ذكرى وفاة بيرم التونسي.. هرم الزجل وموليير الشرق وأحد أشهر شعراء العامية المصرية، ومثالًا في الوطنية والكلمة الملتزمة بالنقد والإصلاح

كان بيرم التونسي (1893 ـ 1961) شاعرًا مصريًا من أصول تونسية، وأحد أشهر شعراء العامية المصرية، ومثالًا في الوطنية والكلمة الملتزمة بالنقد والإصلاح. بدأ حياته شاعرًا بالفصحى، ونجح في أن يكون مميزًا بنقده الاجتماعي والسياسي القاسي، في زمن كانت مصر فيه ترزح تحت سطوتين: سطوة الحكومة (الملكية الإقطاعية الفاسدة)، وسطوة الاحتلال البريطاني. ولكنه سرعان ما أدرك أن المجتمع المصري يرزح، أيضًا، تحت وطأة الأمية التي تهيمن على غالبية الشعب المصري، التي لن يصلها شعره. فقرر الاتجاه نحو كتابة الزجل، فيسّر له ذلك الانتشار بين الناس. عانى آلام المنفى، وشظف العيش، وقسوة الأيام، ولم يرزح.

قال عنه طه حسين: “أخشى على الفصحى من بيرم”. وقال عنه أحمد شوقي: “بيرم التونسي عبقرية فوق مستوى التصوّر”.

هو محمود محمد مصطفى بيرم الحريري، وشهرته بيرم التونسي. ولد في الإسكندرية في حيّ السيالة. درس في الكتّاب، وكانت عقدته الحساب، وصار عرضة للعقاب في الصف، وتعطّلت علاقته بالتعليم. فاضطرّ والده إلى إخراجه من الكتّاب، ودفعه إلى العمل في دكان الحرير الذي يملكه. كتب بيرم في مذكراته أنه لم يخرج من الكتّاب إلا بمعرفة القراءة والكتابة. حاول والده معاودة تعليمه، فأرسله إلى مسجد المرسي أبو العباس، حيث المعهد الديني، وأقبل بيرم على نهل العلم، ولكنه لم يكمل دراسته في المعهد بسبب وفاة والده. وبعد سنين قليلة، توفيت والدته. وجعل كل ذلك منه طفلًا حزينًا ومراهقًا متقلّبًا. واضطر للعمل كصبي في محل بقال حتى طرد منه. وفي نشأته، تعلق بالقصص الشعبية والأساطير، مثل ألف ليلة وليلة، وسيرة الهلالي، وسير عنترة، وجذبته فيها أبيات الشعر. فأقبل على شراء دواوين الشعر، وقرأ ابن الرومي، وتشرّب منه روح الهجاء. كما قرأ أزجال محمد توفيق، التي تركت أثرها عليه لجهة روح النقد اللاذع الساخر. وصدف أن سكن في منزلهم أستاذ تركي اسمه محمد طاهر، وقد لاحظ اهتمام بيرم بالشعر، فأهداه كتاب العروض، وكان تأثيره عليه هائلًا، إذ راح يحاول كتابة الزجل والشعر. قرأ بيرم، أيضًا، كتاب الصوفي لمحي الدين ابن عربي، وحلّ ألغازه، وصار يبحث عن كتب الصوفية، للمقريزي، والغزالي، والميداني، ويتعمّق فيها. قرأ، أيضًا، الأدب الشعبي لعبدالله النديم، واستهوته أزجال الشيخ نجار، والشيخ القوصي. تزوّج وهو في السابعة عشرة، وتوفيت زوجته بعد ست سنوات تاركةً له طفلين، فتزوج ثانية. كان بيرم يملك بيتًا صغيرًا، وفوجئ ذات يوم بالمجلس البلدي في الإسكندرية يلقي الحجز على بيته، ويطالبه بعوائد ورسوم لا يعرف عنها شيئًا. اغتاظ بيرم، وكتب قصيدة ضد المجلس البلدي، وجعله مسخرة أمام الناس. وقال فيها: “يا بائع الفجل بالمليم واحدة/ كم للعيال وكم للمجلس البلدي/ كأن أمي في تربتها أوصت/ فقالت أخوك المجلس البلدي/ أخشى الزواج فإن يوم الزفاف أتى/ يبغي عروسي صديقي المجلس البلدي/ أو ربما وهب الرحمن لي ولدًا/ في بطنها يدعيه المجلس البلدي/”.

ذاعت القصيدة، واشتهرت، ونشرت في الصفحة الأولى من جريدة “الأهالي” التي طبعت 4 آلاف نسخة إضافية. وطالب أعضاء المجلس البلدي ترجمتها إلى اللغات الأجنبية ليفهموها، وجلّهم من الأجانب. ويعلق بيرم: “لم أكتفِ بنشرها في الصحيفة، بل أصدرتها في كتيّب بقيمة خمسة مليمات للنسخة، فراج وطبعت منه مئة ألف نسخة، وهكذا وجّهني القدر إلى مهنة الأدب وسيلة للرزق، ثم دأبت على إصدار كتيّبات صغيرة فيها مختلف الانتقادات الاجتماعية”. بتأثير من هذه القصيدة، اتجه إلى الأدب والشعر، وترك التجارة، مركّزًا على الزجل، ليقرب أفكاره من المصريين. وامتلأت أزجاله الأولى بالدعابة والنقد الهادف للإصلاح، معتمدًا في لقطاته الزجلية على السرد القصصي، مصوّرًا مشكلات الزواج والطلاق والعادات التقليدية الساذجة. باكرًا، تعرف بيرم التونسي على سيد درويش، وانعقدت بينهما صداقة، وجمعتهما السهرات الفنية في الإسكندرية، وكتب له عدة أغان، وجمعتهما الأعمال المسرحية والأوبريتات والأعمال الغنائية التي قام درويش بتلحينها وغنائها...

رابط : مقال سليمان بختي على موقع ضفة ثالثة

أخبار أخرى

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)