بدون، يونس الأخزمي (عُمان)، رواية دار عرب ب- لندن - 2020

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
السبت 2020/04/25 السنة 42 العدد 11688
الصفحة : ثقافة
هيثم حسين - كاتب سوري


رواية “بدون”.. فتاة تغير جنسها وتخلع رداءها الأنثوي


رواية “بدون” للكاتب العُماني يونس الأخزمي رحلة جريئة للبحث عن الأمل.


ذكر والجسد أنثويّ (لوحة للفنانة سارة شمة)


في السنوات الأخيرة صرنا نقرأ الكثير من الروايات الخليجية الجريئة والتي تقتحم مواضيع ومناطق كان يهابها الكتاب سابقا، أصبحنا نقرأ روايات تناقش قضايا دينية وسياسية وتاريخية وجنسية بكل جرأة، بل وتقرأ القضايا من زوايا مختلفة، وهو ما يبشر بحراك أدبي خارج الصندوق والنمطية والمواضيع المكرورة.

يطرح العُماني يونس الأخزمي في روايته “بدون” عدداً من القضايا الإشكالية المتعلقة بالذات والآخر، بالهوية المسلوبة، الضائعة، المقموعة، بالتوازي مع تفكيك مفاهيم الاغتراب والانتماء والبحث عن سبل للخلاص، أو دروب للانفتاح على حياة مأمولة.

يثير الأخزمي في روايته أسئلة مربكة لا تخلو من إحراج، ولاسيما أنّه يخوض في موضوع التحوّل الجنسيّ في بيئة تقليدية، لا تتقبّل الاختلاف وتعتبره شذوذاً، وتحاربه بشتّى السبل، ولا توفّر أيّ وسيلة لتعمل على سحق المختلف من دون منحه أية فرصة للتعبير عن ذاته، أو التجلي بالصيغة المنشودة التي قد تستنزف العمر كلّه.

أزمة الجسد

في روايته “بدون”، الصادرة عن دار عرب بلندن، يغامر الأخزمي بالولوج إلى منطقة تعتبر محظورة على المقاربة والمعالجة والتناول في عالم يسعى إلى التغطية على ما يدور في فلكه من تخبط وضياع، ويحاول تطويع الخراب لترقيع الواقع، وإظهاره كأنّه نسخة بديلة مفترضة لذاك المنشود الذي يبدو مستعصياً بعيد المنال بدوره.

عُلا علوان، بطلة الرواية التي تعيش محنتها الفجائعية، وتصمّم على ترميم الخلل في جسدها، هي التي تعيش مشاعر الذكر في رداء جسد أنثويّ، تعيش طفولتها في مدينة الخبر بالسعودية، برفقة عائلتها اليمنية التي لجأت إلى هناك بعد فترة من الاضطرابات في اليمن الذي بدا طارداً لأبنائه الثائرين على الظلم.

يعيش الأب بدوره غربته ومحنته، يعاني في سبيل أسرته، يستذكر أمجاده وكيف ضحّى في سبيل أبناء بلده، لكنه يعيش واقع المرارة والقسوة في عمله، ويبقى في حيرة وأسى مما يمكن أن تؤول إليه الظروف، ويحاول جهده كلّه ألّا تكون أسرته معتازة لأيّ شيء، ويبقى هو الأب الحامي لها، والمؤمّن لأسباب راحتها وأمانها وسلامتها، ولا يبوح بافتقاده للابن الذكر، وهو الذي حظي ببضع بنات، تكون عُلا أكثرهن تميّزاً، وقهرا في الوقت نفسه.

ينوس الأخزمي في روايته بين خطاب الذكورة والأنوثة، ويلتف بطريقة لماحة على التحوّل الذي يسم الشخصية الرئيسة عُلا التي تتحول إلى علي بعد مرارة ومعاناة وتحدّ ومواجهة وإصرار وعزيمة، بحيث تكون طريق الوصول إلى الغاية محفوفة بالمجازفات والمآسي، ولا تكون معبّدة بالسهولة أو مفروشة بالورود المتخيّلة.

بطلة الرواية تصحح الخطأ البيولوجي الذي أسكن روحها الذكرية في جسد أنثوي وفرض عليها العيش غريبة في عالمين

وبينما تحلم علا بأن تحيا حياة طبيعية فإنّ الحياة المفترضة تنسلّ من بين يديها، تتحدّى المستحيلات لتصحّح الخلل، أو الخطأ البيولوجي الذي وصمها، وأسكن روحها الذكرية في جسد أنثوي، وفرض عليها العيش غريبة في عالمين، تعيش حالة برزخية، حالة ضياع، معلقة بين ذكورة محلومة وأنوثة كابوسية لا توافق روحها المضطرمة الثائرة.

رحلة عُلا من الخبر إلى اليمن إلى لندن، تحمل المفاجآت التي ترتحل بها ومعها، تنتقل من تحدّ إلى آخر، تحاول ترويض التحدّيات والتغلّب عليها بعزيمة لا تلين، تمضي بروح محاربة تحرق سفنها ولا تفسح أيّ مجال للتندّم وراءها، تسير لتحقيق بغيتها وتنفيذ قرارها، وهي مدركة تمام الإدراك أنّ الأمر لن يكون متاحاً بيسر.

