موقع جريدة الأيام الفلسطينية
الثلاثاء 12-01-2021
الأيام - أدب وفن
كتبت بديعة زيدان
"العابرة" .. رحلة سرديّة لإبراهيم عبد المجيد ما بين تحوّلات الأجناس والبلاد !
عاد المبتعثون المصريون من أوروبا وفرنسا خاصة، “بأفكار معاصرة عن تعليم البنات والبنين، وعن العمارة والشوارع والحدائق. زاد الأمر في عصر إسماعيل الذي معه تأسس أول مجلس للنوّاب، وبدأت الصحف، وبُنيت الأوبرا التي احترقت في عصر السادات، وظهرت المجلّات، وأتى إلى مصر مهاجرون من كل الدنيا، يساهمون في نهضتها، مهاجرون يهود هاربون من مذابح أوروبا، ومهاجرون عرب مسلمون ومسيحيون وبهائيون من الشام، وأكراد وأرمن هاربون من مذابح الخلافة العثمانية، أسّسوا صحفاً ومجلات، وساهموا في ازدهار المسرح، وظهرت المجلّات السينمائية، ونشط المجتمع المدني إلى حد رهيب بعد ثورة 1919، فبُنيت الاستوديوهات، وبدأ إنتاج الأفلام، واستمرت مصر في طريق الليبرالية التي جعلت يوماً رئيس مجلس الشورى يهودياً مصرياً، وعاش الجميع معاً، وصارت مصر أمّ الدنيا حقيقة، لاتساعها لكل الأجناس والملل، فلا فرق في الدين أو الجنس، وكما تُبنى الجوامع تُبنى الكنائس ومعابد اليهود وحتى معابد البهائيين في الوقت الذي لم يتخلّ فيه المصريّون عن نضالهم ضدّ الاستعمار البريطاني للتحررّ منه، وتقريب المسافات بين الأغنياء والفقراء، والتخلص من آثار الإقطاع في الريف (...) أمامه في المقالات التي قرأها على الإنترنت مئات من أصحاب الأسماء العظيمة في الثقافة والعلوم والاقتصاد والعمل السياسي، من الرجال والمساء. حقاً لم تكن الليبرالية قد وصلت إلى غايتها، لكن كانت في طريقها، حتى قامت ثورة يوليو 1952 التي قال عنها الشاب في مقهى الفيشاوي انقلاباً، ويقول الكثيرون عنها هنا ذلك، والتي كانت شعاراتها القضاء على الإقطاع والرأسمالية وبناء حياة ديمقراطية سليمة، لكن عبد الناصر، وهو يفعل ذلك، أغلق طريق الديمقراطية، وألغى الأحزاب، ومن يومها لم نعرفها. حين أعادها السادات جعلوها صوريّة. باختصار وكما علّق أحدهم ضاحكاً، صار الأمر كما قالت تحية كاريوكا: (تخلصنا من الملك ليحلّ محله 13 ملك)، وتعني أعضاء مجلس قيادة الثورة، والآن، زاد الملوك، وأصبحت هناك وزارات كاملة، يسمّونها سيادية”.
شكل الاقتطاع السابق من رواية “العابرة” للروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، والصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، ليس فقط بيت القصيد فيما أراد الروائي قوله، ولو في جزء منه، بل أيضاً حالة من النوستالجيا لزمن لم يعشه، أو عاش شيئاً منه، هو الذي كان في سن السادسة حين قام عبد الناصر ورفاقه بإسقاط الملكية في مصر، وإعلانها “ثورة”، أو حسرة على ما آلت إليه بلاده، ومنذ عقود، من تراجع على مستويات عدّة، بينها الحقوق والحريّات، وأيضاً الانفتاح وتقبّل الآخر، علاوة على الدور المحوري للثقافة والصحافة، وغير ذلك، في رواية أقل ما يمكن وصفها به أنها جريئة على أكثر من مستوى.
حكاية التحوّل هذه، وتقبّل التحوّل، دون التسويق لموقف ما، عكسه عبر شخصية “لمياء” التي كتبت على صفحتها في “فيسبوك”: لا تنتظروني، فلن أعود، سيعود إليكم شخص آخر أحبه"، وذلك قبل أن تتوجه إلى المستشفى، لتخرج “حمزة”، أو يخرج عوضاً عنها، في حياة جديدة.
