قراءات - Comptes rendus de lecture

تحت العريشة، هيام يارد (لبنان)، رواية Sous la tonnelle, Hyam Yared (Liban), Roman

, بقلم محمد بكري



"تحت العريشة" رواية لهيام يارد : ذاكرة لغياب رصين


جريدة النهار اللبنانية

الأحد 22 كانون الثاني/يناير 2012
النهار - روجيه عوطة


توّجه الروائية والشاعرة هيام يارد رسالة روائية إلى جدتها، التي توفيت عشية حرب تموز 2006، والتي تحضر في كل صفحة من صفحات السرد، في روايتها “تحت العريشة”، الصادرة بالفرنسية عام 2009، ووصلتنا أخيراً في نسختها المعربة عن “دار الآداب”، ترجمة ماري طوق.

كلما تقدمت بنا الرواية نحو النهاية، ازداد الموت بياضاً في بيروت، المدينة الجثة، المتعبة من انقضاض غربان الموت الفولاذية عليها، بعدما خطف الغياب بيتاً على خط التماس مباشرةً بين “الشرقية” و"الغربية"، في المكان الوسطي، الذي سكنته الجدة، وتشبثت به، وحافظت عليه حتى في أيام الحرب “الأهلية” الأكثر إجراماً. يومها كان بمثابة مأوى لها وللمحارب والقناص والسفاح، ولكل من جلس في حديقته وظللته أشجاره المذعورة من القذائف الساقطة في محيطها. لكن الراوية، حفيدة الغائبة، تستطيع ترويض قسوة الأيام التموزية، كما استطاعت أن تمرن ذاكرتها على احتمال فاجعة فقدان من أحبته وتعلقت به: “لكل شيء معنى، من الخسارة إلى عبث الأشياء الظاهري، وجدت في حديقتك هيكل قذيفة بقي سليماً فجعلت منه حاملة مظلات”، ساعيةً إلى التشبه بجدتها التي تغلبت على الموت دماراً وخراباً، بالقراءة والنحت والرسم، وكتابة اليوميات والرسائل التي كانت تواظب على تدوينها: “كنت تكتبين عزلتك في مفكرات صغيرة وتدوّنين فيها تفاهة الأشياء... وتقولين لي:”الكتابة هي الغرق أقل" في الطمأنينة، واللاطمأنينة، “قلّما كان يهمك أن تكون هذه الكلمة موجودة في اللغة الفرنسية أم لا. كنت تعرفين ثمنها. ثمن اللاطمأنينة. وتدفعينه مظهرة عكسها لدى كل تجربة”.

منذ طفولتها والجدة على علاقة مع الموت. فهي تتحدر من عائلة أرمنية هربت من المجازر الجماعية التي ارتكبتها السلطنة العثمانية، وماتت والدتها وهي تلدها، كما ورثت قصصاً عن المذابح والإبادة والتعذيب، وتوفي زوجها بأزمة قلبية. لكنها بقيت ممتلئة بالحياة والحب، “أن نحب هو أن تعبر، أن تحب هو أن تدوم”، وصامدة في معبر المتحف، “كان شعارك ضرورة إيجاد مخرج. الخروج من كل شيء، من الأسوأ الذي فينا. حملت حربك على ظهرك كمن يمارس الحب”. حرصت الجدة على البقاء في بيتها طوال الحرب، متحليةً بالصبر والهدوء، عازمةً على تحدي كل المصاعب. هذا ما يجلعها شبيهة بأورسولا، جدة غارثيا ماركيز، التي نجت من “مئة عام من العزلة”، بسبب تمتعها بشخصية رصينة، ساعدتها على متابعة حياتها بعيداً من كل نكبات أسرة بويندا وقرية ماكوندو الوهمية كبيروت. جدة يارد هي ذاكرة المدينة المحصنة بأكياس الرمل، على رغم الثقوب التي خلفتها الحرب فيها: “حصنت جميع الفتحات بأكياس الرمل. لم يتوقف القناصون في المبنى المواجه عن التلصص عليّ”، وفي الوقت نفسه، الذاكرة قذيفة يُعرف هدفها بحسب صفيرها. في حين كانت الطائرات الإسرائيلية تضرب المدينة، كانت الحفيدة تروي سيرة جدتها، فتمطر السماء قذائف وذكريات: “إذا كانت القذيفة منطلقة، كنا نطمئن لأن الموت ينطلق إلى مكان آخر. وإذا كانت متجهة إلينا، كنا نسدّ آذاننا لكي لا نسمع صوت الإنفجار”. لا تعود يارد إلى الذاكرة، بل تنطلق الذكريات نحوها، تكتبها بلغة تستمد سحرها من الغياب الطازج، من “الموت قليلاً” في جو سردي، لا يبعث على الملل، لأن ذاكرة الراوية تفكك الأحداث وتربطها، كل الذكريات فيها مترابطة من دون انقطاع، الأمر الذي ظهر في سرد يحمل الكثير من الإنتقادات، توجهها الكاتبة إلى البورجوازيين، على لسان جاك بريل: “كلما تقدموا في السن، ازدادوا غباء”، “كنت أحمل بورجوازيتي كأنها عبء ثقيل”، وإلى المجتمع الذكوري، “كل مرة أدخل فيها صالونك تلتقي نظراتي بنظرات أبي المتمركز هناك كشرطي السير”، ووضع المرأة فيه، حيث تضطر الراوية إلى الزواج من رجل لا ترغب به، حفاظا ً على طبقتها الإجتماعية وخوفاً من الموت عذراء، “توّجب عليّ أن أفعل كل شيء بسرعة مخافة الموت. أن أتزوّج لكي لا أموت عذراء قبل نهاية العالم. كان أبي حاسماً معي. مضاجعة الرجال قبل الزواج مسألة غير قابلة للنقاش”، ما يؤدي إلى ابتعادها عن الزوج، الذي كان بدوره ضحية والده أيضاً، وإلى مقايضة فشلها الحياتي باللذة المعلبة والجاهزة: “ما دام الموت موتاً، كان عليَّ أن أستمتع من دون أن أتخلى عن شيء، منفرجة الساقين... كل هذا الموت لأجل لا شيء”.

