الخميس 13 يونيو 2019
جريدة رأي اليوم الإلكترونية
ثقافة - راي اليوم
د. محمّد محمّد خطّابي - كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا
المَاريَاتشِيّ والفلاَمِينكُو والطّرَب الأندلسيّ الموريسكيّ نَغَمَاتٌ فى نَغَمٍ وَاحِد
ما سرّ تعلّق المكسيكييّن بهذا النّوع من الغناء..؟ ما سرّ افتخارهم به حتى الهوَس..؟ ما هي أصوله، وجذورُه..؟ ما هي قصصُه وطرائفه، وأخبارُه ،وحكاياته .؟ ما هو سرُّ انتشاره، ونجاحِه، وشهرتِه، داخل المكسيك وخارجها،وما مدى تأثيرات الفنون الموسيقيّة الأندلسيّة العربيّة في هذه الألون من الغناء وفى سواها في العالم الجديد..؟.
تأثير موسيقىَ الأندلس فى أنغام اسبانيّة ومكسيكيّة
عرفت المكسيك هجرات متوالية في فترات متوالية من تاريخها الطويل، وقد حملت هذه الهجرات على اختلافها معها العديد من العادات والتقاليد والمظاهر الثقافية والحضارية والفنية واللغوية والموسيقية وسواها، ومن أبرز التأثيرات الحضارية التي كان لها وقع بليغ في حياة الشعب المكسيكي هي الحضارة العربية الإسلامية حتى لو جاءها هذا التأثير عن طريق الغزاة الإسبان الذين استقدموه معهم عند دخولهم لهذا البلد. فقد تصادف لحكمةٍ أرادها الله أن يتمّ اكتشاف العالم الجديد، ومن بينه المكسيك مع تاريخ سقوط آخر معاقل الإسلام في الأندلس وهي حاضرة غرناطة عام 1492 حيث كان التأثير الإسلامي في الإسبان ما زال حديث العهد وقد تجلىّ في العديد من مظاهر الحياة ومرافقها. يُضاف إلى ذلك التأثيرات التي أحدثتها موجات الهجرات العربية المتعاقبة التي بدأت منذ أكثر من قرنين ونيّف من الزمان.
جِذر كلمة الفلامينكُو
وقد ظهر هذا التأثير بالخصوص فى ميدان اللغة ،حيث استقرت في اللغة الإسبانية المنتشرة في المكسيك بالذات كثير من الكلمات العربية التي ما زالت مستعملة في فنون العمارة والبناء والموسيقى،والسّماع، والغناء منها “الفلامنكو” حيث لا وجود لأثل أو لجذر لهذه الكلمة فى اللغة القشتالية القديمة،( الإسبانية) ممّا يؤكد .كما يذهب غير قليل من الباحثين والدارسين أنها كلمة ربما تُستقي أو تنحدر من أصل عربي، فقد تكون تحريفاً لكلمة “فلاح منكم “، أو” فلاح مَنكوب ” حسب العديد من المستشرقين منهم الكاتب والمفكر الإسباني الأندلسي” بلاسْ إنفانتي” ،كما يؤكّد هذه الحقيقة البدهية بشكلٍ قاطع الدكتور “أنطونيو مانويل رودريغيس راموس” من جامعة قرطبة المتخصّص فى التاريخ الأندلسي،والمستشرق الإسباني الكبير “بيدرو مارتينيث مونطافيث” من جامعة مدريد المستقلّة وسواهم من الباحثين الإسبان وغير الإسبان الثقات،حيث حذفت الحاء لعدم وجودها في الإسبانية ورُخّمت الميم أو الباء للتخفيف والتلطيف على طريقة نطق أهل مصر فغدت الكلمة ” فلامنكو”. كما أنّ طريقة أداء هذا اللون من الغناء يتمّ على نغمات شبيهة بالخرْجات أو الوصلات أو الموشّحات والمواويل العربية المعروفة بأدائها المميّز بالآهات،والتأوّهات ، وتمطيط الكلم ممّا يزيدنا تأكيداً لأصلها العربي أو على الأقل تأثير الموسيقى العربية في هذا اللون من الغناء، وكذا في الأجواق أو الفرق الموسيقية العديدة التي لا يخلو منها حفل أو زفاف أو مهرجان في المكسيك والتي تُسمّى اليوم ب “المارياتشي” وهي تؤدّى ضرباً من الأغاني، والألحان،والأنغام التي تضاهي إلى حدّ بعيد أغاني “الفلامنكو” الموريسكية وهي أصل المواويل الطرَبيّة التي انتشرت عند مُسلمي الأندلس.