“لمياء”، طالبة جامعية كانت تظهر عليها منذ بداية مرحلة بلوغها أعراض الرجولة، حتى أن شكل جسدها وتكوينه كان أقرب إلى الذكورة منه إلى الأنوثة، كما هي طبيعة أحاسيسها ومشاعرها وميولها الجنسي.. تتحوّل “لمياء” إلى “حمزة”، الذي يواجه، جراء هذا الانتقال، مشاكل جمّة، يتكئ عليها الروائي القدير إبراهيم عبد المجيد، أو يجعلها نقطة انطلاق سردية، ليضع كلماته على الجرح، راصداً شيئاً من تحوّلات مهمّة ومتعددة في البنية التحتية المكوّنة للمجتمع المصري، سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، وغير ذلك، في تشبيه بليغ وغير مباشر، ما بين تحوّلات “لمياء” إلى “حمزة” الذي تمنت، وتحولات مصر، ولكن ربما إلى ما لم يتمناه كثيرون، ومنذ عقود، فرحلة “العابرة” ما بين الجنسين، هي محاكاة لرحلة عبور البلاد ما بين أكثر من تحوّل، لتشكل بطلة أو يشكل بطل الرواية، جسراً بدوره نحو محاكاة تجربة سياسية، وتاريخية، واجتماعية، تتواصل وتتقلّب تحت وطأة “انقلابات” أو “ثورات”، منذ مطلع القرن الماضي، وتحديداً منذ العام 1919.
وعبر رحلة “العابرة”، يتحدث الروائي عن تعاطي الغرب مع المتحوّلين جنسياً ما بين عالمي الذكورة والأنوثة، وكيف باتت المجتمعات الغربية تتقبلهم حتى أن العديد منهم أصبح من بين نجوم السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة وغيرها، على عكس مصر والجغرافيات الناطقة بالعربية وغيرها من دول ما يعرف بالعالم الثالث، ذاكراً أسماء بعضهم من أوروبا والعالم، كالمغنية كيلي ديرفير، والموسيقية والممثلة ألكسيس آركويت، والمحامي والمؤلف الفائز بجائزة “لمبادا” الأدبية العام 1994، لزلي فينبيرغ، والممثل ريلي كارتر ميلينغتون، والرياضي الألماني أندرياس كريغر، وغيرهم، بل تحدّث عن بعض المتحوّلين ممن كان لهم حضور تاريخي كالفرنسية جان دارك، وعضوة الحزب الفاشي الإيطالي فاليريا آركل سميث وتحوّلت إلى فيكتور باركر، وآخرين.
وتطرق عبد المجيد في روايته هذه إلى العديد من المحطات المؤلمة في التاريخ المصري الحديث، وبشيء من التفصيل، خاصة في العقدين الأخيرين، كحوادث القطارات، وغرق العبّارات، وغيرها مما يعكس حالة التردي التي آلت إليها البلاد، لدرجة أن من يكتب، ولو بالتورية، عن هذا الواقع المأساوي، يكون مصيره الاختفاء القسري بعد الاختطاف بطرائق عدّة، وكأنها إحالة إلى اختطاف البلاد المتواصل منذ عشرات السنوات.
عبور لمياء إلى حمزة، وهي أو هو في سنتها أو سنته الدراسية الجامعية الثانية، لم يكن اختياراً عبثياً، فعبره يسلط عبد المجيد الضوء على معاناة شباب الجامعات من تغييب، واعتقالات، وخطف، وملاحقات على منشور أو تغريدة، ومصادرة لهواتفهم النقالة، علاوة على رحلات أهاليهم المأساوية في البحث عن الأماكن التي تم إخفاؤهم فيها، ومن بينهم حمزة الذي يترافق تحوّله الجنسي إلى تحوّل سردي على مستوى لغة المخاطب إلى الذكورة، الذي يعتقل دون مبرر لمجرد عبوره في شارع ما ذات مساء مشحون، ليودع في سجن النساء، كون أنه في البطاقة الشخصية لا يزال يحمل اسم “لمياء”، رغم الحصول على قرار محكمة وموافقة “الأزهر” ومن قبلها الأهل بولادة “حمزة” واقعياً وفي الأوراق الرسمية، إلا أنها البيروقراطية أو ربما رفض ما من أحدهم لتمرير الهوية الجديدة حال دون ذلك، ليبقى “حمزة” في سجن النساء، يتأرجح ما بين أكثر من هوّية، وسط غباش النهايات، وانفتاحها على كل الاحتمالات، كما البلاد التي قد تبدو، تأويلاً، تتأرجح هي الأخرى في سجن ما، بانتظار تحوّل آخر، طال أو قصر، قد يعود بالبلاد القهقرى أو ينقلها إلى الأمام ولو قليلاً.
عن موقع جريدة الأيام الفلسطينية
شروط الاستخدام
يشير البند السادس من شروط الاستخدام بأنه لا يحق للمستخدم نسخ المادة الموجودة على الموقع أو إعادة إنتاجها أو نشرها أو إذاعتها أو استغلالها بأي طريقة مهما كانت من دون ذكر الموقع والاشارة الى الموقع كمصدر لهذه المواد بوضوح، وفي حال تم التعديل بالحذف والإضافة والتحليل يجب الإشارة إلى موقع “الأيام” كمرجع للمادة التحليلية، ويستثنى من ذلك أغراض الاستعمال الشخصي غير التجاري. لقراءة المزيد عن شروط الاستخدام.
جريدة الأيام يومية سياسية تصدر عن شركة مؤسسة الأيام للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع.