رحلة إلى جبل لبنان، دومينيغو ماغري المالطي

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٢٨ مارس/ آذار ٢٠١٥
جريدة الحياة
أنيس الأبيض


المالطي دومينيغو ماغري في رحلته إلى جبل لبنان


كتاب «رحلة إلى جبل لبنان» لدومينيغو ماغري المالطي، نشر في روما سنة 1655م، وقام بنقله إلى العربية كميل أفرام البستاني، فحقّقه ووضع له الحواشي والشروح والفهارس، ثم قسّمه إلى فصول عدة.

تبدأ رحلته من روما باتجاه مالطة، ومن ثم الإقلاع من مالطة باتجاه الإسكندرونة إلى أن يصل إلى مدينة حلب، فالمدينة التي يسميها أهل البلد حلب هي «هيرابوليس» القديمة وفق ما يقول الدكتور جوفيو. وقد شادها ألبيوريس بلاط الإمبراطور يوليانوس. غير أنّ جيليو يعتبر أنّها «برهيا» فيما يسميها البعض «خليون»...

يصف «ماغري» حلب كمدينة واسعة الشهرة في الإمبراطورية العثمانية ومن أهم مستودعات البضائع في آسيا، يتوافد إليها تجار أوروبييون يقال لهم إفرنج وفارسيون وهنود مع حرائرهم الوفيرة، في قوافل ضخمة على مدى ستة أشهر، حاملة اللآلئ والحجارة الكريمة وحجر البادزهر والصمغة والمسك والرواند والكينا والقرفة والبهار وكشر القرنفل وسائر العطور وكمية أخرى من الأقمشة وشرانق الحرير الفارسية.

ويذكر «ماغري» أنّ القسم الأكبر من المدينة ينبسط في السهل وهي تشمل ثلاثة أحياء مكتظة على أنّها لا تمتد أكثر من ستة أميال. يعد مجموعها ستة وعشرين ألف منزل، ويكثر فيها ازدحام الشعب، حتى أنّ الناس يتصادمون إذا ما ساروا في بعض الشوارع.

أما وسط المدينة وعلى تلة مرصوفة ببلاطات مربعة تنتصب قلعة منيعة يحيط بها خندق عميق وعريض وهي مجهزة بعدد كبير من المدافع. أما حاميتها فمن مئتي انكشاري. كما يشير إلى أنّ سهلها شديد الخصب، إنتاجه الرئيسي الفستق والتوت لتغذية دود الحرير الذي ينسج بكمية كبيرة.

يبرز «ماغري» حرية العبادة في حلب فيقول: «ولجميع الأمم المسيحية كنائس خاصة وأساقفة وكهنة تمارس كل منها طقوسها بكل حرية. أما مساجدها فتبلغ ثلاثمئة مسجد رئيسي يغطيها الرصاص والنحاس المذهّب مع قببها الغنية التي يبرز دوماً في قمتها الهلال المذهّب فوق كرة مذهّبة هي أيضاً».

ومما شدّ انتباه «ماغري» في حلب الإنشاءات الضخمة في هذه المدينة كأجهزة الاغتسال وهي غرف مسخّنة يسمونها الحمّام. كما لفت نظره وجود الكثير من التجار الأوروبيين، منهم الفرنسيون والبنادقة والإنكليز والهولنديون. ولكل من هذه الأمم قنصلها يقيم في أبنية عظيمة ويحتفظ ببلاط وافر ويرتدي وشاحاً أحمر، وعندما يخرج من بيته يرافقه، إضافة إلى رجال البلاط انكشاريان شاميان يسيران أمامه وفي يد كل منهما نوع من القضبان الطويلة شبيهة بالتي يحملها سوّاس الأسياد الكرادلة في تنقلاتهم على الخيل، والغاية من ذلك الوقار والحراسة.

ويقسّم «ماغري» الانكشارية إلى نوعين: القسطنطينيون والدمشقيون. ويكوّن الأولون جيش التركي الأعظم وهم أولاد المسيحيين الأروام أو من ولايات مختلفة أخضعت كما يقول «ماغري» بقوة السلاح للإمبراطورية العثمانية في أوروبا فقط. وقد كانوا في ما سبق جيشاً شديد البأس مقداماً في الحروب.

أما اليوم فلقد انحطت قيمتهم السالفة، يذكر أن عددهم في كل السلطنة أربعون ألفاً، أما الانكشاريون الشاميون فمنهم أتراك أصليون ولا يتعدون الألف والخمسمئة تقريباً، منهم جيش الخيالة لكل منهم حصانه الخاص، ويلحق به عشرة أو خمسة عشر خادماً خيّالاً، ما يرفع العدد الإجمالي إلى خمسة عشر ألفاً. ولا يغفل «ماغري» عن ذكر خارق الحمام الذي يقوم بدور ساعي البريد، إذ يعلّق في عنقه أنبوب صغير من التنك وفي داخله الرسالة فتقطع من السفر في يوم واحد ما يقطعه الساعي مشياً في ستة أيام.

الذهاب إلى طرابلس الشام

على رغم أنّ «دومينيغو ماغري» لم يزودنا بالمعلومات الوافرة عن طرابلس الشام عند زيارته لها، إلا أنّنا استطعنا الوقوف على بعض ما شاهده أثناء انطلاقه من حلب. فلقد رافق قافلة وافرة العدد، كانت منطلقة من حلب باتجاه دمشق، وكان فيها، إضافة إلى أصحاب العجلات والتجار - وجميعهم مسلحون يتجاوز عددهم الخمسمئة - سيد جاء في صحبتهم مع فرقة من ثلاثمئة جندي خيّال، أرسلهم باشا حلب لملاقاة مال الجزية في طريقه من مصر إلى القسطنطينية.