وتجر الإشارة فى هذا الصدد أن منظمة اليونسكو العالمية كانت قد سلّمت مؤخّرا للسّلطات المكسيكية في ولاية “خاليسكو” (واحدة من 32 ولاية مكسيكية، و مهد الكاتب المكسيكي الكبير خوان رولفو) وثيقة المصادقة الرّسميّة التي تعترف فيها لموسيقى وغناء فرق ” المارياتشي” المكسيكية الشهيرة كتراث غير مادّي للإنسانية جمعاء، وذلك خلال احتفال خاص جرىَ في إطار فعاليات اللقاء التاسع عشر الدّولي للمارياتشي الذي أقيم في مدينة ( وادي الحجارة) المكسيكية . وقد استلم هذه الوثيقة خمسة أطفال مكسيكيّين، تتراوح أعمارهم بين 5 و10 سنوات، وهم يرتدون أزياء المارياتشي البديعة المزركشة، وذلك كرمز لتلقّف الأجيال الجديدة لهذا التراث الموسيقي العريق والحفاظ عليه، والذي يفتخر به جميع المكسيكييّن مثلما يفتخر جميع الأندلسيين بفنهم الغنائي الموريسكي الزاخر وهو الفلامنكو.
فنون موسيقيّة مُتوأمة
وللتاريخ أشير أنّ موسيقى المارياتشي كانت قد أضيفت إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي للإنسانية، وذلك بناء على قرار جماعي للجنة خبراء اليونسكو في هذا المجال المجتمعة فى جزيرة ” بالي” لهذه الغاية بتاريخ 27 نوفمبر 2011.وقد كوّنت الحكومة المكسيكية بهذه المناسبة لجنة خبراء موازية لدراسة إستراتيجية الحفاظ على هذا النوع من الموسيقى والغناء والتعريف به في العالم .وقد شاركت في هذه الاحتفالات فرق للمارياتشي من بلدان أمريكية لاتينية أخرى مثل كوستا ريكا، وفنزويلا، وكولومبيا ، وأزيح الستار عن لوحة رخامية تذكارية تخلّد هذا الحدث الثقافي والفنّي الكبير .كما تمّ تدشين قاعة كبرى للسّماع تضمّ 140 آلة موسيقية تاريخية لهذا الصنف من الغناء. وخمسين ألف تسجيلاً لموسيقى للمارياتشي منذ 1910 ، كما أحدثت أكاديمية خاصة لتلقين دروس أداء وعزف وغناء هذا الفن الشعبي الأصيل .. تُرىَ ماذا فعل جيراننا الإسبان، وبالأحرى ماذا فعلت الشعوب المغاربيّة والعربية بالنسبة لموسيقى الفلامنكو وتوأمتها الموسيقى الموريسكيّة أو الأندلسية التي استقرّت، وانتشرت ،وازدهرت في بلادنا منذ القرون الوسطى غداة نزوح أجدادنا الموريسكييّن وانتقالهم إلى المغرب وإلى البلدان المغاربية كالجزائر ،وتونس ،وليبيا ،وبلدان مشرقية أخرى ..؟ هذا فى الوقت الذي يؤكّد لنا التاريخ أنّ كلاّ من الماريتشي المكسيكي والفلامنكو الموريسكي وسائر فروع هذه الألوان الموسيقية والألحان الغنائية والوصلات الطربية التي ازدهرت خلال الوجود الإسلامي بالأندس كان لها ولا ريب فيما مضى الفضل الأكبر، والتأثير البليغ فى تطوير الموسيقى الأوربية على وجه العموم ،ونذكّر بهذه المناسبة في هذا المقام أنّ الإسم الذي كان قد اختاره الشاعر الإسباني الأندلسي أنطونيو ماتشادو لماكنته الشعرية التي تخيّلها هو”الطروبار”، الذي لا شكّ أنّه مُستوحىً من مصطلح “الطربادور”، فقد كانت قد اشتهرت في أوربا فِرَقٌ كانت تهيم على نفسها وهي تؤدّي نغمات موسيقية وشعرية معيّنة وهي