الهاوية، زينب مرعي (لبنان)، رواية دار نوفل هاشيت أنطوان - 2016

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 20-07-2016، العدد : 10340، ص(14)
الصفحة : ثقافة
العرب - عمار المأمون


كاتبة لبنانية تبحث في ذاكرة رجل عاش ويلات الحرب


تكتسح الحرب عقول من شهدوها وشاركوا فيها، فهي انهيار للمنظومة الإنسانية التي تسحق ضحاياها تحت وحشيّة السلاح، وخصوصا الحرب الأهلية التي تشرخ المجتمع وتسلخ الجلد عن الجلد في البلد الواحد، لتأتي الرواية المرتبطة بالحروب الأهلية وأطيافها انعكاسا لجروح عميقة تضرب الذات الإنسانية وتحيّدها عن وعيها بما حولها، ليصبح السرد تشكيكا في العقل والوعي ومحاولات يومية في سبيل الاتزان لترويض الويلات ومقاومة أشباحها.

نقرأ في رواية “الهاوية” للكاتبة الشابة اللبنانية زينب مرعي سيرة مقاتل يدعى سهيل غريب الأطوار، حيث كانت رحلته بين لبنان وبولندا وهو يحلم بأن يعود جنينا متكورا في رحم والدته بعيدا عن ضوضاء العالم وضجيجه. ويقف سهيل على حواف العقل، فقد نجا من الحرب الأهلية لكنه أصيب في رأسه، وبصورة أدق في عقله، ليبقى يراوح بين الوعي والهلوسة.

تداخل الفضاءات

تسير الرواية، الصادرة هذا العام عن دار نوفل هاشيت أنطوان، في خطين سرديين كل منهما في فضائه الخاص، الأول عبارة عن محاورات بين سهيل وأخيه خضر، حيث تدور بينهما أحاديث عن الأحلام الغريبة والساذجة التي تراود سهيل، ليتحدثا بعدها عن أسرتهما ثم المعارك التي خاضها سهيل في الحرب الأهلية، ثم كيف لم يحرك ساكنا حين شهد مقتل خضر، إلى جانب علاقة سهيل بالحزب الشيوعي ورحيله إلى بولندا للعلاج إثر إصابته في رأسه، وبدا الاثنان أقرب إلى روحين تتحاوران دون ضوابط للمكان والزمان.

ويتميز الحوار الذي دار بينهما بلغة بسيطة، وتأملات يوميّة لرجلين في آخر العمر عن الحياة والحرب يتخللها الغضب والنزاع وبعض الفانتازيا الشعبية التي تدور بينهما نظرا إلى كونهما أموات ربما أو مجرد هلوسات في عقل سهيل الذي يتخيّل خضر ويتحدث معه بوصفه صوتا نظيرا له، يناقضه أحيانا ويوافقه أحيانا أخرى، إذ نرى في النهاية أن موتهما وحياتهما مرتبطين، فنزيف خضر يعني نزيف سهيل، وكأنهما أشبه بتوأم سيامي. وفي الخط الثاني من السرد نقرأ حياة سهيل بلسان الراوي ورحلته إلى بولونيا للعلاج إثر إصابته في أحد المعارك، وهناك في رعاية الشيوعيين يقع في حب المترجمة البولونية هانا لنتتبع حياته معها في المصحّة وعلاقته مع زملائه العرب والأجانب، ثم العلاج الذي يخضع له إثر مرضه العصبي، ليعود بعدها إلى لبنان، حيث نقرأ عن زواجه من زهرة، حيث تتحول حياته معها إلى جحيم يغرقان فيه، فزهرة التي أرادت تحطيمه تُقطع يدها بعد حادث أصابها، في حين يقضي سهيل الوقت مع عشيقاته إلى حين إصابته بحادث يحوّله إلى شبه مشلول لا يستطيع الحراك.

نقرأ في الراوية أيضا التقلبات والتغيرات التي يمر بها سهيل، فهو الذي يهذي بأخيه ويتحدث معه بصوت الإنسان الذي تورط في حرب مازال لا يفهم ماهيتها، كذلك نقرأ عن سهيل في المصحة، وهو الغريب الذي يحاول استعادة اتزانه ويغامر في علاقة غرامية مع امرأة تكبره في العمر بحوالي عشر سنوات، لنقرأ بعدها عن سهيل في لبنان ومحاولاته إعادة التواصل مع هانا، ثم علاقته الغريبة مع زهرة التي زوّجته نفسها غصبا تحت ضغط إقدامها على الانتحار إن رفض، ثم التحدي بينهما بتدمير بعضهما البعض.

إن اللوثة التي أًصابت سهيل تجعله ينهار تدريجيا ليصل إلى سكون ما ثم إلى حالة من اللاحركة علّ الطنين في رأسه يتوقف، القنابل، الموت، زوجته، العلاج، كل هذا الطنين ينخر رأسه ولا بد له من نهاية، كأنه يتكوّر في بيضة غارقا في الصمت أو محلّقا في سماء لا متناهية حيث اللاشيء، ليتحقق حلمه بأن يكون نسرا.

التنقلات بين الخطّين السرديين التي نراها في الرواية تجعل التسلسل الزمني والانقطاعات فيها يشبهان حالة سهيل العقليّة، لنتلمّس سهيل بين وعي وغياب، وكأننا نقرأ ما يدور في دماغ مصاب بغيبوبة، أصحي منها ولكن الحالة عاودته. لكننا نلاحظ في حالة الوعي أن الراوي يترك سهيل دون أي محاولة لكبحه، وهي لغته صارمة لا تحتمل التأويل، فقد رأى الأسوأ في البشر ولا يمكن الوقوف بوجهه، لأن الحرب لا تزال قائمة في داخلة ولا تنطفئ إلا بانطفائه.

جسد الحرب

يحضر سهيل في الرواية بوصفه معادلا لجسد الحرب، فهو يتحول من آلة قتل إلى عشيق ثم زوج غاضب ثم عجوز بسيط يحكي ذكريات ما شهده، حيث يختزن سهيل العنف الذي مازال يحفر في رأسه، إذ فقَد إدراكه وتقييمه لما يحدث من حوله. ويبدو سهيل أشبه بشبح غاضب يطفو على الزمن ثم ما يلبث أن يضيّع سبب غضبه، ليعود إلى طفوه هائما، يعبُر السياسات والانتماءات الطائفيّة وجثث من قتلهم،

حيث يتلاشى الضحايا ليبقى فقط طنين القنابل، فالوجع يضرب دماغه والعنف الذي يختزنه في داخله يتجلى في علاقته مع زهرة التي أحبّها بعنف ثم تشفّى منها لأنها هزأت بحبه، فتزوجها ليذلّها وليراقب انهياراها وهي تذوي وتفقد رونقها، لينتهي بهما الأمر شبه ميتين، حيث أن المصادفات التي اكتسحت جسدهما أشبه برصاصة طائشة، فزهرة قُطعت يدها وسهيل أصيب في حادث سير، ويبدو الأمر أشبه بسخرية مشابهة لسخرية الحرب من ضحاياها التي تستمر حيّة فيهم، فالطنين لا يزول إلا بالموت، وكل شيء ينهار لينتصر ألم في رأس سهيل يسلخ قعر دماغه، ليبدو أحيانا كالموتى يتحلل غير عابئ بما حوله.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)