رحيل المخرج والكاتب السوري نبيل المالح

, بقلم محمد بكري


 شيخ السينمائيين السوريين ومخرج السينما البديلة يرحل في الغربة


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 25-02-2016، العدد: 10196، ص(15)
الصفحة : ثقافة
شيخ السينمائيين السوريين ومخرج السينما البديلة يرحل في الغربة
العرب - حنان عقيل - لندن


المبدعون ينتصرون دائما إلى الإنسان للهامشي وللمهمل من قضاياه، وهكذا كان المخرج السوري نبيل المالح الذي آمن بالسينما كفن للتغيير كما آمن بالمستقبل مكرسا حياته للعمل من أجل واقع إنساني أفضل، لكن يأبى الموت أن يترك المبدع الذي الذي مازالت في جعبته أعمال كثيرة يعمل على تحقيقها، فبعد يومين فقط على رحيل التشكيلي السوري نذير نبعة، رحل المخرج والفنان السوري الشهير نبيل المالح أمس الأربعاء.

توفي صباح الأربعاء 24 فبراير الجاري المخرج والكاتب السوري نبيل المالح في مدينة دبي الإماراتية بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 78 عاما. وقد نعى العشرات من المفكرين والفنانين السوريين المخرج والفنان نبيل المالح الذي عرف بمعارضته للنظام في سوريا، حتى قبل اندلاع الثورة فيها، حيث كان من أبرز الموقعين على إعلان دمشق عام 2005، وكان من أولئك الذين حذروا من ذهاب سوريا إلى هذه الكارثة نتيجة غياب الحريات والكرامة، وله أعمال كثيرة في خدمة السوريين، شرح فيها العذاب السوري، ودعا من خلالها إلى تصحيح مسار الثورة للحفاظ على هويتها الوطنية ومشروعها الإنساني.

تغيير الوجهة

ولد نبيل المالح في 28 سبتمبر 1938، سافر مبكرا إلى براغ لدراسة الفيزياء النووية، لكنه اكتشف السينما من خلال تأديته لدور كومبارس في أحد الأفلام التشيكية، هذا ما جعله يغير طريقه تماما نحو اتجاه السينما، ليتوجه إلى دراستها على حسابه الخاص في تشيكوسلوفاكيا سنة 1957، ويكون بذلك من أوائل السوريين الذين تخصصوا في السينما بالخارج، ويصبح في ما بعد من أهم المخرجين وكتاب السيناريو. وقد حاز حينها على ماجستير في الإخراج السينمائي والتلفزيوني من معهد السينما بمدينة براغ.

خلال فترة قصيرة قدّم المالح أربعة أفلام طويلة للتلفزيون “المفاجأة” و“أحلام” و“رجلان وامرأة” و“إكليل الشوك”، لكنه بعد ذلك بدأ تعاونه مع مؤسسة السينما في أعمال تسجيلية وروائية وتجريبية فكان فيلم “نابالم” عام 1970، فيلمه هذا حصد على الفور حضورا مميزا على المستوى العالمي.

قدم ثلاثية “رجال تحت الشمس” عام 1970 وكان فيلما من ثلاثة أعمال سينمائية “المخاض – الميلاد – اللقاء”. من إخراج محمد شاهين، مروان المؤذن ونبيل المالح، كتب السيناريو حينها نبيل المالح بالاشتراك مع نجيب سرور وقيس الزبيدي ومحمد شاهين ومروان المؤذن. وكان هذا الفيلم يدعم موقف المالح وجيل السينمائيين السوريين الأوائل من قضية الشعب الفلسطيني، وهو مقتبس عن حكاية غسان كنفاني ويروي رحلة تهريب ثلاثة لاجئين في صهريج ماء، من مخيمات اللجوء الفلسطينية إلى الكويت عبر الصحراء، حيث يختنق الثلاثة في الصهريج. وقد حصل الفيلم على الجائزة الذهبية بمهرجان قرطاج للأفلام العربية والأفريقية عام 1973. واختير كواحد من أهم 100 فيلم سياسي في تاريخ السينما العالمية.

