الإثنين، ٢٤ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٦
جريدة الحياة
كاتيا الطويل
ريتشارد فلاناغان يخسر حربه مع العالم قبل أن يبدأها
«... «ما هو الخطّ، تساءل، الخطّ؟ الخطّ هو شيء يمتدّ من نقطة إلى نقطة أخرى، من الحقيقة إلى الوهم، من الحياة إلى الجحيم.» لا يمكن أن يتحوّل خطٌّ بريء إلى خطّ موتٍ ورعبٍ إلاّ في رواية ريتشارد فلاناغان التي حازت جائزة البوكر العالميّة للرواية العام 2014(Richard Flanagan, THE NARROW ROAD TO THE DEEP NORTH). رائعة أدبيّة صدرت بالعربيّة بعنوان «الدرب الضيّق إلى مجاهل الشمال» (منشورات الجمل، 2016، ترجمة خالد الجبيلي). رواية هزيمة الإنسان أمام الحرب ومنطقها الفتّاك، هزيمة أسرى أستراليّين أمام إصرار إمبراطور يابانيّ دخل حربًا ولا يعلم كيف يخرج منها. والخطّ في هذا السياق ليس سوى سكّة حديد الموت، سكّة قطار جهنّميّة أصرّت الإمبراطوريّة اليابانيّة على بنائها العام 1943 أي في الحرب العالميّة الثانية بين تايلاندا وبورما (جنوب شرقي آسيا) وذلك لتسهيل أمور الجيوش. خطّ طوله 415 كلم (258 ميلاً) كلّف آلاف المساجين والأسرى والعمّال حياتهم. ظروف جهنّميّة قاتلة، عمل متواصل بلا نوم ولا راحة في ما يُعرف بأيّام «السبيدو»، جوع كافر مضنٍ، عري، أمراض، أوبئة، أوساخ تتسلّل وتفتك ببطء، بشراسة بلا رادع. أبطال لن يُتاح لهم أن يذكرهم التاريخ. وحده فلاناغان يتوقّف برهة ليستمع إلى آهاتهم.
وفلاناغان (مولود العام 1961) كاتب أستراليّ الأصل، تحوّل إلى كاتب عالميّ منذ روايته الأولى التي حقّقت نجاحًا باهرًا وتلقّتها الصحافة الأدبيّة العالميّة بالكثير من الحفاوة، وهو يُعتبر اليوم أحد أبرز روائيّي جيله. وروايته هذه، وهي سادسة أعماله الروائيّة، تسرد مشهدًا تاريخيًّا بلغة أدبيّة أنيقة جميلة. وقد يظنّ القارئ أنّ خيار موضوع الرواية جاء في شكل اعتباطيّ، لكنّ الحقيقة هي أنّ هذه الرواية كانت ضربًا من ضروب تحرير الذات. فوالد فلاناغان كان أحد الذين شهدوا جحيم سكّة حديد الموت مع الأسرى الأستراليّين الذين عملوا على بنائها، وفلاناغان إنّما يكتب ليفضح رعب الحرب، ليحفر في ذاكرة المجتمعات البشريّة وجوهًا بعيدة نُسيت ونُسيت معاناتها والقسوة التي تعرّضت لها. لقد تمكّن فلاناغان في روايته هذه من أن يحرّر نفسه من عبء التاريخ، وكأنّه وفّى الوجوه التي كانت تسكنه حقّها. والغريب في المسألة أنّ والد الكاتب توفّي في اليوم نفسه الذي أنهى فيه ابنه الكتابة، وكأنّه صبّ ذكرياته وأفكاره وتاريخه وروحه في هذا الكتاب وعندما تأكّد من أنّ الأسماء المنسيّة أصبحت بأمان ترك نفسه لتستريح في غياهب الموت.