فرق الطروبادور التي يرجع أصلها إلى اللغة العربية وهي فرق أو مجموعات (دور الطرب) التي كانت تجول في إسبانيا وفرنسا في القرن العاشر. ويؤكّد المستشرق “كليمان هوارث” أنّ مسلمي الأندلس كانوا أساتذة الطروبادور في فنون القوافي والأوزان الشعرية،والأنغام الموسيقية، ويرجع الفضل للموسيقييّن المسلمين في الأندلس في نقل الأسلوب العربي في الوزن الشعريّ، والإيقاع الموسيقيّ إلى أوروبا عبر جنوب شرق فرنسا من خلال أغاني الشّعراء المتجوّلين (الطروبادور) لتغيير أسلوب الشّعر، والموسيقى الأوروبية إلى أسلوب عصريّ متطوّر كما يؤكّد ” فيليب حتىّ” انّ الزجل العربي كان له تأثير واضح فى الأغاني التي كانت تغنّى فى بعض الأعياد المسيحية ، ولا شكّ انّ الإسبان قد حملوا معهم هذا التأثير عند غزوهم للعالم الجديد.
المارياتشي وساحة غاريبالدي
تعتبر ساحة غاريبالدي من أشهر الساحات الكبرى التي تتوسّط مدينة مكسيكو العاصمة،التي تحمل اسم الزعيم الإيطالي جيوسيبّي غاريبالدي(1807-1882) ، فقد اقترن اسم هذه الساحة بهذه الفرق والأجواق الموسيقية التقليدية المكسيكية التي تسمّى بالمارياتشي ، ففي هذه الساحة تجتمع هذه الفرق ومنها تنطلق للعمل فى أحياء وضواحي وأرباض هذه المدينة العملاقة . ولقد أصبحت ساحة غاريبالدي من الساحات المشهورة التي يؤمّها الناس والمارّة والسّامرون للاستماع والاستمتاع بهذه الأجواق بارتداء أزياء بديعة مزركشة وأنيقة ، وبقبّعاتها العريضة التي هي تجسيم للتقاليد المكسيكية المتوارثة ، حيث أصبحت هذه القبّعات من علامات المكسيك المميّزة في العالم أجمع .وعندما يجنّ الليل تنتشر فرق المارياتشي فى هذه الساحة ريثما يأتي محبّان والهان يخفق قلباهما بلواعج الحبّ والهوى والصّبابة يستقدمان فرق المارياتشي لترصيع زفافهما بأنغامها التقليدية العاطفية المرحة ، ونجد عشرات من هذه الفرق وهي واقفة أو جالسة إلى جانب النافورة الجميلة التي تتوسّط الساحة، أو تتّكئ على أحد المجسّمات التي رفعت في الساحة لأقطاب هذا النوع من الغناء الشعبي المتوارث، ومن أشهرهم وأوسعهم صيتاً “خوسّيه ألفريدو خيمينيث” و”بيدرو إنفانتي”، وسواهما حيث تنطلق أصواتهم الرخيمة، وتتسابق حناجرهم الذهبية لتشدو أعذب الألحان وأرقّها .وسرعان ما تتحوّل ساحة غاريبالدي إلى عرس شعبي أو مهرجان حيّ قائم لهؤلاء الذين يتغنّون بكل جميل ويطلقون زفرات حرّى ، وآهات حزينة عن الحبّ وتنهّداته وأفراحه وأتراحه ، وحبوره وصدوده ،ولياليه القمرية التي لا ترى فيها سوى أطياف العشّاق والمحبّين والمتيّمين ،بل وكثيراً ما يدرك الليلُ الصباحَ وفرق المارياتشي ما زالت تنتظر وتنتظر ، وعزاؤهم أنّ الناس قد شاركوهم فى السّهر والسّهاد والسّمر، وقاسموهم المأكل والمشرب .وفي هذه الأثناء لا تسمع سوى صوت الموسيقى يصدح فى الفضاء على رقصات واهتزازات أضواء النيّون المشعّة ، والسيارات المسرعة التي تخرج من أنفاق وجوف المدينة الأزتيكية الكبرى المترامية الأطراف.