وفي العام 1972 قدّم المالح فيلمه الكبير “الفهد” عن رواية حيدر حيدر، ويحكي قصة فلاح بسيط يكتشف أن السلطة الإقطاعية هي امتداد للسلطة الاستعمارية حين انتزعت منه أرضه؛ يدخل السجن ويعذب بقسوة من قبل السجانين الذين يقاومهم ببندقية حصل عليها، متحوّلا إلى أيقونة شعبية. الفيلم فاز بالعديد من الجوائز العالمية، ونال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دمشق السينمائي وجائزة تقديرية من مهرجان لوكارنو السينمائي، وجائزة تقديرية من مهرجان كارلو فيفاري، وجوائز عديدة في مهرجانات دولية، وتمت دعوته إلى مهرجان بوزان الدولي للأفلام الأسياوية ليتمّ اختياره ضمن الأفلام الخالدة وأهم الأفلام في تاريخ السينما الأسياوية. أخرج المالح بعد فيلم “الفهد” فيلمه “السيد التقدمي”، ثم فيلم “بقايا صور” عن رواية لحنا مينة، وكذلك فيلم “غوار جيمس بوند” لدريد لحام ونهاد قلعي.

مع بداية الثمانينات سافر نبيل المالح إلى الولايات المتحدة الأميركية لتدريس مادة الإخراج السينمائي والسيناريو لدى العديد من الجامعات، ومن بينها جامعة السينما في أوستن بتكساس وجامعة السينما في لوس أنجليس بكاليفورنيا، في رحلة طويلة ستمتدّ قرابة العقدين، سيقضي الشطر الأكبر منهما في اليونان، وهناك كتب سيناريو فيلمه الفريد “الكومباس” الذي تدور أحداثه بين رجل وامرأة؛ رجل بسيط يعمل مع الممثلين ككومبارس وامرأة عادية، يتواعدان ليلتقيا في بيت صديق له، وتدور بينهما الأحاديث، وتدور من حولهما الأحداث.

أكثر من 60 جائزة

عاد بنص فيلمه الجديد إلى دمشق، ووقع اختياره على بسام كوسا وسمر سامي لتمثيله. عرض فيلم “الكومبارس” في مهرجان دبي السينمائي ونال جائزة أحسن إخراج من مهرجان القاهرة وجائزتي التمثيل من مهرجان السينما العربية في باريس، وجائزة أحسن سيناريو من مهرجان فالنسيا والجائزة الفضية لمهرجان ريميني.

بعد فيلمه “الكومبارس” استقر المالح في دمشق، من بعدها عاد نبيل المالح ليكتب ويصوّر أفلاما قصيرة، نذكر منها “نابالم” و“الدائرة” و“النافذة” و“الصخر”، وقد وصل عدد أفلامه إلى أكثر من 150 فيلما بين أفلام روائية طويلة وقصيرة وأفلام تجريبية وتسجيلية.

وأعماله كما يقول عنها إبراهيم الجبين “تخرج عن الإيقاع العربي المألوف، ولا تقترب من التشبّه بالأعمال الغربية. والقراءة الدقيقة لمجمل أفلامه يمكنها أن تقول بجرأة إن المالح قد شكّل مدرسته الخاصة التي تعلم منها الكثيرون في أنحاء مختلفة من العالم”.

ويذكر أن المخرج الراحل نبيل المالح حائز على أكثر من 60 جائزة سينمائية عربية وعالمية. وقد عرف على مر تاريخه الطويل، كمخرج أفلام روائية هامة، وكان من بين قلة من المخرجين، الذين صنعوا هوية ما عرف بالسينما السورية. ولعل شهرة أفلامه الطويلة التي نالت العديد من الجوائز الهامة في مهرجانات سينمائية عربية وعالمية، خلال الخمسين سنة الماضية، قد عتمت بشكل أو بآخر على إبداعه في مجال الأفلام الوثائقية والقصيرة التي صنعها نبيل المالح بكثير من الحب والشغف.

ومن أفلامه الوثائقية “عالشام.. عالشام” الذي أخرجه قبل الثورة السورية ولكن منعت السلطات السورية عرضه، ويعدّ هذا الفيلم واحدا من التجارب السينمائية الإشكالية في سوريا، فبعدما انتهى مخرجه من عمليات تصويره ومونتاجه، تمّ تشكيل لجنة كبيرة للبت فيه لكنها رفضت عرضه.

ومن يشاهد هذا الفيلم سيرى إرهاصات الثورة السورية فيه، فهو فيلم بسيط يطرح وجهة نظر لماذا يهرب الشباب من الريف إلى المدينة، ويؤكد أن أسباب الهجرة اقتصادية بالأساس، كما أنه يرصد الانتهاكات التي تمارس ضدّ سكان المناطق التي تعيش تحت خط الفقر.