الموت والحبّ
«تبدأ القصّة التي يرويها هذا الكتاب في 15 شباط(فبراير) 1942، [...] وفي عام 1943، أصبحت اليابان التي توسّعت كثيرًا، والتي كانت قليلة المواد، تخسر، وازدادت حاجتها إلى خطّ سكّة حديديّة. [...] كانت الإمبراطوريّة محظوظة بوجود رجال عبيد. مئات آلاف العبيد، من الآسيويّين والأوروبّيّين، كان بينهم اثنان وعشرون ألف أسير حرب أسترالي، [...] سيُرسل تسعة آلاف منهم للعمل في مدّ السكّة الحديديّة هذه. [...] سكّة حديد الموت».
تكمن قوّة هذه الرواية في كونها تجعل قارئها يشعر مع الشخصيّات ويرافقهم. ليست رواية حرب، ولا رواية رعب. ليست رواية أبطال أو أحداث أو تطوّرات أو بدايات ونهايات. هي رواية بشر، رواية وجوه تعبت وتعذّبت وحزنت ويئست ونسيت طعم الحياة. هي قصّة آلاف العبيد الذين خسروا حرّيتهم وحياتهم وحقّهم الأوّل في الطبابة والمبيت والكرامة. فيكتشف القارئ قصصهم قبل وصولهم إلى سكّة حديد الموت، يراقب عذابهم في سنوات الحرب، ثمّ يُكمل معهم مشوارهم نحو الموت. ظروف عيش قاتلة، لا نظافة، لا بيوت، لا طعام، لا أدوية، لا شيء. وحده الموت يسيطر. لا قدرة على العودة إلى الوراء. لا قدرة على الإمساك بالحياة.
ويركّز السرد أكثر ما يركّز على قصّة الطبيب الكولونيل الذي ارتقى على السلّم الاجتماعيّ. دوريغو إيفانز طبيب إنسانيّ حوّلته الظروف إلى بطل، إلى «أخ أكبر» يعتني بالأسرى ويحميهم ويدافع عنهم على قدر المستطاع ثمّ يكتب قصّتهم «لأنّ أسماءهم صارت طيّ النسيان. ولا يوجد أيّ سجل يتحدّث عن أرواحهم التائهة». (ص:35) إيفانز هو الراوي والشخصيّة الأولى والرئيسة، هو العين التي تشاهد بوجع وتروي بوفاء.
لكنّ رواية فلاناغان لا تُصيب بالإحباط الخانق، فالكاتب يتمكّن بمهارة من أن يُدخل المرأة في هذا الجوّ السوداويّ المعتم. فمن أصل خمسة فصول كبيرة، يخصّص فلاناغان على الأقلّ فصلاً لآيمي، زوجة عمّ دوريغو وعشيقته الذي يتمزّق بينها وبين التي اختار أن تصير زوجته. قصّة حبّ رقيق جميل يختال على رمال شاطئ ذهبيّ هادئ. وصف عذب لآيمي، لشخصيّتها، لأفكارها، لمشاعرها، لوجودها الذي يكسر الهيمنة السوداء للموت. ينجح الكاتب بدهاء في لعبته الروائيّة، فهو يمسك بيد قارئه ويقوده تارةً إلى جحيم سكّة الحديد وطورًا إلى شمس الحبّ الدافئة.
صحيح أنّ قصّة الحبّ مؤطَّرة بالموت. صحيح أنّ القارئ يدرك منذ البداية أنّ هذه القصّة محكوم عليها بالعُقم والاضمحلال إنّما هذا هو بالتحديد ما يجعلها فريدة متألّقة على صفحات قصص الأسرى. قصّة الحبّ التي تجمع آيمي بدوريغو تستمدّ وهجها من التلاشي الذي تسير إليه، من الحزن الذي يغلّفها، من الصمت الذي ستذوي فيه.