شيءٌ من التاريخ
يستشيط المكسيكيّون غضباً إن قال قائل أنّ أصل كلمة “المارياتشي”ربما تنحدر من كلمة “مارياج” الفرنسية التي تعني حفل الزفاف أوالعرس.ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ هذه الفرق كانت تغنّي بعد التدخل الفرنسي في منطقة خاليسكو بالمكسيك حيث كانت تشارك فى حفلات الزفاف وفى الأفراح على العموم ، ويرفض المكسيكيون بشكل قطعي وبزهو وخيلاء هذا القول الذي يعتبرونه تجنّياً وادعاءً باطليْن، وتشويهاً لسمعة بلادهم وتاريخهم وتراثهم الموسيقي .
ويشير بعض العلماء المختصّين في تاريخ الموسيقى المكسيكية دحضاً للرأي السابق أنه عثر على الأقل على وثيقتين سابقتين لتاريخ 1860 وهو تاريخ دخول الفرنسيين إلى المكسيك مستغلّين انشغال أمريكا الشمالية بحربها الأهلية ،وترد في هاتين الوثيقتين كلمة “مارياتشي” ممّا يؤكّد حسب رأيهم أنّ هذا المصطلح كان له وجود قبل دخول الفرنسيين للمكسيك ، ويذهبون أيضاً أنّ لهذه الكلمة عدّة معان عندهم فهي تعني مجموعة من الموسيقيين الشعبيين ، كما أنها تعني المكان الذي يرقص فيه في الهواء الطلق ، ويزعم هؤلاء كذلك انّ كلمة مارياتشي تعني اسم شجرة ، ثم أصبحت تعني هؤلاء الذين يتجوّلون أو يهيمون على أنفسهم فى القرى،والضيع، والمداشر، والبوادي ،مثل فرق الطروبادور الأندلسية،وهم يشيعون الفرح والحبور في قلوب ” المنكودين” أو المهمومين ، ويرى آخرون أنّ الكلمة تجد معناها في أصل المصطلح لغوياً، فيشيرون أنّ هذه الكلمة ربما تنحدر من لغة هندية قديمة تسمّى “كورا” وهي منتشرة فى منطقة “ناجاريت “المكسيكية ، فى حين يذهب باحثون آخرون انّ الكلمة هي من لغة “نواتل” الأزتيكية السابقة للوجود الإسباني فى المكسيك حيث تستعمل هذه اللغة بكثرة اللاّحقة أو الكاسعة ” تشي”. كما يذهب بعض المؤرّخين أن ّ أصل ظهور هذه الجماعات أو الفرق الموسيقية يرجع لتاريخ وصول الإسبان إلى المكسيك الذين استقدموا معهم الآلات الوتريّة التي استعملها وطوّرها سكّان الأندلس من عرب، وبربر،واسبان والتي يضرب عليها بريشة أو نحوها .وعلى الرّغم من انتشار هذه الفرق الغنائية فى مختلف ربوع الأراضي المكسيكية ، فإنها لم تصبح على ما هي عليه اليوم إلاّ فى القرن الثامن عشر ، ويرجّح هذا الرأي ما تمّت إليه الإشارة من قبل وهو أنه بعيداً عن أصل الكلمة لغوياً فإنّ النغمات التي تؤدّيها والألحان التي تطربها بل حتى المضمون الأدبي والشعري الذي تستعمله في غنائها هو قريب جدّاً من مضامين الخرجات الأندلسية وأغاني مواويل ” الفلامنكو”، فقد اشتهرت في أوربا قبلها فرق أخرى تشبهها كانت تهيم على نفسها هي الأخرى وهي تؤدّي نغمات ربّما تكون قريبة من نغمات المارياتشي وهي فرق الطروبادور التي يرجع أصلها إلى اللغة العربية كما سبقت الإشارة إلى ذلك من قبل.
