مقال صحفي

بعد القهوة، عبد الرشيد محمودي (مصر)، رواية

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


السنة السادسة والعشرون - العدد 7734 الثلاثاء 3 ايار (مايو) 2014 - 3 رجب 1435 هـ
جريدة القدس العربي
القاهرة - القدس العربي - من كمال القاضي


ملامح الأصل والصورة في رواية عبد الرشيد محمودي : ‘بعد القهوة’… سيرة ذاتية بنكهة البن البرازيلي


بين العنوان الرئيسي لرواية عبد الرشيد محمودي ‘بعد القهوة’ والعنوان الفرعي قاتلة الذئب لذات الرواية مسافة تدفع القارئ لبذل قصارى جهده في إدراك الارتباط الشرطي بين العنوانين ودلالة كل منهما فالرواية متعددة الشخصيات والمستويات والأبعاد والوقوف علي مراميها الاجتماعية والنفسية والإنسانية ليس مهمة سهلة فالرجل من واقع ثقافته وإطلاعه وخبراته الواسعة بالتنوعات البيئية والبشرية والحقب الزمنية التي ربط أحداث الرواية بها قد أكسبها طابعا ميتافيزيقيا فبات الحدث متراوحا بين الواقعية التي تحتمها تفاعلات الأبطال وتعاملاتهم وسيرهم الذاتية ويومياتهم وبين ذلك الأفق الأسطوري الغيبي الذي تتجلي ملامحه وأماراته في استدعاء الروايات والحكايات الشعبية من تراث الأزمنة القديمة التي يغلب عليها الطابع الخرافي.

طقوس غرائبية يركز عليها الكاتب الروائي الكبير عبد الرشيد محمودي فيما يرويه علي الربابة فيما يسير الحدث الروائي متدفقا في ذات الوقت غير متوقف ويتطور بين الشخصيات الرئيسية والثانوية فيتلاشي الخط الهمايوني الواقعي والأسطوري فتبدو الوقائع أنية كأنها حدثت لتوها برغم أن تاريخها الفعلي تجاوز النصف قرن ببضع سنوات وهذه مهارة تحسب للروائي الذي نجح في أن يربط بين الماضي والحاضر عبر تواصل الحكايات والأشخاص الارتكاز علي العوامل المشتركة بين فترات مختلفة وأجيال أكثر اختلافا.

تبدأ حكاية البطل مدحت من مسقط رأسه بقرية القواسمة حيث اليتم والفقر والعوز والخرافة والجهل مكونات لا تشي بغير الضياع كمصير حتمي عن أتعسة الحظ وأفقده أبويه وتركه كيانا ضعيفا تتقاذفه الأقدار وتتبادله الأيدي العطوفة تارة والقاسية تارة أخرى.

يروي الكاتب تفاصيل مريرة عن بطله المسكين بينما يجعل له مخرجا علي يد ماريكا تلك الشخصية اليونانية التي تنجو به من عتمة القرية وجهالتها إلي أفاق المدينة الرحبة فهي تنتقل به إلي بندر الإسماعيلية للترفية المؤقت في البداية كنوع من إشباع الأمومة المفتقدة التي حالت الأقدار وقم الزوج سالم دون تحقيقها بشكل طبيعي فكان اللجوء إلي أقصر الطرق لتعويضها تبني هذا الطفل وبرغم أن الإنفاق كان فقط علي زيارة مدحت للإسماعيلية لبضعة أيام إلا أن الرحلة امتدت ليصبح بقاء الطفل بشكل دائم بين ماريكا وسالم أمرا واقعا.

وهنا تبدأ مرحلة جديدة من معاناة البطل الصغير ومستوي أخر من أحداث الرواية التي تظل تتداخل فيها الخيوط الدرامية ما بين الواقعية القاسية والاستدعاء التاريخي والتراثي لملامح أساطير وحواديت تربطها مشتركات كثيرة بما يرنو إليه الكاتب وير سمة من عوالم وشخصيات تتقاطع وتتواصل مع الفكرة الرئيسية بدرجات وحتميات وضرورات يفاجئنا بها محمودي تبعا لسياقاته الروائية الواضحة حينا والملتبسة أو المركبة أحيانا.