ومما لا يعرفه الكثيرون عن المخرج الراحل نبيل المالح أنه فنان، كما يصفه متابعو مسيرته الغنية، حيث يعيش موجة ملونة متداخلة تنقله من الإخراج إلى الكتابة فالرسم والشعر. ويعتبر المالح واحدا من قلائل المخرجين السوريين الذين تمكنوا من صناعة هوية للسينما السوريّة بدفعه دوما إلى التجريب، ومحاولة الابتكار.

شاب في الثمانين

قبل أن تقعده الوعكة الصحية الأخيرة، التقاه الكاتب الفلسطيني المقيم في الإمارات تيسير خلف في معرض الشارقة للكتاب، يقول خلف “كان جالسا ينتظر وأمامه عربة كتب مترعة. قلت له مازحا: متى ستنهي كل هذه الكتب؟ قال، وقد علت وجهه ابتسامة ساخرة: في أوقات الفراغ بين المشاريع السينمائية، وفي الاستراحات بين المشاهد. ضحكنا من الأعماق، ونحن نتذاكر، من دون كلام، أسماء المشاريع الكثيرة التي لم تتحقق. قال بعد أن هدأ الضحك: ومع ذلك لدي مشروع جديد، أتوقع أن يرى النور قريبا”.

يؤكد خلف أن سيرة نبيل المالح السينمائية تختصر قصة صعود وسقوط السينما الجديدة في العالم العربي، فهو ينتمي إلى جيل كان يؤمن بقدرة السينما على تغيير العالم. ولكنه، وبسبب، دمشقيته العريقة، لم يكن من أصحاب الحلول الصفرية، فكان من أوائل المخرجين المثقفين الذين جربوا حظهم في القطاع الخاص، حين كان ذلك القطاع ينتج عشرات الأفلام في العام. ولكنه عاد إلى القطاع العام، رغم ندرة الفرص، ليقدم أفلاما تعدّ علامات في تاريخ السينما السورية، كـ“بقايا صور”، و“كومبارس”.

يقول تيسير خلف: نبيل المالح ليس مبدعا استثنائيا فحسب، ولكنه إنسان استثنائي، إذ ثمة تجسيد حي للدأب والمثابرة والرغبة في العيش حتى آخر رمق، وحتى آخر نبضة قلب.

ويستذكر خلف أن المخرج الراحل كان في التسعينات من أوائل من تحدثوا عن الهلام الذي يسبح فيه المثقف السوري، وكان من أوائل الذين اعتقدوا في إمكانية إخراج سوريا من أزمتها حين تصدّى المثقفون لأول بيان في عقد التسعينات يشخص الحالة المستعصية في سوريا.

وداعا نبيلو

من جهته يتساءل الفنان والكاتب السوري المقيم في الإمارات مأمون البني كيف تستطيع الكلمات أن تعبر عن فقدان نبيل المالح، يقول: أنا عاجز أن أرثيك وعاجز أن أتحدث عنك، وعن صداقتنا، وعن أفلامك التي كنت دائما تدهشنا بجديدك. أنت نبيل المالح الفنان التشكيلي والمخرج السينمائي السوري القدير، أنت من أهم المبدعين السوريين الذين خطّوا للهوية السورية داخل وخارج الوطن. أنت الذي اتهمك النظام يوما أنك متعامل مع العدو، فقط لأنك معارض وناشط في المجتمع المدني. في بيتك أنت وفي حي المهاجرين الدمشقي، كنت تجتمع مع رجال الفكر والفن والسياسة، أنت بفقدانك بسطت مساحة كبيرة من الألم لا تقلصها إلا إعادة مشاهدة أفلامك لتخفيف لواعج حزننا على غيابك.

يتابع البني: منذ أن هتفت لي وأخبرتني أن قلبك الكبير بدأ يُشكيك من كثرة عدد السجائر التي تستهلكها يوميا وأنا على صراع معك من أجل تقليل هذا السم الذي دافعت عنه بقولك “وهل يبقى لي غير هذا؟ مأمون اكتشفت أننا صغار جدا في المغترب، نظام بلدنا نبذنا، العمر داهمنا، العالم ظلمنا، أنا أستبدل الكاميرا التي فقدتها الآن في المنفى الاختياري بالسيجارة، لكني ما زلت أكتب مشاريع سينمائية جُلها عن الثورة السورية”. وكان قد ختم محادثته معي قائلا “أحمد الله أني بين عائلتي، زوجتي فريال وابنتيّ أبلا وزلفى وزوجيهما وأنتم الأصدقاء المقربين.. أنتم عائلتي أنتم أحبائي أنتم الآن أفلامي”. أتت كلماته تلك كمؤشر وداع أحسست به كصاعقة انتزعت بسمتي.