الغزَل العُذري أو التشبيب العفيف
من عادة أهل المكسيك الجميلة أن يصطحب العاشق المغرم إلى منزل محبوبته فرقة من المارياتشي وتُسمّى هذه العادة عندهم “سيريناتا” وهي لحن يعزف ليلا لاستعطاف المحبوب والتغنّي بجماله ومحاسنه ، وخصاله ومحامده، وتقف فرقة المارياتشي وإلى جانبها المُحبّ المُتيّم قبالة منزل محبوبته في ساعة متأخّرة من الليل ، وتبدأ فرقة المارياتشي في الغناء والطرب مُعبّرة عن مشاعر الحبّ التي يشعر بها العاشق الولهان نحو حبيبته فى أنغام حلوة ومؤثّرة تحطّم سكون الليل وخلوته، فإذا قامت الفتاة وأوقدت نور الغرفة وأطلّت من شرفة منزلها فمعنى ذلك أنّها قبلته وتبادله نفس مشاعر الحبّ ،وبالتالي يمكن لهذا الشاب أن يأتي إلى منزلها متى يشاء ليطلب يدَها من ذويها بصفة رسمية ،وإذا لم يُضاء النور، ولم تطلّ المحبوبة من غرفتها فمعنى ذلك أنها غيرُ راضيةٍ بحبّه والزّواج منه ، عندئذ يطلب الشاب من المارياتشي الانسحاب بعد أن يدفع لهم أجرَ عملهم ،ثم يعود وهو منكسر الخاطر،شارد البال، حزيناً متحسّراً يجرّ أذيالَ الخيبة والفشل ،وما زالت هذه العادة قائمة ومنتشرة في مختلف المدن والقرى المكسيكية حتي اليوم.
أنواع مُوسيقىَ المارياتشي
هناك أنواع عديدة من فرق المارياتشي، وهم يتباينون في أزيائهم حيث تكون غاية في الإتقان والتنسيق ،أو ربّما كانت أزياء بسيطة ولكنها مع ذلك تكون مثيرة تسير في نفس الخط العام المميّز لهذه الفرق ،كما يختلفون في أنواع وأحجام قبّعاتهم المزركشة ،وتضاهي أحذيتهم أحذية رعاة البقر الأمريكيين ، وهم يستعملون أحزمة جلدية سميكة مرصّعة بالنقود المعدنية الفضيّة والمذهّبة .وإذا كانوا يختلفون في أزيائهم فهم يختلفون كذلك في أعدادهم حيث نجد فرقة الثلاثين، وهي أغلى وأثمن فرق المارياتشي وأجودها وأكثرها تأثيراً فى مُستمعيها،وعادة ما تستدعى هذه الفرقة للحفلات الراقية والمناسبات الكبيرة ، كما أنّ هناك فرقاً تتألّف من عشرين ، وخمسة عشر،وعشرة،وسبعة عازفين،وتتفق هذه الفرق برمّتها فى انتمائها من حيث الملبس إلى منطقة خاليسكو، وناجاريت حيث عادةً ما يرتدى الرّجال هناك قميصاً وبنطلوناً مخمليّاً من صوف وقبّعات عريضة من قطن أو سعف.
ويعتزّ أفراد فرق المارياتشي اعتزازاً كبيراً بنوعية الغناء الذي يؤدّونه وهم يعتبرونه إرثاً فنياً رفيعاً ورثوه عن أجدادهم ،ولهم فيه نوابغهم وأفذاذهم الذين أجادوا هذا الفنّ وبرعوا فيه واخلصوا له على امتداد الأجيال، وقد تربّع على عرش هذا الغناء لسنوات عديدة فيسينتي فيرنانديث الذي كان يُلقب بعريس أمريكا ،واشتهرت فيه كذلك المطربة عايدة كويباس( من أصل عربي) وسواهما من الأسماء. وأغلبية المطربين والمطربات في المكسيك لابد ان يؤدوا هذا النوع من الغناء الشعبي المتوارث ليشقّوا طريقهم إلى عالم الأضواء والشهرة . واشتهرت في المكسيك و إسبانيا بأداء هذا الصّنف من الغناء بإتقان كبير المطربة الإسبانية الرّاحلة المعروفة ” روثيو دوركال”.
وهناك نوع من المارياتشي يُغنّيَ فقط فى القرىَ والبوادي وهم يتّسمون بالبساطة ، وغالباً ما يتغنّون بالطبيعة وحياة البادية على العموم.