وسجّل وصوله إلى مدينة حماة يوم الجمعة، وكان قد وصل إليها خراج مصر يرافقه ويواكبه كثير من الجنود الذين خرجوا لملاقاة الجنود الذين رافقوهم مشرعين الأعلام على أنغام المزامير والنقارات والطبول وعلى طلقات البنادق المتجاوبة من الجانب الأول ومن الجانب الثاني.

يورد «ماغري» أنّ الجنود رفضوا تسليم الخراج مدّعين أنّ عليهم مواكبته حتى إدارة القسطنطينية، ويشير إلى أنّ هذا الخراج يتكوّن من ستمئة ألف سكة كلها من النقد الجديد وفق المألوف. ويدخل هذا المال إلى خزينة التركي الأعظم بسرية، وهو ربع الدخل السنوي من مصر، لأنّ قسماً منه ينفق تصدّقاً على الحجاج الذين يؤمون مكة في حينه، والقسم الآخر أجراً للجند البلدي في حماة، والرابع يكتسبه الباشا حاكم تلك الولايات.

أما حماة فهي نفسها «أفاميا» القديمة التي بناها «أنطيوخوس» فأطلق عليها اسم والدته، وفي وسط هذه المدينة تقوم قلعة شديدة الشبه بقلعة حلب، غير أنها مهدومة ومهجورة.

يصل «ماغري» إلى طرابلس يوم السبت - المعروفة بهذا الاسم من اللفظة اليونانية الدالة على المدينة المثلثة - فهي مقسومة إلى ثلاثة أجزاء، فتمتد على سفح لبنان، ومن هذه الناحية تنتصب قلعة عالية يكشف منها بستان زيتون بالغ الكثافة بطول خمسة عشر ميلاً ونصف الميل إلى البحر، حيث يرى مرفأ ملائم للغاية، تحميه سبعة أبراج مزودة بعدد لا بأس به من المدافع.

ونشير إلى أنّ طرابلس وافرة الخيرات واسعة التجارة، أما سهل المدينة فهو بالغ العذوبة مزروع بالبساتين المليئة بالليمون والنخيل والتوت. كانت إقامة «ماغري» في طرابلس عند رئيس كهنة المدينة «إسحاق الشدراوي» في 17 أيلول (سبتمبر) 1624م.

انطلق «ماغري» من طرابلس برفقة دليل ماروني واحد لأنّ كل بلاد الأمير خالية من اللصوص وأمنه منهم، ويسجل أسماء المدن التي مرّ بها أثناء هذه السفرة، فيورد أنّه بات الليلة الأولى عند أسوار البترون، وهي مدينة سماها «بوتروم» واسعة الشهرة لخبرتها، كانت مقراً للكرسي الأسقفي في العهد المسيحي. وفي اليوم التالي مرّ «ماغري» على مقربة من جبيل مدينة سماها اللاتيني «بيبلوس». وكان قد شادها «حواي» سادس أبناء كنعان. ومنه اتخذت أيضاً اسم «موة».

ويصل «ماغري» إلى بيروت يوم الخميس وقت الغداء حيث الأمير يقيم في مقره، وقد شاد قصراً فخماً للغاية على طراز إيطالي مزداناً بالجنائن والاصطبلات ومرابض الحيوانات على مختلف أنواعها. لأنّ الأمير فخر الدين عندما سافر إلى فلورنسا رجع منها مصطحباً مهندسين إيطاليين.

أما بيروت فيذكر أنّ اللاتين سموها «بيرتيوس» وأعطوها اسماً آخر هو «جوليا فيليكس» وكان قد بناها «جرجاشي» خامس أبناء كنعان ومنه اتخذت أيضاً اسم «حشيش» في عهد الأباطرة المسيحيين. كان مزدهراً فيها علم القانون المدني، لذلك رعاها الإمبراطور «يوستنيانوس» واضع الشرائع في ذلك الزمان.

ينطلق «ماغري» يوم الجمعة من بيروت ماراً بغابة كثيفة من الصنوبر فيمر على مزرعة الجية، ثم يدخل صيدون وهي تنعم بمناخ شديد الاعتدال وبأرض كثيرة الخصب صالحة، خصوصاً للزيت الفاخر الذي تنتجه في كمية وافرة الكروم المجاورة المغروسة على سفوح «أنتيليبان» وعلى مسافة ميل تقريباً من المدينة يغنيها التجار الأوروبييون بمعاملاتهم المتواصلة، لا سيما في تجارة الحرائر التي تنقل إلى صيدون من جميع الجبال المجاورة. وكان يحمي المدينة في ما مضى قلعتان الأولى من الجهة الجنوبية، وقد تهدمت والثانية من جهة البحر وهي لا تزال قائمة مبنية على بضعة صخور داخل المياه، ويمكن الوصول إليها على قناطر من حجر.

عندما حان وقت الإبحار للعودة إلى روما لوجود سفينة جاهزة، يذكر «ماغري»، أنه أعلم مع رسول خاص للسيد رئيس الكهنة الذي وفد بصحبة اثني عشر تلميذاً. ويسجل أنه لدى مروره في بيروت ارتأى أن يعلم بذلك الأمير فخر الدين تجنباً لأي عائق في النزول إلى البحر، فأظهر الأمير فخر الدين عظيم الارتياح في أن يذهب هؤلاء الفتيان إلى روما في سبيل الدرس.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)