في منتصف الذاكرة، وبينما كانت الأسرة تتقبل التعازي بوفاة الجدة، يظهر أوجين، الشاب المرسيليّ، ويفتح ظهوره باباً على حكايا جديدة، تكون الجدة فيها “عاشقة عذرية”، ويدور حول قصة عشقها الكثير من التساؤلات، المكانية خصوصاً. فمن الذهاب في رحلة بحرية إلى إيطاليا تتخللها محطات في حيفا والإسكندرية وطرابلس وتونس، حيث التقت للمرة الأولى بيوسف. د، والد أوجين، إلى باريس، في ستيناتها الثورية، التي عاصرها يوسف مع صديقته لولودجا، التي كانت تصوغ شعارات أيار 1968 في مبنى مدرسة الفنون الجميلة. كانت أخبار ثورة باريس تصل إلى الجدة من خلال الجرائد الفرنسية وتلفازها القديم، ولم تنقطع عن كتابة رسائلها إلى يوسف، قبل أن يرحل إلى الأرجنتين من دون أن يترك عنوانه الجديد. تتعدد الأمكنة في القسم السردي الثاني من الرواية، تحبك يارد القصص الطويلة، لتدور حول تمثال قديم، هو مفتاح الذاكرة الباريسية، وهذا ما يدفع أوجين إلى السفر نحو بيروت كي يلتقي عشيقة والده، فإذ به يلتقي حفيدتها، ويجلسان في “المكان الوسط”، تحت تعريشة الياسمين، حيث لا يتوقف السرد إلا في مقهى صغير، في وسط المدينة، تدخله الراوية، بحثاً عن غائب لا تجده إلا في مكان آخر، قبل أن يختفي ويصطحبها معه."أيًّا منا هو الغائب: أنا أم أنتِ"، بحسب إيلوار. أوجين رحل إلى ماضيه، والحفيدة رأت “بعضاً من حبٍّ في فقدان الأشياء”.

عن جريدة النهار اللبنانية


النهار هي صحيفة لبنانية سياسية مستقلّة رائدة. وقد صدر العدد الأوّل في 4 أغسطس/آب 1933 في أربع صفحات. بدأت الصحيفة التي كان عدد موظّفيها خمسة بينهم المؤسّس جبران تويني، مع رأسمال من 50 قطعة ذهبية جُمِعَت من الأصدقاء، وكانت تُوزِّع 500 نسخة فقط. ولاحقاً تولّى ابن جبران، غسان تويني، وحفيده الذي يحمل الاسم نفسه، جبران تويني، رئاسة التحرير والنشر. حالياً تشغل نايلة تويني منصب رئيسة التحرير ورئيسة مجلس الإدارة.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)