جريدة المدن الألكترونيّة
الثلاثاء 23-01-2018
المدن - ثقافة
وجدي الكومي
بليغ حمدي.. اللعبة الروائية
أشياء كثيرة عطلتني عن كتابة هذا المقال عن رواية "بليغ"(*) للروائي المصري طلال فيصل. وهذا هو حال الأعمال الروائية المدهشة. فلدينا هنا عمل أدبي ينتمي لفن السيرة الروائية، المولع بها الروائي طلال، ولدينا قصة حب مبهرة، تحبس أنفاس قارئها، ولدينا أيضا لعبة روائية شيقة، جديرة أن يلعبها روائي مقتدر من أدواته.
أما فن السيرة الروائية، فاشتهر طلال فيصل بحبه لهذا اللون الأدبي، منذ روايته الثانية “سرور” عن الشاعر المصري المعروف نجيب سرور، وما حوته حياته من جدل، ومفارقات، ما بين حياة محطمة، وتيه وضياع، وسفر وغربة، ومطاردة من نظام جمال عبد الناصر. واللافت هنا أن طلال يعود في روايته الثالثة إلى سيرة فنان مصري آخر، اشتهرت حياته بجدلها، وصخبها، وتورطه في جرم لم يقترفه، وسفره قبل الحكم عليه بالسجن بأسبوع، وغربته. وكأن السيرة المولع بها طلال فيصل، هي سيرة الفنانين المصريين المطرودين من الوطن، المبدعين الكبار، الذين ملأوا الدنيا بفنهم وإبداعهم، واضطروا لهجرة الوطن مثله - فطلال طبيب نفسي مستقر في ألمانيا منذ سنوات. بل إن الكاتب يعمل الآن على مشروع سيرة أخرى مثيرة للجدل، وهي سيد قطب، رجل جماعة الإخوان، الذي غادر عالم الأدب، ليقتحم عالم السياسة، ويدفع أثماناً باهظة لمواقفه، وخلافه مع ضباط يوليو، وهو أيضا ذاق التغريبة.
ويتتبع طلال منذ فترة، روايات السيرة العالمية، فقرأ أعمالاً عن بوب ديلان، وكتب مقالاً في صحيفة “أخبار الأدب” عن رواية “تاريخ مختصر لمحاولات القتل السبع” للروائي مارلون جيمس، التي وضعها عن مغني الريغي بوب مارلي، رواية السيرة التي غاب عنها بطلها، أي بوب مارلي نفسه، وهي رواية واحدة أتذكرها من بين روايات عديدة مشابهة قرأها طلال، وكتب عنها فقرات في صفحته في فايسبوك، أو مقالات في صحف مصرية.
أما قصة الحب المبهرة، فهي تلك التي ربطت الموسيقار بليغ حمدي بالفنانة وردة الجزائرية. المدهش هنا، أن طلال فيصل يكتبها في متن الرواية، كأننا لم نسمع عنها من قبل، يمنحها طلال لحماً ودماً، والقارئ يتعجب: كيف توارت قصة الحب العظيمة تلك، خلف الحدث الأبرز الذي شغل المجتمع المصري، وهو سقوط مغنية عارية من شرفة منزل بليغ؟
وبين قصة حب بليغ ووردة، قصة حب طلال فيصل (بطل الرواية لا الروائي) و"مارييل" موظفة المركز الثقافي الفرنسي، وهما يتجولان في ميدان التحرير وقت اندلاع الثورة، ويستمعان سوية للحن الشهير “يا بلادي” الذي وضعه بليغ والذي يتشاجر عليه ملحن ومطرب مغموران. يقدم “طلال” الروائي، بطلي روايته “بليغ” و"طلال" مجتمعين في مشهد الثورة المغدورة. يقول طلال بطل الرواية عن بليغ: اللحن لملحن شاءت الأقدار التي لا تعرف وعياً ولا عدلاً، أن يكون مصرياً، تخيل مثلاً لو كان بليغ حمدي فرنسياً أو ألمانياً أو أي دولة من دول الشنغن، أي إضافة كان يمكن أن يضيفها للموسيقى العالمية، والوجدان، غير أن المسكين جاء للدنيا في هذا المربع البائس الجاف المدعو مصر".
يستهل طلال “الروائي” قصتي الحب المحكوم عليهما بالفشل، بهذا المشهد الدال على سبب تغريبة بطليه، طلال فيصل وبليغ. فطلال بطل الرواية، يرى الأفق الغائم لما ستؤول إليه الأمور بعد الثورة، “أنا طلال فيصل، كنت الطالب الوحيد الذي حصل على الدرجة النهائية في اللغة العربية، حفظت كتاب الله في شهرين، وفشلت في نسيانه، تخرجت واشتغلت وخرجت للدنيا بصدري العاري: كتبت في جرائد لا حصر لها، ترجمت وفتحت داراً وهمية للنشر، وقال لي الحظ أنا عبدك، وقال لي الحب تعال يا مسكين، أما مارييل فقالت لي لن تنال مني ما تريد”.