وبين ثلاث مواقع جغرافية رئيسية هي القرية والبندر والعاصمة تتطور مسيرة البطل وتتسع دائرته المعرفية ويتمدد محيط علاقاته فنراه بوضوح ونتعرف علي خصاله الإنسانية وما يربطه بالشخصيات الأصيلة في حياته والعابرة ونتوقف عند سالم و ماريكا أصحاب الفصل في بقائه علي قيد الحياة كإنسان له حق الأكل والشرب والتعليم بل والحب والارتباط وغير ذلك من مكتسبات أوجدها القدر أو أوجدتها الصدفة وهو المكفول بالتبني والوارث بحكم مآل ثروة سالم الطبيعي إلي زوجته اليونانية ماريكا والمنتقلة إليه لزوم ما يلتزم باعتباره أقرب المقربين للسيدة الطيبة التي وضعته مكان أبنها وحلت روحها فيه فأكسبته صفاتها وثقافتها ورقيها وتمدنها حتي لغتها اليونانية منحته إياها عن طيب خاطر لم تأسف علي ذلك حتي بعد أن هرمت وباتت هي وما تملك رهن إرادته.

حالة من اليوتوبيا ينزلها عبد الرشيد محمودي إلي الأرض فتتحول من مجرد مثاليات هلامية إلي واقع حي مدرك وملموس يعيشه ‘مدحت’ بكل حواسه وينظره الأصدقاء والمعار كشهود عيان وما أكثرهم في الرواية الفراخمة بالأحداث الأشخاص من الشرق التقليدي المحافظ المعتن في المحب والعواطف والحريات إلي الغرب المنفتح في علومه وثقافاته وعلاقاته وحرياته اللامحدودة.

عن فيينا تلك العاصمة النمساوية الساحرة يحدثنا الراوي علي لسان بطله فيطلعنا علي مكنون أسرار المدينة الفاضلة بنسائها الساحرات وموسيقاها الناعمة وفنانيها النجوم في العزف هادين وبتهوفن وموتسارت وشو برد أبطال السيمفونيات العالمية الشهيرة التي هبطت من حواسهم مباشرة علي بلاط الخاصة من الوجهاء والنبلاء فصعدت ثانية إلي سموات الإبداع فعكست أصداء وهما مزيجا من عشق إضافي للحياة والوجود والإنسانية.

هكذا صنعت الموسيقي بالبطل وأخذت بلبه فطار سابحا في ملكوته الخاص يبحث عن ضالته بين حب منشود و أحلام رومانسية لم يتحقق إلا بعضها في رحلة استغرقته تماما فأسفرت عن تجارب استفاد من حلوها ومرها وخرج منها باختزال الأحاسيس بين أصابعه تنويعا علي عشقه للموسيقي التي صارت زادا لروحه ووجدانه برغم فشله في إتقان العزف بذات المهارية التي رأي كبار الموسيقيين يعزفون بها.

بين شظف العيش في القرية النازح منها ‘مدحت’ في بداية الرحلة المؤلمة ورفاهية الحياة في بلاد الخواجات حيث المطاف الأخير قبل العودة إلي الجذور تتضافر الحكايات بتفاصيلها الدقيقة وتتجلي آيات السرد والإبداع في رواية ‘بعد القهوة’ للكاتب الكبير عبد الرشيد محمودي الفائزة بجائزة الشيخ زايد للإبداع الروائي كعلامة دالة علي ثراء اللغة وتميز البناء الروائي الأتي عبر أحداث جزلة تقع في 417 صفحة من القطع المتوسط تحمل ظلال السيرة الذاتية للكاتب وفق اعتقاد ظني فيما قراناه في السطور وما بينها أو ربما لاستحياء شيئا مما قاله لي الكاتب عن طبيعة الرواية قبل قراءتها وعلاقتها بما وشي به عن نفسه فأوعز بهذا الربط التعسفي أو المحتمل.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)