شراسة الواقع تعمّق جراح عُلا التي تتسبّب بالفضائح لأهلها في مجتمع مغلق يحترف النيل من أبنائه بأفظع الأساليب، تكون ألسنة المحيطين بها شبيهة بألسنة نار تلذع روحها وتكوي فؤادها وأفئدة أسرتها التي تلجأ إلى التبرير والتقنيع والتملّص من المواجهة، وكأنّها اقترفت ذنباً تحاول التكتّم عليه أو إبقاءه في العتمة الحاجبة.

الاغتراب المركّب يلاحق الشخصيات، وبخاصة عُلا الضائعة بين عالمي الذكورة والأنوثة من جهة، وبين ضفّتي الانتماء والولاء من جهة أخرى، ففي حين تستدلّ إلى قناعة ويقين أنّها ستحارب من أجل تحقيق حلمها بالتحوّل إلى الذكر الذي تعيشه في كينونتها، لتتماهى جسدياً مع روحها الحائرة الغريبة، إلّا أنّ لعنة الهوية تلاحقها وتثقل عليها وتزيد غربتها.

التحول المؤلم

يصور صاحب “كهف آدم” جزءاً من معاناة المغتربين اليمنيين في الخارج، وكيف أنّهم حين يعودون إلى بلادهم ينظر إليهم على أنهم أبناء المغتربين، وأنهم يعيشون في بحبوحة، ولم يعانوا أية مشقات في بلدهم، وأنهم حصلوا على فرصتهم في بلاد الاغتراب، ولا تَحق لهم مزاحمةُ أبناء البلد على فرص العمل والرزق، ولا يجوز لهم أن يضيّقوا عليهم بالمنافسة في الاستيلاء على العمل والدراسة.

يقتفي مختلف مراحل حياة عُلا علوان في تحوّلها إلى علي علوان، ولا يخلو توصيفه من قسوة وإيلام، ولاسيما حين يصور حالاتها أثناء العمليات الجراحية التي تخوضها في رحلة التحوّل المؤلمة، والوحشة التي تفتك بها، وإصرارها على المتابعة رغم الأسى والوجع، وكيف أنّها تتجاوز رحلة العلاج، التي تكون رحلة أمل أيضاً، بروح صامدة، وتعاند خيانات الجسد لها بين محطة وأخرى بالإصرار على بلوغ الغاية.

ينوع الأخزمي من رواته، يتنقل من سارد لآخر، يسلّم مقاليد السرد لعدة رواة ينطلقون في عوالمهم المختلفة التي تثري فضاء الرواية الرحب، حيث ينتقل من الخبر إلى اليمن، ويتنقل بين عدد من المدن اليمنية، ومنها إلى بريطانيا ويجول كذلك بين عدد من المدن والجامعات والمشافي، ويرصد محطات ومشاهد من ماليزيا وعمان وأمكنة أخرى تحضر في عالمه المنفتح على التأويل والاتساع.

يحاول صاحب “غبر حشيش” تفكيك الألغام التاريخية التي تبقى جمراً متقداً يثير النزاعات والخلافات في بنية المجتمعات، كما بين أبناء الأسرة أو البلدة نفسها، ويعرض مخاوف الناس في بيئات مغلقة، يقوم بتظهيرها واستعراضها، على أمل التخفيف من وطأتها وحدّتها وتأثيرها على حياتهم ومستقبلهم.

يصوّر الأخزمي كيف أن بطلته تبدّد حالة البدونية، وكذلك الدونيّة التي تسير في ظلالها وتقهر كيانها، وتتصالح مع ذاتها وجسدها، فهي التي تكون بدون جنس، بدون وطن، بدون هوية، بدون حب، وبدون وجود بمعناه المفترض والمأمول، تعثر على الحب الذي لطالما كوى قلبها، وتتحوّل إلى الرجل الذي حلمت أن تكونه، تتزوج، تعيل أخواتها وأسرتها، تهدّئ قلب أمها البائسة بدورها، وتروّض وحوش واقعها، وداخلها معاً.

بعد أن ينتهي القارئ من الرواية، يستعيد التمهيد الذي اشتمل على أربعة تنبيهات، تضمنت الإشارة إلى أن جميع أحداث الرواية ليست حقيقية، وأن بعض أنواع الألم الصارخ نعجز عن وصفه، فهو متغطرس ووقح، ويعتذر الكاتب سلفاً إن عجز عن ذلك، وينصح كذلك أصحاب القلوب الضعيفة بألا يقرأوا روايته، وإذا حل وقرأوها فيتمنى عليهم ألا يشكروه أو يعاتبوه على التغيير الذي سيطرأ عليهم وعلى نظرتهم لمن حولهم وطريقة تعاملهم معهم.. ويقتبس كذلك في التنبيه الرابع مقولة لجاك كيرواك “الألم والحب والخوف، يجعلونك حقيقيّاً من جديد”، لينوّه إلى أن روايته هي رواية ألم وحب وخوف.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF

عن جريدة العرب اللندنية

العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)