بهذه الكلمات يقدم طلال بطله طلال. ويكتب: “سافرت إلى فرنسا، ورأيت كل شيء، وعرفت كل شيء، وعلى بابها المغلق فى مونبارناس، في الحي الرابع عشر، رأيت الله، فعرفت أنه غير موجود، وذهبت إليه حافياً، قلت له إنه كالحب، وهم وخيال، وأسطورة، وكان انتقامه مني يليق بقسوته: جعل مارييل في القلب شوكة لا تندمل، وجنوناً لا شفاء منه”.
وبينما يستعد القارئ لسيرة حياة بليغ، ويحاول اكتشاف إن كان ما يقرأه سيرة فنية، أم حكاية روائية عن الملحن الكبير، يفاجأ بقصة حب ملتهبة بين طلال فيصل بطل الرواية، ومارييل موران، وهي قصة تبدأ في المركز الثقافي الفرنسي، وتنتهي في باريس، حيث عاش بليغ منفياً رغماً عنه بسبب حكم قضائي في قضية وجد نفسه فيها مداناً بالفجور. هنا لن يشعر قارئ رواية بليغ بساعات الليل تمر، بينما يتتبع خيوط القصة، التي تتشابك فيها فصول من حياة بليغ، ونشأته، وحبه للموسيقى، ومطاردته جارته اليونانية، وتعرفه على طريق الإذاعة، ونصيحة الشجاعي له بأن يبتعد عن التلحين، ولحنه الرسمى الأول لفايدة كامل، النجاح الأول للفتى الذي تحقق على يد زوجة وزير الداخلية النبوي إسماعيل، فيغار منه كمال الطويل ومحمد الموجي، وهو أصغرهم سناً، وأقلهم إنتاجاً ونفوذاً. يسأله الموجي باستعلاء: “إلى أين تطمح يا بليغ في التلحين؟ فيرد: طموحي كموهبتي بلا حدود، فيقاطعه كمال ساخراً: أكمل يا عزيزي، تريد أن تلحن للست أم كلثوم مثلاً”.
إنها غيرة المبدعين القاسية، لكن رواية طلال تمضي، مشتبكة مع قصته مع “مارييل” التي تصبح في القلب من حكاية صعود بليغ المهني، والفني. تشتبك القصتان، وتصعدان معاً، ولا يبدل القارئ موضع قدميه، ولا يتململ، فالقصة شيقة، وممتعة، وهكذا هو الفن الجميل، وهو ما يقودنا إلى ثالث شيء في هذا المقال... اللعبة الروائية.
يفضل طلال فيصل “الروائي”، استخدام اسمه، فيمنحه لبطل روايته المساعد، كما في “سرور” الصحافي الذي يتقصى سيرة حياة نجيب سرور، أو هو البطل الرئيسي كما في عمله الأول “سيرة صبي مولع بالهوانم”. أما هنا، فهو البطل، الذي يقتسم البطولة مع بليغ، وقصة حبه مع “مارييل”، إذ يعتمد طلال في كتابته لرواية السيرة، على وضع سيرة متخيلة، للشخصية الرئيسية بطلة السيرة. فيبتكر في “سرور” حواراً متخيلاً بين نجيب سرور ونجيب محفوظ، ويكتب فصلاً غير حقيقي في رواية الأخير “المرايا” عن نجيب سرور، ويبدو ظاهرياً أنه يكرر الأمر نفسه هنا. لكنه يعتمد على متن حقيقي وشخصيات حقيقية في قصة الحب التي يرويها بين بطله “طلال” وبطلته “مارييل”، وهو ما يضيف إلى بهاء هذا العمل. فالجميل هنا يتجلى مع كيفية توظيف الروائي، للمتن الواقعي، ليصبح متخيلاً. تصيبك حالة الشك طيلة القراءة: هل هذا حدث فعلاً؟ وتدفعك إلى مواصلة القراءة بشغف، وتمضي أصابعك تقلب الصفحات، لهفة للوصول إلى معرفة كيف مضت القصة بين الأشخاص الذين عرفتهم، وقد تحولوا إلى شخصيات أخرى في الورق. إنها المتعة الروائية في قمة تجليها.
(*) صدرت رواية “بليغ”، لطلال فيصل، عن دار الشروق، وهي الثالثة له بعد روايتيه “سرور” و"سيرة مولع بالهوانم".
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.