يعتبر الكاتب والمترجم السوري بدرالدين عرودكي أنه لا يمكن لمن يلتقي نبيل المالح أن ينساه أو ألا يحاول أن يتخذه صديقا، فقد التقاه أول مرة، عام 1970، حين دعي كصحافي إلى حضور عرض فيلم أنتجته مؤسسة السينما في عصرها الذهبي عندما كان مديرها الأستاذ حميد مرعي، ويعني ثلاثية “رجال تحت الشمس: المخاض، الميلاد، اللقاء” التي أخرجها على التوالي: محمد شاهين ومروان المؤذن ونبيل المالح. ثم التقاه ثانية بمناسبة عرض فيلم قصير له لم تتجاوز مدته الدقيقة الواحدة، ويحمل اسم: نابالم، أنجزه بعد هزيمة يونيو 1967، فيلم يسرد لحظةً تتفجر خلالها أبعاد الزمن الثلاثة وتقول ما لا يسع ساعات.

وتابع عرودكي عمل المالح كصديق، وكذلك بحكم عمله بعدئذ في مؤسسة السينما التي كان أخرج في إطارها عام 1972 فيلمه الروائي الكبير “الفهد”، الذي شاهد إنجازه ثم أول عرض خاص له، كما تابع مسيرته عبر المهرجانات التي توجته بجوائزها.

يقول الكاتب: نبيل المالح سينمائي حتى النخاع، دون أي شك، لكنه أيضا فنان تشكيلي وكاتب وشاعر وسيناريست. دمشقي المنبت والهوى. يعكس حضوره على الدوام دماثة وجمال وروح وأريحية أبناء هذه المدينة العريقة الأصيلين. لا يكل ولا يمل بحثا من أجل تحقيق ما يحلم به؛ عشرات المشروعات تتراكم في جعبته أو في رأسه، يحاول أن يخرجها إلى النور، وأن يحيلها واقعا قائما. وربما كان عدد الأعمال السينمائية التي أنجزها على ما واجهه ويواجهه كل سينمائي سوري يعكس هذه القدرة الخلاقة التي تفرد بها. نبيل المالح كان قد أعلمني أن ميلان كونديرا كان أحد أساتذته في معهد السينما بمدينة براغ حين هجر دراسة الفيزياء النووية إلى دراسة السينما. وقد سعدتُ حين أجابني كونديرا عن سؤالي له، إذا كان يذكر تلميذا له في هذا المعهد اسمه نبيل المالح، قائلا: آه.. هذا السوري.

قامة كبيرة

من جهته يقول المخرج السوري رأفت الزاقوت: صديقي الأستاذ نبيل المالح هو قامة كبيرة في السينما السورية، كنت أحضر له مادة “مبادئ سيناريو سينمائي”، وكان له تأثير كبير في السينما السورية خاصة وأنه كان غزير الإنتاج، إذ تجاوز إنتاجه السينمائي الـ100 فيلم، وتأثر به كثير من الشباب، وخاصة في فيلمه “الكومبارس” الذي ألهم الكثير من شباب المخرجين لما فيه من أسلوب جديد عن السينما العربية. رحيل المالح خسارة كبيرة للأوساط الفنية والسينمائية العربية، فالخبر شكّل لي صدمة كبرى خاصة أنه لم يمض سوى أسبوعين على تهنئته لي بالحصول على جائزة، كما أنه كان يعمل في السينما حتى في الأيام الأخيرة له وذلك الشغف والحماس يفتقده الكثير من الشباب.

ويرى الكاتب السوري إسلام أبوشكير أن المخرج الراحل عاش في دبي حاملا “شامه” معه. ويلتبس عليه الأمر فلا يعرف من الذي يصطحب الآخر؟ أهو يجرّها من جديلتها، أم هي تطارده مع كلّ خطوة يخطوها؟

يقول: نبيل المالح يدفن اليوم في دبي، لكن روحه تحلّق في الشام، ولا أدري، لعلها مأساة أخرى يعيشها وهو يرى جحيم الشام الآن عن قرب. التقينا في مناسبات كثيرة هنا، ولم أره إلا قويا. ولم يخطر في ذهني أنّ المرض سيصرعه. كنت أقول: نبيل المالح لن يموت إلا في الشام.

ويقول الشاعر المغربي عزالدين بوركة: في زمن البدايات، والتأدلج لصالح الدولة، عاد نبيل إلى موطنه ليقاوم بأعماله التي ستظل خالدة في ذاكرتنا العربية والعالمية لما حققه بفيلمه “رجال تحت الشمس”. لقد عشنا نحن الأجيال اللاحقة مع تلك الأفلام نوستالجيا لزمن بعيد، كما كان لنا أن نتشبع برؤية سينمائية قادمة من تمازج بين الروح الغربية والروح العربية، والغارقة في ماء الإبداع. إنه من بين القليلين الذين صنعوا الهوية السينمائية السورية والعربية.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



 نبيل المالح... طوى أشرعته بعيداً عن دمشق


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٢٢ الخميس ٢٥ شباط ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
نبيل المالح... طوى أشرعته بعيداً عن دمشق
خليل صويلح


لم يركن إلى سردية بصرية واحدة. كان معجوناً بالمغامرة والشغف لارتياد مناطق بصرية مفارقة ومبتكرة. أمس، انطفأ المخرج المعروف، تاركاً 12 فيلماً روائياً، وعشرات الأعمال القصيرة التجريبية والوثائقية، وضعته في مكانة مرموقة في الفن السابع السوري.

قبل نحو ثلاثة أسابيع، كرّم ملتقى «الرواق» في دبي، نبيل المالح (1936- 2016). كانت الصورة التي شاهدنا على الموقع الالكتروني للملتقى تثير الشجن والأسى، فقد أتى المخرج السوري المخضرم على كرسي متحرّك (!).

لن يصدّق من يعرف حيوية صاحب «الكومبارس» أن يشاهده على هذا النحو المؤلم. في شباط (فبراير) قبل خمس سنوات، خطف الموت المخرج عمر أميرلاي، وها هو في الشهر نفسه يضع نبيل المالح في «سجل اختفاء» آخر، قبل أن يجفّ التراب على قبر نذير نبعة الذي غاب قبل يومين. يا لها من مقبرة مفتوحة للسوريين!

الآن، ونحن نستعيد شريط السينما السورية، لن تستقيم نظرتنا النقدية إلى هذه السينما، من دون أن نضع أفلام نبيل المالح في الواجهة، بالتوازي مع سيرته الشخصية الصاخبة.

هكذا توجه الابن المشاكس لعائلة بورجوازية دمشقية إلى براغ، مطلع ستينيات القرن المنصرم، لدراسة الفيزياء النووية، لكن مصادفة عابرة حرفت طريقه، بعد سنتين من الدراسة، نحو السينما: «كنت مفلساً، حين اقترح عليّ أحد الأصدقاء أن نعمل كومبارساً في فيلم تشيكي. في موقع التصوير، اكتشفت أن السينما هي المهنة التي أبحث عنها». حالما أنهى دراسة السينما في براغ، عاد إلى دمشق، ليجد نفسه رهن الاعتقال بسبب تقرير أمني. بعد خروجه من السجن، تشرّد سنوات في أوروبا، إلى أن عمل في منظمة اليونيسكو بمساعدة صديقه شريف الخزندار، وأصدرا كتاباً مشتركاً بعنوان «سرّ المسرح». في سنة 1968، أتى دمشق في زيارة عابرة قبل هجرته إلى كندا، لكن مصادفة أخرى أبقته في البلاد. كانت «المؤسسة العامة للسينما» في بداية تأسيسها، ومديرها حينذاك موفق الخاني يبحث عن مخرج سينمائي لتحقيق فيلم عن النكسة، فقرّر البقاء في البلد، إلى أن وقعت بين يديه رواية «الفهد» لحيدر حيدر. لكن الفيلم واجه عثرات كثيرة، لم تكن في الحسبان. قبل تصويره بأسبوع واحد، جاء «فرمان» من وزارة الداخلية بمنع الفيلم بذريعة أنه يشجّع التمرّد الفردي لقاطع طريق، ويسيء إلى سلك الشرطة. كانت حكاية الفيلم مستقاة من قصة حقيقية عن فلاح يدعى «بو علي شاهين»، تمرّد على الإقطاع، فطارده رجال الدرك في الجبال، وشُنق في ساحة قريته ليكون عبرة للآخرين. هكذا طويت صفحة الفيلم مؤقتاً، إلى أن تغيّرت الأحوال السياسة في سوريا، مطلع السبعينيات، وسُمح بتصوير «الفهد». حقق الشريط نجاحاً ساحقاً، وصار بين أكثر الأفلام السورية شعبيةً. في أحد مشاهد الفيلم، تظهر الممثلة إغراء عارية، لكن هذه اللقطة الجريئة، غير المسبوقة في تاريخ السينما السورية، ستُحذف بعد... خمس سنوات على إنجاز الفيلم!

