باص أخضر يغادر حلب، جان دوست (سورية)، رواية منشورات المتوسط - 2019

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
الأربعاء 08-01-2020
المدن - ثقافة
علاء رشيدي


حلب ذكريات أشباح الموتى وآلام الفقد


جان دوست


الأفلام التسجيلية السورية التي تناولت واقع حلب الشرقية تحت الحصار والحرب مثل “أرض المحشر” لميلاد الأمين، “مجانين حلب” للينا سنجابة، و“لأجل سما” لوعد الخطيب وإدوارد واتس، تنتهي كلها بوصول الباصات الخضراء لتهجير السكان المحاصرين من المدينة. لقد أصبح هذا الباص رمزاً بصرياً لمرحلة تاريخية في سورية، وقد جسدته الفنانة التشكيلية عزة أبو ربيعة في إحدى لوحاتها الحفر، لتأتي رواية جان دوست بعنوان “باص أخضر يغادر حلب”*، لتكمل لنا، وعبر الفن، رحلة العائلات المهجرة قسراً، وتجربتها في العبور إلى المجهول.

تبدأ الرواية لحظة صعود العائلات المهجرة إلى الحافلة، بعد ما يقارب الست سنوات من الحصار والحرب، تصعد العائلات الأخيرة الباقية على قيد الحياة إلى الباص الأخضر لينقلها بعيداً عن حلب، وعبر ذاكرة الشخصية الرئيسية في الرواية (عبود الجيلي) نسترجع حكاية المدينة حلب، في العديد من المحطات الرئيسية التي شكلت مفاصل أساسية في الحدث السوري الجاري منذ العام 2011. فالرواية تقترب من توثيق حدث سياسي، وهو حين رعت روسيا وتركيا اتفاقاً، يخرج بموجبه مقاتلو المعارضة وعائلاتهم من حلب مقابل خروج مدنيين ومقاتلين إلى جانب الحكومة من بلدتي كفريا والفوعة.

مشهد خروج العائلات نقرأه الآن في رواية: “كان الناس ينسلون من الأحياء المهدمة المقفرة جماعات وآحاداً، وهم يبحثون عن أية وسيلة، تقلهم إلى أي مكان. كان المهم أن يخرجوا من أحيائهم التي تحولت في الأيام الأخيرة إلى حجيم مقيم”، ويصف الرواي كيف أصبح من الترف الحلم بسماء دون طيران حربي، والحلم بشوارع لاتسقط فيها قذائف: “بدا أن بعض الركاب، خاصة الأطفال، كانوا في غاية التعب والإجهاد، فغفوا في مقاعدهم على وقع صوت المحرك الرتيب، بينما بقي الرجال والنساء يحدقون من خلال النوافذ إلى أطلال البيوت المتراكمة على طرفي الشارع. كانوا عاجزين عن فهم مايجري. ظنوا أن ما يحدث لهم حلم. وما هو بحلم”

أحياء حلب

يكثر حضور الأطفال في الفنون التي تعبر عن المأساة السورية منذ 2011، وكذلك الحال في هذه الرواية، حيث يحاول الكاتب أن ينقل حال الحرب من وجهة نظر الأطفال، ها هم يخرجون مع العائلات بحال يرثى لها، هم الأطفال الذين رأوا أبنية قد تحولت في غضون دقائق إلى أنقاض ومقابر جماعية، الأطفال تحت القصف كانوا لا يرغبون العودة إلى منازلهم كي لا يموتوا بين كتل الإسمنت المسلح، فلماذا لا يموتون وهم يعلبون؟ لماذا لا يموتون في فسحة الشوارع وملاعب الطفولة؟

عبر حكاية (عبود العجيلي-) وعلى مدى سبعة فصول من الرواية، سنتعرف ليس فقط على حكاية حلب الشرقية فقط، بل على حكاية نماذج من المجتمع السوري في الفترة الماضية، انتقل بطل الرواية وأسرته إلى حلب في السبعينات من عفرين. ومع الأحداث العنفية التي ستشهدها البلاد، سيتحول من رجل العائلة المحاط بالأبناء والأحفاد إلى الناجي الوحيد من العائلة، الذي يركب الباص الأخضر مغادراً حلب بعد أن فقد كل الأفراد من عائلته، كل منهم في حدث سياسي، أو حرب، أو قصف. وبالتالي، تتركز قصة المجتمع السوري في حكاية (عبود العجيلي) من فقد وخسارة وصعوبة البقاء والاستمرار على قيد الحياة، وبينما كان يبحث عن الشموع لأجل عيد ميلاد حفيدته (ميسون)، يدوي انفجار برميل ألقته مروحية على الحي، فتشق شظية حادة طريقها إلى مجموعة أطفال، شظية عمياء كأمها الحرب، طارت بسرعة هائلة تجاه (ميسون)، فشطرت جسمها الطري من الجذع إلى نصفين. في قصف البراميل على حلب يخسر بطل الرواية حفيدته، بينما تموت زوجته أثناء عملية الزايدة لإنقطاع الكهرباء في المشفى الميداني الوحيد في حلب الشرقية هو مشفى القدس. في تلك الفترة كانت الناس تقتل وجثتها تبقى في الشوارع لأيام، يصف الراوي تلك الجثث المتحللة، دون أن يعرف الأحياء أصحاب من هم أصحاب تلك الجثث، وراحت الكلاب تتغذى على لحم الجثث، مشاهد لم تصدقها عيني (عبود العجيلي) وتدفعه إلى الكفر بعدالة الحياة. إذ كان قد فقد ابنه الأول في حرب المخيمات في بيروت، أما ابنه الثاني الذي عمل كمرشد سياحي للسياح الأجانب الذين يزورون قلعة حلب، في العام 2012 انشق عن الجيش السوري والتحق بالجيش الحر، وتضاربت الأخبار عنه، أغلبها تقول أنه قتل في المعارك. ابنه الثالث ترك زوجته وبناته في أنطاكية، وشد الرحال إلى أوروبا مثل الآلاف من السوريين، يموت غرقاً في البحر. أما ابنه الرابع فقد عكف عن الزواج، وإلتحق بأخواله في عفرين، ليمارس هوايته المفضلة في العزف على البزق.

