الأربعاء، ١٩ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٤
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
«حين تركنا الجسر» لمنيف : هزيمة فرد وهزيمة جيل
مع صدور روايته الاولى «الاشجار واغتيال مرزوق» جعل الكاتب السعودي عبدالرحمن منيف لنفسه مكاناً لا بأس به في الرواية العربية المعاصرة. فروايته الأولى تلك كانت مفاجأة حقيقية عرفت كيف تثير الإجماع من حولها بفضل تميّزها وبنيانها الذي ادخل جديداً – الى حد ما - على الرواية العربية. غير ان ذلك المكان الذي تحقق لمنيف بفضل «الاشجار...» لم تعززه روايتاه التاليتان «قصة حب مجوسية» و «شرقي المتوسط» اللتان صدرتا خلال الأعوام التالية لصدور روايته الأولى، فاعتبرت أولاهما أقل شأناً من «الأشجار...»، فيما نُظر الى الثانية باعتبارها عملاً تغلب عليه السياسة والآيديولوجيا بل تلتهمانها، رغم تفوقها المدهش في هذين البعدين.
من هنا كان من الضروري في ذلك الحين - أي اواخر سنوات السبعين -، ان تصدر رواية منيف الرابعة «حين تركنا الجسر» لتطرح من جديد مشكلة التعامل مع هذا الكاتب، ومشكلة تقييمه انطلاقاً من مجمل اعماله وتطرح في الوقت نفسه سؤالاً مشروعاً يقول: هل يمكن ان يكون الشخص الذي كتب «الاشجار...» هو نفسه مؤلف الروايات الثلاث التالية، رغم ان الرواية التي نحن في صددها نالت اعجاباً ونجاحاً فاقا ما نالته سابقتاها؟. فالحال ان «حين تركنا الجسر» اتت متميّزة عن تينك السابقتين، محاولة في شكل أو آخر، في بنيانها الفني على الاقل، الاقتراب من عالم «الاشجار واغتيال مرزوق».
«حين تركنا الجسر» أتت رواية عن الخيبة والفشل تماماً مثلما هو الامر مع الرواية الاولى، غير ان التعامل مع هذين البعدين يتخذ هذه المرة لدى «بطل» الرواية طابعاً عدوانياً ممتزجاً بالحزن والمرارة وشيء من الانتظار. «البطل» هنا اسمه زكي النداوي، انسان سيتبين لنا شيئاً فشيئاً انه ينتمي الى الفئات الكادحة، وان صيد الطيور الذي يمارسه في صحبة كلبه «وردان»، ليس هواية تأتي عن ترف، وانما هو محاولة لإنجاز الذات، لسحق الهزيمة التي كانت قد سحقته، من طريق السيطرة على «ملكة البط».
فعن طريق قتل هذه الملكة واذلالها، بمشاركة وردان، كان زكي النداوي يأمل في تخطي هزيمته. والحدث الاول للرواية يدور حول انتظار الملكة في بقعة الصيد الريفية، لقتلها. وهذا الحدث يجري على المستوى الاول، حيث يروي لنا زكي النداوي انتظاره الطويل – الذي يحمل شيئاً من الأمل -، في الوقت الذي يستعيد فيه على المستوى الثاني، للرواية، ذكريات «الجسر» الذي بناه والرفاق المقاتلين، ثم تخلوا عنه من دون ان يعبروه (لاستعادة الارض المغتصبة؟) او ينسفوه (منعاً للعدو من استعماله).
على هذين المستويين: مستوى الحاضر وانتظار الملكة لقتلها، ومستوى الماضي واستعادته، تتمحور شخصية زكي النداوي الذي يبدو لنا محبطاً ويائساً منذ السطور الاولى للرواية. وشيئاً فشيئاً سنكتشف سبب الإحباط واليأس، كما سنشهد كيفية تعامل زكي النداوي معهما من طريق اسقاطهما على كلبه وردان. والكلب، رغم قسوة زكي، مطيع متفهم متعاون... يشارك معلمه انتظاره وقلقه وأمله ويأسه من دون أن ينبس ببنت شفة او يتمرد (وهو حتى حين يتمرد في الفصل الاخير من الرواية، يكون تمرده سلبياً لا عدوانية فيه تجاه معلمه). زكي النداوي هو الذي يربط مستويي الفعل والتذكر في الرواية. وهو يطمع كما قلنا الى تخليص نفسه من شوائب الماضي، عبر قتل الملكة. الملكة مقتولة تساوي عنده الجسر متروكاً. والمعادلة ترافقه طوال الفصول، حين يكتشف من طريق شيخ حكيم، ان أسلوبه في انتظار الملكة اسلوب خاطئ، وهنا – إذ يصحح أسلوبه، ويأتي في ليلة قمرية – يتمكن اخيراً من قتل ملكة البط، ويصل الى حدود تحقيقه لذاته – في مشهد أخاذ -. ولكن في لحظة الانتصار هذه يتخلى عنه «وردان»، بيد ان هذا التخلي نفسه لا يهمه في لحظة انتظاره المتوهجة، فيلتقط القتيلة – «الزانية» بنفسه... ليكتشف ان انتصاره هذا لا يساوي شيئاً، وان عملية الاستبدال محكومة بالفشل، وان البطة – الملكة، ليست بعد ان ماتت سوى بومة قبيحة. ويعيدنا هذا الى الحلقة الدائرية التي سبق لنا ان تعاملنا معها في «الاشجار واغتيال مرزوق»: الهزيمة، الانتظار، الامل، الخيبة. لكن التطور الذي يطرأ بين الانتظار الاول والانتظار الثاني، انه في المرة الاولى يكون فردياً ينغلق فيه زكي النداوي على ذاته، لكنه في المرة الثانية يتحول الى انتظار جماعي: «وقبل ان تغيب شمس اليوم الاول كنت قد ضعت في زحام البشر، وبدأت اكتشف الحزن في الوجوه، وتأكدت ان جميع الرجال يعرفون شيئاً كثيراً عن الجسر، وانهم ينتظرون... ينتظرون ليفعلوا شيئاً».
