تواشيح الورد، منى بشلم (الجزائر)، رواية

, بقلم محمد بكري


جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط
الأربعاء 28 ذو الحجة 1435 هـ - 22 أكتوبر 2014 مـ - العدد 13113
الصفحة : فضاءات
الرباط : د. مصطفى شميعة، كاتب مغربي


«تواشيح الورد».. رواية «تنبش» في المسكوت عنه


القارئ لرواية «تواشيح الورد» (دار الألمعية - الجزائر - 2012)، وهي الأولى للكاتبة الجزائرية منى بشلم، يدرك بعد الانتهاء من قراءته أنه أمام نص/ فضاء روائي مكتظ بالحركة والرموز والدلالات، ويدرك أيضا أنه أمام مبدعة لها قدراتها الخاصة وتمتلك أدوات التحكم في بناء عالم روائي زاخر بالجمال والدهشة.

يستقصي نص منى بشلم الجزئي ويستنطق الأحداث ويرسم بتلويناته اللغوية العميقة لوحات عن صدمة العشق والخيانة وأثرهما في نفسية الإنسان. ذلك أن تواشيح الورد تشي بهذا التدقيق الصارم في وصف المعاناة التي تتكبدها القلوب المكلومة جراء الهزات العنيفة.

تمسك الكاتبة بخيوط سيمفونية النص وإيقاعه الداخلي، والمقصود هنا بالإيقاع الداخلي حركة النص التي تتأسس عليها جدليته اللامتناهية، فالحركة تتخذ مسارات دلالية متعددة على الرغم من كون بطلة المشهد «شهد» تحضر في مدار واحد، هو حب يحيى، وتدور في فلك خيانته وتجاهله لها.. لكن قراءة متأنية وأكثر عمقا تكشف عن رؤية روائية طافحة بالرموز والألغاز.. فالكاتبة جعلت النص ينصهر كلية في بؤرة واحدة هي بؤرة الحب، وما جلبه للبطلة من معاناة التجاهل، والتجاوز، والغدر، والخيانة.. لكنها ومن أجل إعطاء عملها بعده الإبداعي الحقيقي نسجت داخل هذه البؤرة علاقات متداخلة تبدو للقارئ العادي أنها عادية ومعتادة، لكنها بالنسبة للقارئ الخبير/ الناقد، علاقات متناقضة مترامية الأطراف، متباينة البدايات والنهايات.
تهيمن على النص تيمة الموت من بدايته إلى نهايته، وقد يقول قائل إن الموت لا يحضر كحدث مركزي مهيمن، إذ لا أحد يطالعنا بموته الفجائي، سواء الشخصية الرئيسة أو الأخرى الثانوية (باستثناء إيناس التي تموت في سياق غامض وخاطف)، لكننا نقول إن الموت هنا هو موت رمزي يكتسي تجليات عدة مختلفة الأبعاد والدلالات، ويخفي في ثناياه موقف الكاتبة من الحياة بصفة عامة.. ورؤيتها لعملها الروائي بصفة خاصة.

فالاحتضار هو موتٌ وشيكٌ، وإعلان ضمني عن انتهاء مجموعة من الثوابت التي تنهض عليها الحياة الإنسانية، لهذا اتخذ الموتُ هنا طابع الغياب الأبدي للقيم والعادات الجميلة التي كانت تصنع حاضرها بإخلاص وعفة. فقد انتهى زمن الوفاء والأمن وباتت شهد تتيقن من كونها تعيش بلا أمن عاطفي وأمان نفسي.. بل أصبحت عرضة للافتراس الآدمي من خلال طمع الكل من النيل من جسدها، كما أنها باتت عرضة للموت البطيء من خلال تمزق ارتباطها بجذورها الأسرية (موت الأب والأم وتنكر الأخ لحقها من الميراث) لهذا تحتضر البطلة رمزيا ويحتضر معها التعاضد المفضي إلى الشعور بالأمان، وعندما تستشعر شهد مرارة ذلك تصرح مناجية الموت في هيئة الأم «وأنا أين أمي أنا.. لمَ رحلت دوني.. بلا دفة ولا شراع..» ص54، هكذا تلجأ البطلة إلى الأم/ الموت من أجل الاحتماء من الموت المتعاود والمتكرر في حياتها اليومية، لكن سرعان ما يصبح الموت حالة مُعاشة تتوالد أمامها من خلال مجموعة من التحديات التي لا تدع مجالا للشك من أن الموت النهائي قادم لا محالة وهذا في حضور عدد من المؤشرات ومجموعة من التحديات.