الحرب تتنتصر دومًا
أربعمئة صفحة من الوصف الحالك تارةً والعذب طورًا، فصول خمسة مشبّعة بالشعر والأغاني الشعبيّة الدافئة والمغرقة في الحزن. فصول تنتقل من قصّة إلى أخرى، من وجه إلى آخر، أحيانًا يجد القارئ صعوبة في تتبّع حبال السرد إنّما عمومًا تتكامل القصص ويكتمل المشهد مع وفاة الشخصيّات الواحدة تلو الأخرى وانتهاء الحياة رويدًا رويدًا. وقد تمكّن المعرّب خالد الجبيلي من نقل روح الرواية، فهي وإن لم تخلُ من الأخطاء التي كان يمكن تلافيها، تجلّت عملاً جميلاً احتاج من دون شكّ إلى جهد جبّار.
رواية فلاناغان مشوّقة، مؤلمة، إنسانيّة. تروي البشر بأبشع لحظات حياتهم وأقرب حالاتهم إلى البدائيّة والهمجيّة. رواية متينة متماسكة، ترافق شخصيّاتها وتجعل القارئ متعلّقًا بها، يخشى عليها من الموت إنّما في الوقت نفسه يريدها أن تموت لتنجو من الجحيم القاتل الذي تعيش فيه.
إنّ للحرب منطقها الخاصّ. للقادة قسوتهم ووحشيّتهم التي تفوق قسوة الحياة ووحشيّتها في معظم الأحيان. «الدرب الضيّق إلى مجاهل الشمال» رواية الحزن والعذاب والألم، رواية الوفاء للوجوه التي تقاتل في الخفاء وتبني بصمت وتشيّد العالم بينما هي تشعر بالرعب. رواية الجنود والعبيد والأسرى الذين تضمحلّ أسماؤهم وينساهم التاريخ ولا أحد يتوقّف ليتكلّم عنهم. رواية فلاناغان رواية الحياة القاسية التي لا تتوقّف ولا تساير: «هكذا تجري الأمور ولن تتوقّف عن كونها كذلك. يمكنك أن تدخل في حرب مع العالم، لكنّ العالم سيربح دائمًا».
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.
جريدة العرب
نُشر في 13-11-2016، العدد : 10454، ص(14)
الصفحة : ثقافة
القاهرة - عبدالله مكسور
فلاناغان وروايته “الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال” بالعربية
الكاتب الأسترالي ريتشارد فلاناغان استقى عنوان روايته من قصيدة ’هايكو’ للشاعر الياباني الشهير ماتسو باشو، لكنه في المتن لجأ إلى ذاكرة حيَّة ورِثَها عن أبيه الذي حمَل الرقم ’335’.
قبل الشروع بقراءة رواية “الدرب الضيِّق إلى مجاهل الشمال”، لا بدَّ من البحث في تاريخ الحرب العالمية الثانية “1939- 1945″، خصوصاً فيما يتعلق بالمشاركة العسكرية الأسترالية في مناطق مثل سوريا ولبنان وفلسطين، وأخرى في الشرق الأقصى الآسيوي في سنغافورة واليابان.
ذلك البحث الأولى سيمنح القارئ أرضية صلبة تمَكِّنه من فهم طبيعة وعمق التواجد الأسترالي وشبكة التحالفات التي بناها ذلك الجيش الذي وقع جنوده أسرى لدى الجيش الإمبراطوري الياباني عقِب سقوط سنغافورة، فاستخدمهم الجنرالات إلى جانب العبيد في إنشاء سكة الموت.
يطوف الكاتب الأسترالي ريتشارد فلاناغان، المولود في العام 1961، عبر 477 صفحة في روايته “الدرب الضيِّق إلى مجاهل الشمال” الفائزة بجائزة “المان بوكر العالمية”، والصادرة بترجمة خالد الجبيلي عن دار الجمل منذ أسابيع، في عوالم غريبة وغرائبية بذات الوقت، فتبدأ الرواية تاريخياً في 15 فبراير من العام 1943، بطلها هو دوريغو إيفانز، الطبيب الجراح الذي ترمي به الأقدار شاهداً على المجزرة الصامتة التي كانت تُنَفَّذُ على طول 414 كيلومترا، لتمتد جغرافياً من شمالي بانكوك حتى بورما أو ما يعرف اليوم بميانمار.