ان هذه الكلمات الاخيرة التي تنتهي اليها رواية «حين تركنا الجسر» تمثل في الواقع، التطور الاكبر الذي اصاب عمل عبدالرحمن منيف منذ روايته الأولى حتى صدورها. ولكن ما يفقد نقطة الضوء هذه قيمتها هو انها تأتي، أيضاً، من طريق اكتشاف فردي لشخص محبط لا يرى الا الحزن في كل الوجوه... ومن هنا السؤال: هل تكفي هذه النهاية لاقناعنا بأن «حين تركنا الجسر» ليست رواية عن الخيبة والاحباط؟ وهل تكفي بضع كلمات ختامية الى ضرب كل لحظات التأزم والانهزام التي رافقت مسيرة زكي النداوي منذ ترك الجسر لقمة سائغة للعدو، حتى تخلى عن انتصاره على الملكة، خائباً؟ اسئلة لا يمكن التنبؤ بالكيفية التي كان من شأن الكاتب ان يجيب عليها في أعمال تالية له. لكن بناءه لشخصية زكي النداوي، هذا البناء المتماسك فنياً الى حد كبير، كان يدفعنا الى الاعتقاد بأن النداوي هذا لن يكون هو الحل، كما ان الحل لن يأتي من الانتظار، فالحل يقترحه الحوار التالي: «- والجسر.. ألا يعني شيئاً؟ - يمكن دائماً بناء الجسور... الصعب هو بناء الانسان. - بناء الانسان؟ - نعم بناء الانسان من نوع جديد! - تقصد انساناً لا يترك الجسر؟ - أقصد انساناً لا يترك الجسر ويعرف كيف يتصرف...». ان هذا الحوار إذ يأتي في الصفحات الأخيرة يكشف لنا عن ملامح ايجابية في الرؤية... غير ان ايجابيتها تفترض واحداً من اثنين: اما سقوط زكي النداوي (مع كل الجيل الخائب المحبط الذي يمثله) وإما إقدامه على عمل شيء يختلف عن مجرد محاولة التخطي الداخلي للهزيمة. ومن هنا نجد ان «حين تركنا الجسر» بتقنيتها الحديثة التي تجعلها أشبه «بمونولوغ» طويل (أكثر من اللازم على اي حال) تنتمي الى تلك الابداعات التي تعكس ازمة جيل، اكثر مما تعكس ازمة طبقة. وهنا ليس مصادفة ان تحفل الرواية بتجريد زماني ومكاني، لا تناقضه سوى اشارات قليلة جداً حول انتماء زكي النداوي.
من الناحية الفنية لا تخفي الرواية، على رغم شيء من الوهن في تسلسل الاحداث، تماسكاً فذاً في رسم شخصية زكي النداوي، وعلاقته مع كلبه... فالنداوي المحبط على الدوام واليائس من وحدته، لا يكف عن اسقاط كل احباطه على الكلب، في حوار متميز – على رغم امتلائه، احياناً، بثرثرة ما -. وفي مقابل الرسم التصاعدي لشخصية زكي النداوي وكشفه امامنا تدريجياً، نلاحظ ضعفاً، والكثير من المبالغة الغرائبية، في رسم شخصية «الشيخ» الذي يدل النداوي على افضل الاساليب لصيد الملكة.
«حين تركنا الجسر»، على رغم بعض السلبيات التي كان يمكن المرء ان يجدها فيها، رواية جيدة، رواية تتحدث في لغة متماسكة، وصور قوية، وبناء فني متصاعد يسير على مستويين تاريخيين متوازيين: الماضي والحاضر – كما يراهما زكي النداوي -... والقارئ، اذا كان قد أخذ عليها عدم قدرتها على تخطي هزيمة «الجيل» الذي تتحدث عنه، فإنه أدرك ان عبدالرحمن منيف، حين يتحدث عن جيل «زكي النداوي» وهزيمته فإنه يعرف جيداً ما يقوله، ولكنه اذا كان لا يقول ما لا يعرفه، فما هذا الا لأنه واحد من ابناء الجيل الذي ينتمي اليه زكي النداوي... وهو اذا كان يتلو في هذه الرواية شيئاً من فعل الندامة، فإن فضيلته الكبرى انه بات متأكداً الآن، كما يقول على لسان «بطله»: لا تفيد الجسور شيئاً اذا لم يعبر عنها الناس. والقارئ العربي كان، في ذلك الحين ومن زمان، في انتظار من يتفوه – اخيراً – بهذه البديهية.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.
تحميل رواية “حين تركنا الجسر” على موقع الدكتور محمد سعيد صالح ربيع الغامدي