فمن خلال هذه التحديات التي تؤكد حتمية الموت الجارف: الاعتقاد بعُقم الزوج وعدم قدرته على خلق الحياة في بطن زوجته، والأدهى من ذلك، فإن الحياة المنتظرة والمرجوة التي تهفو إليها شهد، سرعان ما تَطالُها أيادي الغدر التي تحجب عنها بهجة الولادة والحياة.. (تزوير التحاليل وإخفاء حقيقتها) لهذا السبب يتحول يحيى إلى رفقة ميتة، تعايشه البطلة بسلبياته وكبريائه، لكن أيضا بوفاء نادر لعلاقة تنبني على الإخلاص المطلق له.

إن شهد تريد أن تحيى مع رفيق دربها على الرغم من كونه جسدا غير فاعل.. (لا يلد) وبالتالي فهي تجابه حياة ملؤها الاحتضار، وفي أفقها القريب الاشتمال بالموت الشمولي لا محالة.

إن الاحتضار في تواشيح الورد هو احتضار للحب والرغبة، إنه القدرة على امتلاك النفس عندما تكون الرغبة فوارةً ومشتعلةً أو متقدةً ومتوهجة في سيرورة عاطفية وشعورية لا متناهية.

وإذا كانت إشكالية الجنس في الإبداع الروائي العربي ما زالت تفرض نفسها في جل خطابات الحداثة والتحديث إلى الآن، فإن الكاتبة وبتعابير جميلة ولوحات فنية معبرة استطاعت أن تمرر هذا الموقف الإشكالي من خلال تقنية عالية استطاعت أن ترصد فيها صراعًا بين الرغبة والامتناع..

إن مجرد حضور الاحتضار كطرفٍ في الجدلية يكشف عن وجود طرف مقابلٍ يتبع إيقاعه بانتظام. إنه الانتظار.
كل شيء في حالة انتظار قصوى، في هذا الرواية.. الانتظار هو التيمة التي تجثم على صدر النص من بدايته إلى نهايته.
غير أن انتظار شهد (بطلة الرواية) وبقدر ما يحفز القارئ على التعاطف مع ما تكابده من معاناة وقسوة، بقدر ما يعكس واقع الحال الذي يعيشه الإنسان العربي في ممارسته لقيمه، وفي ترجمته لعاطفته، وإحساسه. وكأننا أمام عدمية إنسانية اجتماعية، واجتفاف قيمي وموت نهائي لما يمكن أن يحف العلاقات الإنسانية من نبل وخير وحب.

نستطيع أن نقول إن الانتظار هو هاجس تواشيح الورد، أو هو الحلقة المفقودة التي تبحث عنها الروائية في تواشيحها، والتي تعبر بها عن لا جدوى التعلق بخيط الأمل الذي يمكن أن يوصل الإنسان إلى باحة الطمأنينة، لكن وعلى الرغم من «احتراق السراب» الأمل، الذي يمكن أن يترجم هذا الوميض الذي يومئ إلى انبلاج أو عودة سيادة القيم والأخلاق. فإن الرؤية الروائية التي تعبر عنها الكاتبة تتأسس على فعل الانتظار والإصرار عليه، وكأننا بالروائية تصر على انتظار اليقظة الشاملة التي ستطال المجتمع، والتي ستكون لا محالة بداية حلم التغيير في الشعور والأحلام.

إن «تواشيح الورد» هي تواشيح للحب والعشق والموت والانتظار. رواية بإمكانها أن تحرك الدفين المترسب في لا وعينا، وتخلخل الراكد في قرار دواتنا من خلال النبش في المسكوت عنه، وتعرية مواضيع وتيمات لم تجرؤ أقلام أخرى على فضحها بحكم حساسيتها المفرطة في مجتمع ما زال لا يعترف بقيم النبل والصفاء.

عن موقع جريدة الشرق الأوسط


جريدة الشرق الأوسط، صحيفة عربية دولية رائدة. ورقية وإلكترونية، ويتنوع محتوى الصحيفة، حيث يغطي الأخبار السياسية الإقليمية، والقضايا الاجتماعية، والأخبار الاقتصادية، والتجارية، إضافة إلى الأخبار الرياضية والترفيهية إضافة إلى الملاحق المتخصصة العديدة. أسسها الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، وصدر العدد الأول منها في 4 يوليو 1978م.
تصدر جريدة الشرق الأوسط في لندن باللغة العربية، عن الشركة السعودية البريطانية للأبحاث والتسويق، وهي صحيفة يومية شاملة، ذات طابع إخباري عام، موجه إلى القراء العرب في كل مكان.
لقراءة المزيد

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)