في «بقايا صور» (1973)، اقتبس المالح رواية حنا مينة عن سيناريو كتبه بمشاركة سمير ذكرى، ومحمد علي فروح. في الرواية الأصلية، تتفوّق السيرية على ما عداها، لكن السيناريو سيعتني بالبيئة الريفية ومناخاتها، مطلع القرن العشرين، حين كان فقر الفلاحين يمشي على قدمين. يتناول الشريط حياة عائلة ريفية بائسة تجبرها ظروف العيش الصعبة على الطواف والهجرة بحثاً عن حياة أفضل. العائلة المكوّنة من أب وأم وثلاثة أولاد لم تعرف للراحة أو الاستقرار طعماً. لكنها فجأة تجد نفسها أسيرة لسطوة رموز الإقطاع وعنف السلطة، مما يحدو بعائلها إلى التمرد بحثاً عن العدالة، فيقف وحيداً أعزل معترضاً لما يراه من واقع فاسد وبائس ويسقط منذ المواجهة الأولى. لكن احد أبنائه لن يتوانى عن أخذ زمام المبادرة ليحمل عن والده أمنيات الظروف القاسية وغير المنصفة.

كاميرا ذكية في التعبير عن سحر الطبيعة وبؤس البشر، وصوغ جملة بصرية أخّاذة، تمكّنت من نسف الوصف الفائض في الرواية لمصلحة الصورة المشبعة من الداخل، وبناء مشهدية مبهرة، في رؤية فكرية غير محايدة. على أن بصمته الحقيقية تجسدت على نحوٍ جمالي خلّاق في فيلم «كومبارس» (1993). فهذا فيلم سوري يفترق عن سواه باشتباكه مع واقع راهن، وأسئلة مضمرة عن الحريّة الفردية، وإذا به يبتعد مسافة طويلة عن أفلام السيرة الذاتية التي وسمت السينما السورية خلال العقدين المنصرمين. فيلم عن عاشقين خائفين في عالم أمني، خانق وضيّق، يضغط على الأرواح. عاشقان مطحونان في غرفة مغلقة، لكن همومهما ستتسرّب تدريجاً إلى الفضاء الخارجي كصورة عن تراكم أشكال القمع والاستلاب والعبودية في مدينة تنبذ أي صيغة للتمرّد. فأنت مجرد كومبارس على الخشبة، وفي الشارع، وإلا ستتعرّض لصفعة من رجل أمن تعيدك إلى مربعك الضيّق بكامل رعبك. بإمكانك أن تحوز بطولة مطلقة ولكن بين الجدران الكتيمة فقط، وما زحام الشوارع وحيويتها إلا شرارة مضمرة، لكنها قيد الاشتعال، في أي لحظة. لم يركن نبيل المالح إلى سردية بصرية واحدة، فقد كان معجوناً بالمغامرة والشغف لارتياد مناطق بصرية مفارقة ومبتكرة من موقع الاختلاف لا التراكم. 12 فيلماً روائياً، وعشرات الأفلام القصيرة التجريبية والوثائقية، وضعته في مكانة مرموقة لجهة البلاغة البصرية، وزاوية النظر، فهو ما انفك يرتحل من أسلوبية إلى أخرى في بحثٍ جريء عن مناطق سينمائية بديلة، إذ لطالما شبّه نفسه بالمحارب الذي يخوض معاركه على كل الجبهات، ذلك أن مشاريعه المؤجّلة أكثر من مشاريعه التي أنجزها طوال نصف قرن من العراك والسجالات الساخنة، رافضاً أن يكون مجرّد حكواتي، فالسينما كما كان يراها تكمن في اقتحام مناطق العتمة في المجتمع، وفحص طبقات القاع المهملة. هكذا أنجز مجموعة من الأفلام القصيرة، في سنواته الأخيرة معبّراً خلالها عن تحولات المجتمع السوري، مثل «عالشام..عالشام» عن هجرة الريفيين إلى المدينة، وفيلم «الكريستال المقدّس» حيث تتجوّل الكاميرا في رقعة صغيرة من دمشق القديمة تمتد من البوابة الرومانية إلى الباب الشرقي: «في هذه الجغرافيا، ستجد أربعة جوامع، وعشر كنائس، وأربعة مساجد يهودية. هذه صورة فريدة لدمشق، تؤكد استثنائية هذه المدينة وروحها المنفتحة على كل الطوائف والإثنيات» كما قال. رحل نبيل المالح بعيداً عن الشام طاوياً أشرعته في المنفى، فيما بقيت عشرات المشاريع المؤجلة في أدراجه.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 أفعلتها يا صديقي؟!


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٢٢ الخميس ٢٥ شباط ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
أفعلتها يا صديقي؟!
محمد ملص


أعتقد بأنك كنت تعرف جيداً، أن هناك من ينتظرنا، واحداً وراء الآخر، كي نمضي، لننصرف من وجهه. ألم تمتلك مزيداً من القوة والقدرة والفعالية التي عهدناك بها، كي تقلع عيونهم بشوكتك الحادة يا معلّم؟

لطالما كنت معلّمي، منذ سنوات دراستي الأولى في السبعينيات، وكنت مرجعي في الحركة والدأب والمحاولة، إلى أن زرعت بذرتك الأولى في فيلمك «الفهد»، ثم سأقف مدهوشاً أمام «نبلك» السينمائي في فيلمك المهم والجميل «الكومبارس» الذي اخترت أن تصوّره في مكانٍ ضيّق، حين كنّا نظن بأن هناك متسعاً للضوء. وها نحن اليوم نكتشف نظرتك الثاقبة إلى ما نحياه اليوم من ضيق في الأمكنة والأرواح، ونعجز عن صوغ أفلامنا خارج الأمكنة الضيّقة، بشروط صعبة وقاسية ومحدودة، بعدما حُرمت علينا حركة الشارع، وحرّمناها على أنفسنا بوجود حملة السيوف. كنتَ حرّاً، وهذا ما نفتقده نحن اليوم. أتعرف؟ كنتُ اعتزم أن نكمل حواراتنا في دمشق، ما أن تعود إليها من إقامتك في دبي، عن أحلامنا المؤجلة في صناعة سينما وطنية، لكنك تعجّلت في المضي. هل لاحظت بأنني صوّرت فيلمي «سلّم إلى دمشق» في مكانٍ ضيّق أيضاً؟ بفارق أنني كنت مضطراً لذلك. كنت واثقاً بأننا سنستكمل تلك الحوارات كما «مسامرات الموتى»، وها أنت تترجّل من دون إنذار، وتدفن بعيداً عن أرضك الأولى، فكيف سنعيش هذه الظروف المرهقة في غيابك يا معلّم؟

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا



 الرائد والمؤسس لا يشبه إلا نفسه


جريدة الأخبار اللبنانية


العدد ٢٨٢٢ الخميس ٢٥ شباط ٢٠١٦
جريدة الأخبار
ادب وفنون
الرائد والمؤسس لا يشبه إلا نفسه
علي وجيه


واحداً تلو الآخر، يتساقط المبدعون السوريون. كأنّهم ينهارون فجأةً، تحت وطأة الحزن على بلد سابح بالدماء. ما يزيد النبأ الفاجع مرارةً أنّ السينمائي والتشكيلي والشاعر الدمشقي لم يُدفَن في مدينته الأثيرة.

دمشقه التي صوّرها كثيراً، مصطاداً بعض جوانبها المظلمة، وكثيراً من وجوهها البهيّة. من الآثار الجانبيّة المريعة للحرب السوريّة، ألا يُوارَى المثقف السوريّ تحت تراب بلاده.

نبيل المالح لا يشبه إلا نفسه. التمعّن في نصف قرن سينمائي من حياته الحافلة، يستخلص فرادةً واختلافاً في آلية التفكير والبحث والأفلمة. مشروعه الكبير في الفيلم الطويل والقصير والوثائقي، لم يعرف الكلل أو الركون. لا بدّ من التنوّع والتجريب، لاستكشاف تيمات تلامس الفرد، وجغرافيا تظهر المزيد من دمشق وما حولها. أسلوبية خاصّة طوّرها عبر السنوات، ليصنع ختماً خاصّاً لعدسة لا تشبه السائد ولا تقلّد الآخر. «كان من بين قلّة من المخرجين، صنعوا هوية ما عُرِفَ بالسينما السورية»، عبارة وردت كثيراً في أخبار نعي الرجل. بضع نقاط قد تسهّل الاقتراب من تميّز الراحل وخصوصيته:

إثر دراسة السينما في براغ كأوّل مخرج سوري يتعلّم المهنة خارج البلاد، عاد نبيل المالح إلى دمشق. بدأ العمل مع المؤسسة العامّة للسينما على أوّل فيلم روائي سوري طويل بعنوان «الفهد»، عن رواية لحيدر حيدر بالاسم نفسه. حكاية الفلاح البسيط الذي يتمرّد على الإقطاع والاستبداد لم تعجب وزارة الداخليّة، فلم يرَ الشريط النور حتى عام 1972، محققاً نجاحاً مدوياً والعديد من الجوائز. كذلك، يُحسَب للمالح أول فيلم ديجيتال روائي طويل في سوريا، هو «غراميات نجلا» (2001)، الذي نال فضية «مهرجان القاهرة» التلفزيوني وذهبيتي أحسن سيناريو وأحسن ممثلة لرنا الأبيض. يُضاف إلى ذلك عناوين وثائقيّة مبكّرة، مثل «إكليل الشوك» (1969) والشهير «نابالم» (1970)...

منذ «الفهد»، انحاز نبيل المالح إلى حريّة الفرد وكرامة النفس، داعياً إلى مقاومة المحتل والمستبد. المقاوم الفلسطيني في ثلاثيّة «رجال تحت الشمس» التي أخرج أحد أجزائها، يتقاطع مع ذلك الفلاح الذي لعبه أديب قدّورة. بشكل أو بآخر، سيتكرّر ذلك في «بقايا صور» (1973) و«السيّد التقدمي» (1974)، وصولاً إلى تحفته «الكومبارس» (1993). في غرفة ضيقة، توهّج بسام كوسا وسمر سامي ضدّ العسف والقمع. صرخا من أجل حريّة الفرد. لا شكّ أنّ تجربة المالح الشخصيّة عزّزت عنده هذا التوجّه البيّن، الذي ختمه بالوقوف إلى جانب المنتفضين في بلده منذ آذار (مارس) 2011. لقد تلقّى صفعة من عسكريّ في متنزّه عام أيام الطفولة، فكره القبضة الأمنية إلى الأبد. عمله في منظمة الأونيسكو، عرّفه أكثر على حقوق الإنسان ومعنى المواطنة. أسفاره العديدة إلى أميركا وأوروبا، مكّنته من «استخدام الحياة» بشكل عملي. هكذا، صار المالح حالماً بكثير من المفاهيم الهشّة في أرض «الكريستال المقدّس».

التصق اسم المالح بأكثر من 150 عنواناً. كان يعمل بلا انقطاع، متلوّناً بين التصوير والسيناريو والشعر والرسم. مشاريع كثيرة لم ترَ النور، منها «البيانو» و«فيديو كليب»، ووثائقيات عن جرائم الشرف وحقوق المرأة وتاريخ دمشق. اللافت في طرح المالح هو الذكاء في الجمع بين القيمة الفنيّة والجذب الشعبي، بين البلاغة والحرفة والبزنس والراهن الحار. الكاتب والصحافي إبراهيم الجبين روى تجربةً لافتةً مع المالح في «العرب» اللندنيّة. صاحب «عالشام.. عالشام» لم يتردد في العمل على وثائقي عن أسامة بن لادن عندما كان يعيش في الساحل السوري. المالح والجبين قابلا أهل والدة أسامة وابنته بالتبنّي، ليخرجا بمادة ساخنة قادرة على اكتساح العالم بعد تفجيرات برجي التجارة. من سوء الحظ، قام الأمن السوري بمصادرة الشريط قبل ولادته. ببساطة، يمكن التنبّؤ بشطارة المالح كرجل صناعة لا يساوم على الجودة، لو شهدت سوريا مشهداً سينمائياً حقيقياً مع شبّاك للتذاكر.

لم يفارق المالح شباب السينما طوال حياته. حرص على نقل المعرفة والخبرة إلى الآتين بعده. درّس في تكساس وكاليفورنيا، وظلّ مواظباً على نشر فيديوهات تعليمية على مدوّنته حتى النهاية. ساهم في تطوير عدد من المشاريع، ولم يمتنع عن مد يد العون لطالبي المشورة. مشاركته في تأسيس «مهرجان السينما البديلة» مطلع السبعينيات دليل على تشبّثه بالانفتاح، وعدم الانقياد خلف المفاهيم الأحادية والأفكار الجاهزة.

عن موقع جريدة الأخبار اللبنانية


مقالات «الأخبار» متوفرة تحت رخصة المشاع الإبداعي، ٢٠١٠
(يتوجب نسب المقال الى «الأخبار» ‪-‬ يحظر استخدام العمل لأية غايات تجارية ‪-‬ يُحظر القيام بأي تعديل، تحوير أو تغيير في النص)
لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)