بركاش المكسيكيّ وزرياب الأندلسيّ
ويتغنّى المارياتشي المحترف بمقطوعات شعرية جميلة من الفولكلور الشعبي المكسيكي ، كما أنّ هناك نوعاً آخر ليس له طابع خاص مميّز على أنه يلجأ إلى التقليد حسب المناسبات والظروف فيتغنّون بمقطوعات مارياتشي الأرياف والمدن على حدٍّ سواء وغايتهم من ذلك هو كسب قوت العيش وإرضاء جميع الأذواق. وهناك أسماء فرق يربو عمرها على أزيد من قرن من الزّمان حيث يحلّ الأبناء مَحلَّ الآباء ثم الأحفاد وهكذا ، فيغدو بالتالي هذا الفنّ متوارثاً بين الأسرة الواحدة .وأقدم فرقة من هذا القبيل أسّسها ” غاسبار برقاش”عام 1898( ويلاحظ أصل هذا الاسم الأندلسي الأمازيغي الذي ما زال موجوداً ومنتشراً في المغرب والأندلس حتى اليوم) وما زالت هذه الفرقة التي تحمل إسم مؤسّسها وهي من أشهر وأكبر وأغلىَ فرق المارياتشي فى المكسيك . وفى عام 1921تولّى رئاسة هذه الفرقة النجل الأكبر للسيّد برقاش أو بركاش سيلفيستري -الذي مثلما قام ” زرياب” عند وصوله إلى الأندلس بزيادة وتر خامس إلى العود – عمل برقاش على زيادة آلات موسيقية جديدة مُستحدثة إلى هذه الفرقة وهي البوق أو النفير حيث غلبت هذه الآلة الموسيقية على الآلة التقليدية في هذه الفرق وهي آلة “الفيولين” التي كانت تعتبر الأداة الرئيسية عند المارياتشي إلى جانب أدوات أخرى وتريّة وآلات النّقر والنّفخ.
ولا يخلو حفل فى المكسيك مهما كانت نوعه من هذه الفرق الموسيقية التي غالباً ما تستقبل بالصيّاح والهتاف والتصفيق وبمختلف مظاهر الحُبور والفرح كرمي الورود،أو التلويح بالمناديل البيض على طريقة جمهور حفلات مصارعة الثيران في إسبانيا عندما يعبّرون عن إعجابهم بالمصارعين (أو معذّبي الثيران وآسفاه…!) . وما زال الناس يهيمون في الشوارع وأزقّة مدينة مكسيكو العملاقة ،فمثلما تؤدّي كلّ الطرق إلى روما ، فإنّ كلّ الطرق فى مدينة مكسيكو سيتي تؤدّي إلى ساحة غاريبالدي، هناك يحطّ الغادي والرّائح ترحاله، حيث يأخذ مكانه فى الساحة الكبرى، ويتّكئ على جدع دوحة ضخمة ، أو يستلقي داخل كرسيّ وثير من كراسي المقاهي الوفيرة والوثيرة المنتشرة فى السّاحة ، أو يجلس تحت أقدام مُجسّم خوسّيه ألفريدو خيمينيث، أو مجسّم بيدرو إنفانتي، وهما من أقطاب غناء المارياتشي في المكسيك، ويرخي لأذانه العِنان ليصغي، ويسمع أو يستمتع بنغمات هذه الفرق الموسيقية التي تبعث فى النفوس شعوراً سحرياً غامضاً وبشكل خاص فى المواطنين المكسيكيين فتدمع أعين بعضهم ، ويصيح آخرون وتقشعرّ أبدان سواهم، فهي نغمات تذكّرهم بأجمل مباهج الحياة، بالحبّ الأوّل،والمنزل الأوّل، والوصال،والخصال،وأحيانا بالصّدود،والرّدود، والهجران،والعتاب والكبرياء، والخيلاء، والتعالي والغرور ،كما تذكّرهم بأيامهم الغرّاء ، وذكرياتهم الوطنية، وأبطالهم الصّناديد. إنّها تذكّرهم كذلك بسحر، وجمال، وروعة بلادهم التي تمتزج فيها الطبيعة الخلاّبة التي حباها الله إيّاهم بأحلى الأنغام ، وأعذب الألحان، وأجمل الوجوه الحِسان ، تماشياً مع مثلهم القائل: في بقية بلدان العالم خلق الله الإنسانَ ثم خلق له الطبيعة ، وفى المكسيك خلق الله الطبيعة أوّلاً ثم خلق لها الإنسان..!
