رامة والتنين، إدوار الخراط (مصر)، رواية

, بقلم محمد بكري


جريدة الدستور الأردنية


الجمعه 8 أبريل/نيسان 2016
جريدة الدستور الأردنية
عاصف الخالدي - روائي من الأردن


إدوار الخراط والتنين


ليرى الخراط أن الحداثة هي (اللازمن)، وأنها عدم الحساسية تجاه الزمن بطريقة متراتبة، فقيمة النص تتمثل بتركه أثراً لا يزول وذلك بتقديمه لإحساس عميق وجميل يمكن التفاعل معه دائماً ورغم مرور الزمن في استخدامه للأساطير والتعامل معها كمادة لم تزل حية، وتضمينها في الحياة اليومية، يظهر رفض إدوار الخراط للوقائعية التي تمثلت بنجيب محفوظ ومجموعة من كتاب آخرين في نهاية حقبة الستينيات الموت لا يعني شيئاً، كذلك الحب، كذلك الحياة! من دون الزمن.

كل هذه الأشياء نلمسها أو نشعر بها من خلال الزمن، وبدون الزمن لا قيمة لها ربما، إذ إنّ أهميتها تكمن بإحداثها تأثيراً في علاقة الفرد مع الزمن، حيث يمكن للحب مثلاً أن يجعل الأوقات جميلة، فيما يمكن للموت أن يترك فجوةً أبدية لا يمكن ردمها بيننا وبين الآخر المفقود. لكننا، وبالفعل، لو دققنا أكثر سوف ننتبه (إلى) أن الزمن مادة لن تتأثر بنا وبما نشعر، ولن تتغير، كذلك، مشاعرنا وأحاسيسنا فقط، هي التي تصبغه بصورة أو بأخرى ليبدو مختلفاً، ليبدو متحركاً، يتقدم أو يتأخر، علماً أن الإنسان لا يعطي الزمن فرصة أبداً لأن يتأخر أو يتراجع للوراء، لكن الأدب بحساسيته أعطى هذه الفرصة للزمن، ربما يمكن القول بأن هذه هي الحساسية، حساسية يملكها الفن، وتملكها الكتابة التي تأخذ الإنسان لمناطق أبعد في هذا العالم، وبعيداً عن رتابة الحياة. هذه أحد جوانب الحساسية، والتي سميت بالحساسية الجديدة وارتبط اسمها نقدياً وفنياً بإدوار الخراط على المستوى العربي.

يقول إدوار الخراط المولود في الإسكندرية سنة 1926: إن رتابة الوقت، تقود إلى رتابة التوقع. تسلسل الأحداث يشبه حادثاً وقع، يمكن بعده التنبؤ، كما يمكن وضع احتمالات ما، لكن هل يمكن وقوع كل تلك الإحتمالات سوياً، معاً، وفي نفس اللحظة!

على صعيد الكتابة نعم، يجيب إدوار الخراط في أكثر من نص وفي أكثر من مناسبة: تتطلب الحساسية كسر ترتيب الوقت ومحتوياته من أحداث، كما تحتاج لكسر الثنائيات المتناقضة، ومحاولة الاقتراب من ماهيتها الواحدة في الأساس، وماذا سيصير لو أنني سعيد وحزين معاً الآن، أكتب سرداً واعياً تتخلله أحلام اليقظة وهذيانات الأحلام في ذات الوقت؟ إنها إذن حساسية تواجه الوقائعية المفرطة، وتقنيات تناول الزمن التقليدية مثل الإنتقال من الماضي إلى المستقبل أو استحضار الماضي من خلال الإسترجاع، وهي الأساليب التي يرى فيها إدوار الخراط نوعاً من السطحية والإستسهال. هذه الحساسية وهذا المحتوى الفني الذي كان يحتويه إدوار الخراط جعله بعيداً عن الإنتماء لأي من مراحل الكتابة المنسوبة إلى أي جيل كتاب ظهر خلال أي فترة محددة من الزمن.

في عمله الأكثر شهرة: رامة والتنين. تظهر هذه الرؤية الفنية واضحة من خلال شخصية ميخائيل الذي لا يخضع لسلطة الزمن والوقائع، الزمن تنين اكتسب رعبه وضخامته مع مرور الوقت، قبل ذلك، كان لا شيء. بمجرد أن يصحو ميخائيل من نومه في بداية الرواية حتى يقوم بالتسرب إلى هذا العالم واستشعاره من خلال أحلامه، و منذ البداية،لا يصف لنا العالم الخارجي الحالي إلا مفعماً بأحاسيسه فقط، يستقي وعيه من عوالم بعيدة، حمل منها أحاسيس قديمة، ترسبت فيه حتى صار كائناً في الماضي والحاضر معاً!. في المقابل لم يجعله هذا يتعامل مع رامة حبيبته، التي تمثل التجدد والتنوع الإنساني في تطورية طبيعية تعطي لمرور الزمن معناه، لم يجعله هذا ينخرط معها في تجربة واقعية تنتمي إلى اللحظة التي يتواجدان فيها معاً الآن. كانا معا في الماضي، كانا في المستقبل! كل الذي يحصل الآن هو جمع مصطلحين زمنيين متناقضين، بسبب إحساس أزلي لا يذهب ولا يتأثر، وهو أن ميخائيل يحب رامة. الحب هو المادة التي تحتوي ميخائيل ورامة إذن، وليس الزمن! بهذا تتمثل الحساسية بأقوى صورها. لم يتغير الإحساس منذ الأزل.