وتعيش ابنته (ليلى) مع زوجها الطبيب (فرهاد) في منبج، ومع دخول داعش إلى المدينة، واضطرار الناشطين للتعامل مع مسلحي داعش، يبايع فرهاد الخليفة لإبقائه في عمله في مشفى ابن سينا. لكن داعش لا تلبث أن تختطفه وتنقله إلى الرقة، ليشرف على معالجة جرحى المقاتلين الذين يأتون من معارك كوباني.

تفكيك المصانع

في تلك الفترة بلغت الأضرار في حلب أوج ذروتها، فلم تسلم الأسواق الأثرية، وبعد أن التهم الحريق أكبر مصانع حلب في أواخر العام 2011، حلت اللعنة بصناعة النسيج، فنهبت محتويات بعض المصانع، وتم نقل خطوط الإنتاج بعد تفكيك الآلات في بعض المصانع إلى تركيا، كما تمت سرقة الكثير من المصانع الواقعة في منطقة نفوذ بعض فصائل الجيش الحر التي اتهمها أصحاب المصانع بتعفيشها وسرقة محتوياتها وبيعها إلى تجار أتراك. بينما يتذكر (عبود العجيلي) كل ذلك، يغير من كلمات الأغنيات التي كانت تتغنى بمجد حلب: “مجدك يا قلعة حلب ع جبين الشمس انكتب، وبراجك عشقانة الريح وترابك ذهب”، إلى كلمات أخرى: “براجك صارت بالأرض، وترابك دم يا حلب”. تختزل ذاكرته ذاكرة المدينة، فيرى المفقودين من صورة ابنه الفقيد في حرب المخيمات في بيروت، صورة ابنه عمر يعزف على البزق، صورة ابنه (عاصم) في سترة النجاة البرتقالية يعبر البحر إلى اليونان، صورة (ميسون) حفيدته التي ماتت تحت القصف، وصورة أمها (ليلى) التي فقدت عقلها بعد موت ابنتها وموت أمها، وكذلك صورة زوجته التي فارقت الحياة لنقص الخدمات الطبية في حلب، وهي ترتدي ثوبها المغمور بالدم.

الأحاديث مع الموتى

منذ تكاثر عدد الضحايا وتزايد حالات الفقد والخسارة، تكثفت في الفن السوري ظاهرة الحديث إلى الموتى، نراها في رواية “بين حبال الماء” لروزا ياسين حسن، والعديد من الدواوين الشعرية السورية الصادرة مؤخراً، كذلك هنا في رواية “باص أخضر يغادر حلب” التي تختصر حالة المدينة منذ الربيع العربي، ومن خلال حكاية الطبيب فرهاد تروى ممارسات داعش في المدينة، ففرهاد الذي يخطف ليعمل طبيباً لصالح التنظيم، هو أيضاً يظهر من الموت ليحدث عمه (عبود العجيلي) كيف أجبرته داعش على إصدار شهادات الوفاة لمن يقتلهم عناصر التنظيم داخل المستشفى، ويرميهم في ما بعد في مقبرة. كذلك طبلوا منه تخييط أغشية بكارة الأيزيديات الصغيرات اللواتي كان عناصر التنظيم يعتدون عليهن ثم يعرضونهن للبيع بأثمان كبيرة، وكذلك يشرف على إجهاض العشرات من الأيزيدات المعتدى عليهن. ولأن فرهاد ينتفض، ويرفض الإستمرار في إخفاء الجرائم من القتل والإغتصاب، يٌقتل من قبل داعش ذبحاً.

بعد صور ذكريات الموتى والحديث إليهم، وبعد امتلاء الباص بأشباح الموتى القادمين من الذكريات والتهيؤات، يستعيد (عبود العجيلي) في الفقرة الأخيرة من الرواية وعيه، ليجد أن الباص يتجه نحو الهاوية ويسير بلا سائق، في إشارة إلى المصير المجهول الذي انتقل إليه أهالي المدينة حلب بعد خروجهم منها، ويمتلئ الباص بطيور الخفافيش في إشارة إلى نذير الشؤم والمصير السوداوي.

في واحدة من تأملات الرواية حول العقل في الحرب، يتساءل الناس المهجرون قسراً لماذا حدث هذا كله؟ لكن ما من إجابة يتلقاها الناس: “الأجوبة بحاجة إلى إعمال الفكر، واستدعاء العقل. لكن العقل، الذي يفترض به القيام بنحت الأجوبة، يتنحى في ساعات الأزمات الكبرى. يلجأ محتمياً بظلال الجدران المهدمة وشقوق الأنقاض هرباً من هجير الحقيقة. لا عقل في الحروب. لاعقل حين تستيقظ الغرائز، وتحكم الإنفعالات. ما العقل إلا ورقة تصفر وتسقط في خريف الحروب”، هكذا تحاول الرواية تقديم تجربة حلب من جرائم الحروب إلى ذكريات حكايات الموتى وآلام فقدهم.

(*) صدرت الرواية عن منشورات المتوسط

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة

حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)