلا بعد انتهاء الحرب، وحين رأت حاله صُدِمت. “في لبنان، هناك الكثير من الناس يودون محو هذا الماضي، والكثير من البيوت مثل بيت عائلتي، لقد حوّلوا المناظر الجمالية إلى نفايات، وأصبحت مثل كبسولة الوقت، تذكرك دائماً بآثار الحرب والعنف”.
معظم مشاهد الفيلم كانت في أوج أيام الشتاء، وكان على فريق العمل البيات في هذا الخراب. وتقول شعيب عن فترة التصوير “تم تصوير الفيلم في شتاءٍ مميت، الأجواء كانت ثلجية، وكنا وكأننا في عزلة عن العالم.. عزلة تامة”.
وتتابع “لقد شعر كل فريق عمل الفيلم كيف هو التخييم في الخراب لنحاول أن نجعله كمنزلنا، لقد كان صعباً وجميلاً في الوقت نفسه”.
تقول شعيب “ما هو مرعب في الحرب الأهلية أن كلنا مذنبين، حتى الذين لم يرتكبوا أي جريمة، حتى الأطفال، فمن قذارة الحرب وقسوتها ينتشر ذنبها في كل مكان، لنظل جميعاً مشتركين في الذنب”.
وتتابع شعيب “وبعد انتهاء الحروب، يعيش القتلة، يتم تصنيفهم كالأبطال أو كالمجرمين وفقاً لوجة نظرك، وفي النهاية تحتك أكتافك بهم لأنهم أصبحوا جيرانك الجدد”.
لا توجد حقيقة مطلقة، وهذا ما وصلت له ندى “اليوم أًصبح من المستحيل تقريباً الحديث عن هذه الحرب بشكل جماعي متسق، فليس هناك نسخة يقبلها الجميع، لا يوجد كتاب تاريخي يقرأه الشباب، كلٌ له نسخته الخاصة، والكل يخاف إعادة فتح الجروح، أو إشعال الفرقة من جديد، فقط الفن والخيال يمكنه عرض هذه القضايا بحرية” حسبما تقول المخرجة.
الجدير ذكره أن الفيلم شارك في عدة مهرجانات سينمائية وهو ما جعل عدد من النقاد يشيدون به، فكتب “دراما لابد من أن يكون لها مكاناً ثابتاً في مهرجانات السينما الدولية” - بويد فان هويج في هوليود ريبورتر، “أداء قوي من الممثلة الإيرانية جولشیفته يقود الفيلم الطويل الأول المثير للإعجاب للمخرجة جيهان شعيب” - ويندي آيدي فيScreen Daily ، “الفيلم نال الاحترام في رحلته بالمهرجانات والعروض الفنية بعيداً عن موطنه” - بيتر ديبروغ في Variet.
يشار إلى أن الفيلم من بطولة جولشیفته فراهاني، ماكسيميليان سيويرين، فرانسوا نور، ميراي معلوف، جوليا قصار، محمد عقيل، تصويرتوماسو فيوريل، مونتاج، لودو تروش، موسيقى تصويرية هنرى مايكوف، بياتريس ويك، ألين غرافوي، إيمانويل كروسيت، ديكور زينة ساب دي ميليرو، أزياء بياتريس حرب وسيناريو وإخراج جيهان شعيب.
ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.
تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :
- مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
- يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
- كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.