ريتشارد فلاناغان استقى عنوان روايته من قصيدة “هايكو” للشاعر الياباني الشهير ماتسو باشو، لكنه في المتن لجأ إلى ذاكرة حيَّة ورِثَها عن أبيه الذي حمَل الرقم “335” في فترة اعتقاله لدى القوات اليابانية بعد سقوط سنغافورة، رحلة عذاب ومعاناة قبل أن يولد الكاتب بما يقارب العقدين من الزمان، كان أبوه حينها شاباً مقاتلاً في الجندية الأسترالية التي طافت بلاد الشام في حربها ضد حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان.
في هذه الرواية التي سكنَت فلاناغان من مراحل طفولته الأولى، كما يبدو واضحاً في تصريحاته، قد أخذت منه أكثر من 12 سنة في كتابتها، حيث اعتزل مراراً على جزيرة في قرية نائية بالقرب من مسقط رأسه في مدينة “تسمانيا” بأستراليا، جالساً في كوخ منقطع عن العالم ليكتب فقط، يقول إنه أنجز خمس نُسخٍ لا تشبه بعضها من هذا النص، وهذا واضح في طريقة السرد التي انتهجها الكاتب، فالعمل ينتقل على العديد من المستويات، يميل في جانب منها إلى التقريرية بينما تحلّ الصِيَغ والتراكيب الوصفية على مساحات واسعة منها.
في الفصول الأولى يستهل الكاتب الحديث عن الجيش الأسترالي وتواجده في سوريا، فالمدن السورية تظهر دون أسماء واضحة سوى دمشق العاصمة، يصف القتلى من الجنود والمدنيين، الدمار الذي حلَّ بالقرى والمدن، الانتقالات العسكرية على رقعة الشطرنج، تصرُّفات الجنود التي تميل إلى الارتفاع عن مستوى الموت في لحظة اكتشاف ماهيَّتِه، إنها حالة التصالح مع ثيمة الموت والحرب في آنٍ معاً.
ينتقل الكاتب بين دوائر الحكاية مروراً من ملبورن وسيدني إلى دمشق والقاهرة وصولاً إلى شمالِ بانكوك في تايلاند، فنجد العديد من التفاصيل التي يوردها الروائي نهلاً من ذاكرتِه التي أراد في هذا النص كشف حساب متأخِّر معها.
ثيمة الرواية
تلك العتبات كلها جاءت للكشف عن ثيمة الرواية، التي تأتي فضاءاتها نتيجة القرار الإمبراطوري الياباني بإنشاء خط حديدي يربط بانكوك مع بورما، كان ذلك أوائل العام 1943 حيث وصل الأب أسيراً إلى سيام، تزامن وصول الأسرى مع إحساس عارم بالإحباط في صفوف اليابانيين المدنيين في ظل قلة موارد البلاد وعدم قدرة الدولة على استرداد البحار من القبضة العسكرية الأميركية، ذلك الإحباط كان يقابله إيمان عميق لدى جنود الإمبراطور بأن النصر حليفهم لأنهم يملكون روح النصر، روح الإمبراطور التي لا تُقهَر، لذلك غامر الجنرالات بقرار الربط البري بين اليابان وبورما لتزويد الفيالق العسكرية بالعتاد والرجال في سبيل خوض المعركة للسيطرة على الهند، الطريق البري يفرض قوانينه والجغرافيا لها مزاجيَّتُها التي يحاول اليابانيون كسرها بقوة العبيد من الآسيويين والأوربيين وأسرى الحرب من الجيش الأسترالي الذين فاق عددهم 22 ألف جندي بعد سقوط سنغافورة.