في مشهد من رامة والتنين كتب: (رامة، هل تردين؟. أحبك. صحا من النوم، حوائط غرفة نومه تصحو معه، مهددة، وتميل عليه... هل الحب هو النداء الذي لا رد عليه أبداً؟. ولكنه لا ينقطع. يبدو قديماً، لا بدء له ولا نهاية. في كل ليلة يموت ميتة صغيرة ويبعث في الصبح ميتاً، وطبعاً، ليس هذا بالأمر المسلي) .يرى إدوار الخراط أن الحداثة هي اللازمن. وأنها عدم الحساسية تجاه الزمن بطريقة متراتبة، فقيمة النص تتمثل بتركه أثراً لا يزول وذلك بتقديمه لإحساس عميق وجميل يمكن التفاعل معه دائماً ورغم مرور الزمن بغض النظر عن اللحظة التي كتب فيها هذا النص. يقول إدوار بأن هذا لا يتعارض مع الحاجة لكسر الأطر الشكلية التي وضعت فيها نصوص ما كالشعر العربي القديم مثلاً، يتوجب تحطيم الشكل وسلبُ المحتوى الشعري والجمالي. يحيلني هذا إلى رؤيتي عن الشعر تحديداً، والتي تتمثل باعتقادي أن الشعر قديم قِدم هذا العالم، وأنه كان كامناً في مكان ما منذ البدء، منتظراً الإنسان أن ينصرف قليلاً عن صراعه من أجل البقاء والعيش في بدايات الأرض ليجد اللغة ويتمكن من خلالها من الكشف عن وجود الإحساس وبالتالي: الشعر.

في استخدامه للأساطير والتعامل معها كمادة لم تزل حية، وتضمينها في الحياة اليومية، يظهر رفض إدوار الخراط للوقائعية التي تمثلت بنجيب محفوظ ومجموعة من كتاب آخرين في نهاية حقبة الستينيات. لم يكن هذا الرفض يهدف إلى الإقصاء أبداً، إنما كان يشير إلى اختلاف تتشكل قيمته في أن إدوار يرى أن عوالم الإنسان الداخلية وزمنها الخاص الذي يقاس من خلال أحاسيس الإنسان الذاتية هي الموضوعة الرئيسية للسرد، وليست الأحداث المتراتبة واقعياً بوصفها قشرة خارجية، إن الاحداث تبدو واضحة من حيث بدايتها ونهايتها، على الأقل للسرد وللقارئ ولمن يراها في الواقع، أما الأثر الذي تتركه في الذات فهو أكثر عمقاً، أكثر إبهاماً وضبابية، إنها تخلف مع التراكم بعداً زمنياً خاصاً، ومشاعر متناقضة كانت في وقت ما شعوراً واحداً. كتب إدوار في مشهد من روايته رقرقة الاحلام الملحية: ( الشقاء هو ميزة هذا العصر، نعم، لأننا في نهاية جيل.. لأننا نحن آلام المخاض الجديد، دعنا نأمل على الأقل أن الميلاد سيكون جديراً بهذه الآلام.. هذا الألم الإجتماعي، نشقي أنفسنا بهذا النظام الهائل، نظام الآلات المندفعة، نظام الإستغلال النهم. هذه الرذيلة الراقدة في أعماق الدماء.. في الصدق والجمال، كلمات قديمة قديمة، لكنها تتجدد دوماً.).

كتب إدوار الخراط أعماله الروائية والقصصية والنقدية دون تأطير، طارحاً أسئلة الفن كما تطرح أسئلة الوجود نفسها، لا إجابات ثابتة ولا يقينيات، انطلق من جمع المتناقضات، من خلط الأساطير الفرعونية بلحظة حديثة معاشة، من حب قديم ينبض في قلوب جديدة، رأى أن هذه المتناقضات كلها قد تسفر عند صهرها عن مزيج متناسب. انطلق إدوار من الأحلام، والأحلام ليست مثالية، لكنها أعطته الفرصة ليقوم بعملية تجديد على مستوى السرد، لم تكن أعماله سائغة للمتلقي المستسهل يوماً، ولطالما كانت جديرة بالتعمق والقراءة في كل يوم، بما تحمله من تجديد وأمل وجمالية. يمثل إدوار الرو ح الشجاعة في مواجهة الفناء من خلال الكتابة، وإعطاء الذات الإنسانية فرصتها في مواجهة البدايات والنهايات المحتمة زمنياً.

كتب إدوار الخراط عدة روايات وأعمال قصصية ونقدية منها: الحيطان العالية، رامة والتنين، الزمن الآخر، وأعمال أخرى قاربت الخمسين عملاً، توفي في الأول من ديسمبر لهذا العام . وكما كان يحب أن يقول: جميعنا نستمر أبداً في الحياة، لكن في اللازمن.

عن موقع جريدة الدستور الأردنية


يمنع النقل أو الاقتباس من أخبار الدستور الخاصة الابموافقة مسبقة من الصحيفة
اما فيما يتعلق بالمقالات فلا مانع من اعادة النشر شريطة الإشارة الى المصدر (جريدة الدستور)


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)