احتفاليّات الفلامينكو والطرَب الأندلسيّ المُوريسكيّ
وبغضّ النظر عن بعض الأنشطة الفنية التي عرفها المغرب مؤخراً فى هذا السّياق – على سبيل المثال وليس الحصر- كالحفلات الموسيقية التي التقى فيها السِّحر الغجري بعبق التاريخ الأندلسي من تنظيم جمعية “نساء من أجل التعددية والسلام”، بشراكة مع وزارة الثقافة والاتصال المغربية ومدرسة “مارتا لورانس” لفنّ الفلامينكو،التي شهدتها مدينة الرباط تحت عنوان “Tengo tango”، ناهيك عن المجهودات التي تبذلها الفنانة المغربية المتألّقة سميرة القادري فى هذا المجال سواء في بلدها أو في إسبانيا أوفى بلدان أخرى حيث عملت مؤخّراً على إطلاق مشروعها الفني الجديد الذي مزجت فيه بين فنّ الأوبرا وفنّ الفلامينكو ضمن فعاليات مهرجان الشّارقة للموسيقى العالمية، في تجربة جديدة جمعتها مع فنان الفلامينكو الإسباني أركانغل التي احتضنتها إمارة الشارقة في فبراير الفارط، فضلاً عن تظاهرة ثقافية فنية أخرى نُظّمت بمعهد الدراسات الإسبانية- البرتغالية بمدينة الرباط بتاريخ 13 يونيو الجاري 2019 بعنوان ( صَوْتان فى صوتٍ واحد البصمة الموريسكية الصّوفية فى الفلامينكو) من تنظيم “مؤسّسة ذاكرة الموريسكييّن” المغربية بمشاركة المستشرق الإسباني المعروف “أنطونيو مانويل رودريغيس راموس” والفنانة السّوبرانو سميرة القادري .
والحالة هذه ،وحيال هذا الخَصَاص الذي يعرفه هذا المجال في العالم العربي، حريٌّ بنا أن نتساءل: متى ستنظّم في البلدان العربية دراسات علمية، و ندوات مستديرة تاريخية رصينة ،وإقامة تظاهرات ثقافية، وأدبية، وفنية، علمية،كبرىَ مزدوجة احتفاءً بهذه الفنون العريقة ،وإحياءً لهذه الأصناف الرّاقية لفنّ السّماع وللفرق الموسيقيّة المتوارثة والمتوأمة فيما بينها على امتداد التاريخ منذ العهد الأندلسيّ العربي- الأمازيغي الزاهر، وهي المارياتشيّ المكسيكيّ ،والفلامينكو الإسبانيّ من جهة، وبين الطرب الأندلسيّ المُوريسكيّ المغاربيّ من جِهةٍ أخرىَ..؟!.
عن موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية
من تقديم مؤسس ورئيس تحرير جريدة رأي اليوم الإلكترونية
سياستنا في هذه الصحيفة “رأي اليوم”، ان نكون مستقلين في زمن الاستقطابات الصحافية والإعلامية الصاخب، وأول عناوين هذا الاستقلال هو تقليص المصاريف والنفقات، والتمسك بالمهنية العالية، والوقوف على مسافة واحدة من الجميع بقدر الإمكان، والانحياز إلى القارئ فقط واملاءاته، فنحن في منطقة ملتهبة، تخرج من حرب لتقع في اخرى، في ظل خطف لثورات الأمل في التغيير الديمقراطي من قبل ثورات مضادة أعادت عقارب الساعة إلى الوراء للأسف.
اخترنا اسم الصحيفة الذي يركز على “الرأي” ليس “تقليلا” من أهمية الخبر، وإنما تعزيز له، ففي ظل الأحداث المتسارعة، وتصاعد عمليات التضليل والخداع من قبل مؤسسات عربية وعالمية جبارة تجسد قوى وامبراطوريات إعلامية كبرى، تبزخ على ميزانيات بمليارات الدولارات، رأينا ان هذه المرحلة تتطلب تركيزا اكبر على الرأي المستقل والتحليل المتعمق، وتسمية الأمور باسمائها دون خوف.