كان العالم مقسوما عند البطل إلى قسمين، مَن قضى في بناء الخط الحديدي، والعالم الذي يعيش خارج الخط، فرقة الناجين من البناء لم تكن مدرجة في خيالاته أبداً، لذلك نراه يُغرق في وصف كلمة الخط بأنها تنطلق من نقطة إلى نقطة، خط طول بلا عرض، مقبرة مفتوحة لعظام الراحلين، في ظروف استثنائية خارج نطاق التخيُّل يشتغل الأسرى إلى جانب العبيد في حربٍ لا تمثِّل شيئاً واحداً بل هي أشياء كثيرة تختلط مع بعضها البعض لتغيِّر مصائر الجميع، المنتصرين منهم والمهزومين.
الحب والحرب
من الواضح أن الكاتب واصلٌ إلى حد الإشباع الكلّي من تفاصيل تلك المرحلة، فنراه يسرد بجرح مفتوح عن وجبات الطعام منتهية الصلاحية، والأمراض المعدية التي بدأت تتفشَّى بين الجنود والعبيد، في صورة سيطرة العدم على كل شيء، فيطغى الموت على الأحداث رغم أنَّه لا يشكِّل اللحظات الأكثر قسوة في المعتقل أو جولات الحرب.
السرد الروائي يأتي على لسان الطبيب الجراح “دوريغو إيفانز″، الذي يقرر بعد سنوات طويلة من استقراره بمدينة أديلالد الساحلية في أستراليا، كتابة مذكّراته عن سكة الموت اليابانية، كونه الشاهد الناجي من المجزرة التي امتدت لسنوات، فيلجأ هنا إلى استجرار التجارب المُروِّعة التي عاشها مع آخرين في ثنائيات تبدو مفهومة في سياق النص الذي يناقش في ثناياه العديد من القضايا، أبرزها الجلاد والضحية والعلاقة بينهما، الجنود كضحية قرار الكبار في الحرب، الصفقات التي تحدث وتقلب موازين القوى في اللحظات العصيبة من الحرب.
كان لا بد من قصة حب في ثنايا الدوائر السردية ليكون صراع الشخصيات أخفَّ وطأة عند المتلقّي، لكن هنا تكمن مفاجأة من عيار آخر لا تقلّ عن قسوة الحرب، البطل يتورَّط بقصة حب عنيفة مع زوجة عمه “إيمي” التي تصغره بسنوات، يلجأ إلى الحب المحرَّم في ظلّ الحرب العبثية التي تسيطر على العالم وكأنَّه يعتبر نفسه جزءاً من هذا التلوُّث الذي يسيطر على العالم ككل.
ربما السنوات الطويلة التي مرَّت بها كتابة فصول هذه الرواية، فرضَت على الكاتب علاقة خاصة مع شخصياتِه التي يعرف بعضها حُكماً بسبب كتابته عن سيرة أبيه، هذه المعرفة جعلَت الفصل الأخير يلجأ إلى الخراب الكلّي في النفس البشرية، الخراب الذي يفرض نفسه بصورة الكهولة التي يصل إليها البطل وتلقِّيه خبر وفاة عمه وزوجته وثلاثة آخرين نتيجة حريق كبير شبَّ في فندق الملك، فلا يجد الطبيب المتقاعد مكاناً يلوذ إليه سوى الطبيعة التي تغرَقُ بمطر غزير يمشي في ظلِّه ديغور ليلاً فتتعثَّر عيناه بزهرة نبتت في غير مكان ووقت ظهورها الطبيعي، ينحني قليلاً ثم يمشي إلى اللامكان.
لا بد من القول أخيراً إن المترجم كان أميناً على النصّ من حيث الترجمة، هذا جاء واضحاً في آلية نقل الرواية الأصلية لمشاهد عديدة كان بالإمكان صياغتها عربياً بطريقة أفضل، أو بإعادة تفكيك مقاطع كاملة وتركيبها من جديد، وهذا ما يدعمه خلوّ الرواية تقريباً من أيّ مفردات لا معنى لها بالعربية حيث غابت الهوامش كليَّاً عن المتن.
العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977
صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة
يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر