كتاب الهلال

رحلة الراهب سيمون إلى مصر والشام ترجمة الدكتور محمد حرب

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت ٢٨ سبتمبر(أيلول) ٢٠١٣
جريدة الحياة
محمد فوزي رحيل، كاتب مصري


مصر المحروسة في رحلة سيمون الراهب



قام الراهب البولندي سيمون عام 1608 برحلة من بولندا إلى بلاد فلسطين بغرض الحج الى الأماكن المقدسة المسيحية في القدس، وفي طريقه لبلوغ هذه الغاية مر بمصر، وقدم وصفاً تفصيلياً لكثير من أحوالها خلال فترة زيارته، وهو ما نجمله في هذا المقال. وعلى رغم أن الكتاب قديم، إلا أن معرفة قراء العربية به جد قريبة؛ وسبب ذلك أن سيمون الراهب دوّن الكتاب باللغة الأرمينية، وظل هذا الكتاب حبيس هذه اللغة حتى نقله إلى اللغة التركية الأستاذ التركي ذو الأصل الأرمنى آقنيان، ولم يترجم إلى العربية حتى عهد قريب حين قام بهذه المهمة الدكتور محمد حرب عبدالحميد، أستاذ الحضارة واللغة التركية في كلية الآداب في جامعة عين شمس ونشر ضمن سلسلة «كتاب الهلال».

بدأ الراهب سيمون رحلته من مدينة ليفوف أو لمبرغ حالياً واتجه إلى اسطنبول وفيها كان عليه أن يختار أحد طريقين للوصول إلى فلسطين، إما الطريق البري، أو الطريق البحري مروراً بمصر، ونظراً الى ارتفاع كلفة الأول فقد قرر السفر عن طريق البحر، لكن لم يكن مع سيمون ما يكفيه من المال، ومن ثم بقي في اسطنبول عاماً كاملاً يعمل في نسخ الكتب حتى جمع ثمانين قرشاً تكفي للرحلة البحرية، ومن هنا حجز مكاناً في إحدى السفن المتجهة نحو الاسكندرية، ولم يكن الطريق البحري آمناً إلى حد كبير بسبب هجمات القراصنة المتوقعة، وعانت القافلة البحرية من هجمات القراصنة ونجت سفينة سيمون بصعوبة.

وفي الإسكندرية أعفي سيمون من رسوم دخول المدينة بحكم أنه من الرهبان طبقاً للقوانين المعمول بها في ذلك العصر، ولم يُضع سيمون الوقت بل قام برحلة سريعة عبر مناطقها المختلفة وزار عدداً من المزارات ومنها بقايا الـ 72 مترجماً الذين نقلوا التوراة من العبرية إلى اليونانية بأمر الحاكم البطلمي بطليموس فلادلفوس، كما لاحظ سيمون الرواج التجاري العظيم في الاسكندرية ورخص الطعام فيها بخاصة السمان ذي الشحم الوفير.

ومن الإسكندرية رحل سيمون مع قافلة براً إلى رشيد وهناك شاهد مصب النيل في البحر المتوسط وما يصاحب هذا الالتقاء من صخب شديد ذكر أنه يسمع من مسيرة يوم، كما ذكر رخاء رشيد وكثرة الخيرات فيها حيث كانت مملوءة بأكوام الفول والعدس والرز والسمن والعسل بكميات هائلة. ومن رشيد استقل سفينة عبر النيل للتوجه نحو القاهرة والخوف يملأه من هجمات البدو بغرض السرقة ونصحه المرافقون بأن يبتعد عن حافة السفينة خوفاً من هجمات البدو المفاجئة. وبعد يومين من الرحلة وصلوا إلى ساحل بولاق.

كان ميناء بولاق في ذلك الوقت بعيداً نسبياً من مدينة القاهرة، ومن ثم تطلب الأمر استئجار حمار للوصول إلى المدينة، وذكر سيمون أن القاهرة تأخذ من بولاق ما تحتاجه من المياه التي على أربعين ألف جمل، وفي ذلك مبالغة واضحة لكنها لا تخلو من دلالة كثرة الجمال المستخدمة في عملية نقل الماء. وذكر أن القاهرة في ذلك الوقت كانت كبيرة جداً وكثيفة السكان حتى أنها تضارع روما في اتساعها، وبحكم أن سيمون من أصل أرمني فقد بحث عن حارة الأرمن ووصل إليها بعد ساعتين، وفي كنيسة الأرمن استقبل سيمون راهب مكلف الخدمة فيها وقد بقي في القاهرة شهرين في ضيافة راهب نيقساري.

ولفت نظر سيمون غنى أقباط القاهرة وكثرة ثرواتهم وذكر أن السبب هو عمل كثير منهم بالوظائف الحكومية، فهم وفق قوله: «يمسكون في أيديهم كل سجلات القاهرة وأمور الكتابة»، وانعكس هذا الوضع الاقتصادي المتميز على الحالة الاجتماعية والعمرانية للأسر القبطية، فهم يسكنون في بيوت من الحجارة ويلبسون الملابس الحريرية ويجلسون في ديوان الباشا حاكم مصر، لكن لم تعجب سيمون كنائس المسيحيين المصريين، وانتقد قلة الاهتمام بنظافتها وندرة نقوشها وزخارفها. كما لاحظ حرص القبط على عادة الختان للصغار من الأولاد والبنات على حد سواء. ولم يكن الأقباط جميعاً في حال من الرفاه، بل كان هناك قطاع عريض من الفقراء الذين يسيرون في الشوارع حاسري الرؤوس حفاة في ثياب رثة.

أما عن الفلاحين المصريين فقد كانوا مثار انتقاد سيمون الذي وصفهم بعدم النظافة وأكل الحيوانات والحشرات المقززة من الفئران والثعابين، كما انتقد شرب البعض من المياه الراكدة. لكن لفتت نظره طريقة معالجة الماء في البيوت كالآتي: «بعد ان ينقل الماء من البحيرة وهو ماء قذر، وعندما تدهن أفواه الأواني الكبيرة التي يفرغ فيها هذا الماء بنوى البندق المر ولب نوى المشمش، يتحول هذا الماء المملوء بالطين، فجأة إلى النقاء فيشربونه. ونظراً الى أن جو البلاد حار وذو صلصال فيصنع هنا القلل ويملأها الناس بالماء، ويتركونها لريح الليل البارد ويشربونها في اليوم التالي وقد بردت كثيراً».

أعجب سيمون الراهب كثيراً بخان الخليلي وقد وصفه بالضخامة وكثرة قاطنيه من مختلف الأعراق والديانات، ولفت نظر سيمون ما في أهل الخان من التأنق، إذ حرصوا على أن يخبزوا خبزهم بأنفسهم حتى يصنع بمواصفات خاصة وكان لهم جزارون و «قهوجية» مخصوصون. ومن هناك حرص سيمون على شراء شتى حاجاته، بخاصة الخبز المستدير واللحم والسمن. وإلى خان الخليلي يأتي التجار من كل الجنسيات من الهند والمدينة المنورة وإسطنبول وحلب وآمد وغيرها. وفي خان الخليلي تباع الصواني الفخمة والفناجين وكل أنواع التحف.

وزار سيمون الراهب خان الحنا وهو مخصص لنبات الحنا الذي يحفظ في أجولة كبيرة. كما زار خاناً آخر مخصصاً للعبيد. وعن وسائل النقل في القاهرة ذكر سيمون أنها الحمير، ووصف حمير القاهرة بأنها ضخمة يركب على الواحد منها سيدتان أو ثلاث، كما ذكر أن نساء القاهرة كن يغطين وجوههن مثل نساء اسطنبول. أما القرويات القادمات للبيع والشراء في القاهرة فكن سافرات.

ولفتت نظر سيمون كثرة اليهود في القاهرة. وذكر أنهم حوالى ستين ألف أسرة وهم أغنياء جداً يسيطرون على أعمال الخراج والمالية والجمارك ودار سك النقود، وهي حرف تشبه ما كان يحترفه اليهود في بولندا التي جاء منها. كما كان أثرياء اليهود وكبار الموظفين منهم يسيرون في الشارع في موكب كبير يحيط بالرجل منهم العشرون والأكثر من الرفاق على سبيل الحراسة والوجاهة.

ومما شاهده سيمون في القاهرة سوق الخيل وقد وصفه بأنه سوق كبير تباع فيه الجمال والحمير والخيول، وذكر أن أسعار الدواب في القاهرة رخيصة مقارنة بمدينة دمشق، فما يباع في دمشق بثلاثين قرشاً يباع في القاهرة بعشرة قروش، وعلى رغم جودة الحمير في القاهرة، إلا أن أصحاب الخبرة في فلسطين أوصوا سيمون بشراء فرس بدلاً من الحمار وسبب ذلك أن أرض فلسطين أرض صخرية لا يستطيع الحمار تحملها بخلاف الخيل. ومن غرائب ما شاهده سيمون في القاهرة ميدان كبير تباع فيه الثيران الضخمة والأبقار والأغنام وفي هذا الميدان رأى أغناماً لها ستة قرون وغيرها لها أربعة قرون.

ومما أعجب به سيمون في القاهرة جامع جميل له منارة عالية يسمى المسجد الأخضر وبجواره مستشفى خيري يعالج المرضى ويقدم لهم الطعام مجاناً وكذلك الأدوية لكل من يشكو من علل بخاصة أمراض العيون والأسنان وآلام الرأس. ولعل سيمون قصد جامع قلاوون والمستشفى الملحق به والذي ما زال يعمل حتى يومنا هذا باسم مستشفى قلاوون.

وفي القاهرة تعرف سيمون إلى أحد كبار الموظفين واسمه قوجه إبراهيمز وقد ساعده هذا الموظف في زيارة كنائس مصر القديمة والدخول الى قصر الباشا الوالي، ووصفه بأنه مثل المدينة ومن غرائب محتوياته النعام الضخمة ذات الرؤوس النحيلة والسيقان الجميلة وكأنها الاوز. وعرف أن النعام توجد في معظم قصور أغنياء القاهرة. كما زار سيمون قصر الدفتردار وتجول في مختلف جنباته. ومن أغرب ما شاهده جلود التماسيح التي ذكر أنها وحوش كاسرة وأنها كانت منتشرة في النيل في القدم حتى ماتت بسبب طلسم عمله الاسكندر المقدوني لذلك لا يرى إلا في المناطق النائية وبسبب سمك جلده الكبير لا تعمل فيه السيوف او البنادق لذلك تغلف بها الأبواب بدلاً من الحديد.

ومن عجيب ما شاهد في القاهرة احدى التلال تسحب المياه منها بسواق تدار بواسطة الثيران من بئر كبيرة مقسمة إلى ثلاثمئة قسم عميقة، والمياه المستخرجة من القسم الأسفل تنقل إلى القسم الثاني، ومن الثاني أيضاً إلى القسم الثالث، وبهذا الشكل تروى الحقول، وقيل إن ثلاثمئة ثور تستخدم في هذه العملية. وأشار سيمون إلى كثرة النخيل في مصر. وذكر أن ثروة المصريين في وقت زيارته تقدر بعدد ما يملكون من أشجار النخيل؛ لأنه كثير الخير والفائدة، وتباع ثماره بثمن كبير وتستخدم النوى كوقود وتصنع منه السلال والحبال ويستخدم خشبه في البناء.

وقد شاهد سيمون خلال فترة مكوثه في مصر مراسم ذهاب أستار الكعبة، فوفق العادة الجارية يرسل الستر الجديد من القطيفة السوداء كل سنة لكنه أخطأ في تحديد الجهة، فبدلاً من ذكر الكعبة، قال إنها تذهب الى قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم). أما الستار القديم فيأخذه المشايخ. وذكر أن الستر تصنعه 200 سيدة يستخدمن في ذلك القصب بمعدل 450 مثقالاً غير اللؤلؤ، ويتكلف الستر من أربعين إلى خمسين ألف قطعة ذهبية.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)