الحياة الاجتماعية في موسوعة الأغاني للأصفهاني، شيرين العدوي (مصر)، دراسة تاريخية نقدية

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت، ٢٤ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٥
جريدة الحياة
عمرو عبدالعزيز منير


«الأغاني» من مصادر المعرفة بالتاريخ العربي والإسلامي


يعد كتاب «الحياة الاجتماعية في موسوعة الأغاني للأصفهاني، دراسة تاريخية نقدية» للباحثة الشابة شيرين العدوي، والصادر أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة بمثابة دعوة للمؤرخين والباحثين الذين يصرون على تقديم التاريخ في القوالب القديمة الجامدة، لإدراك أنهم يطرحون نوعاً من «البضاعة» في سوق لا يريدها، وعليهم أن يساهموا في تقديم «بضاعتهم» في الشكل الذي يناسب العصر، وبالأسلوب الذي يفضله «المستهلك»، مع الاحتفاظ بأصول البحث العلمي قاعدة لكل هذه المحاولات ، وهو ما نجحت فيه الباحثة العدوي بطلاقة، فقدمت قراءة جديدة لكتاب «الأغاني» تعد إضافة حقيقية للتاريخ الاجتماعي والثقافي، بكل ما تتضمنه الدراسة من إيحاء ودلالة وصدق لجزئيات الواقع الحياتي المجتمعي العربي في ظل اغتراب العلم التاريخي وتجاهله وتهميشه بعض الشرائح والجماعات الشعبية. وتقف موسوعة «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني على رأس مصادر تراثنا العربي التي تقدم للمؤرخين صوراً أكثر مصداقية عما حوته الكتابات ذات الصبغة الرسمية، ابتداء من العصر الجاهلي حتى منتصف القرن الرابع الهجري، لكن الشهرة الأدبية لهذه الموسوعة طغت على ما سواها، فأصبحت في أذهان الكثيرين أحد مصادر الأدب الأساسية في تراثنا العربي والإسلامي.

كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني من كتب التراث العربي المهمة، وهو كتاب تحتفي به المكتبة العربية أيما احتفاء، ولعل هذا الاحتفاء يرجع إلى ضياع كثير من الكتب التراثية التي كان لكتاب «الأغاني» فضل النقل عنها أو الرواية عن مؤلفيها، فكان الكتاب حافظاً لتراث أمة.

وإذا كان الكتاب وضع - في الأصل – على أساس المائة صوت المختارة التي كان هارون الرشيد قد أمر إبراهيم الموصلي بانتخابها مع إسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء ثم راجعها إسحاق بن إبراهيم وهذبها من بعدهم، فقد عني أبو الفرج بألحان هذه الأصوات وبأصحابها، فأفرد لكل صوت قائله، وعني بسيرة حياته نسباً ونشأة وعصراً، معرِّجاً في أحايين كثيرة من عصر المغني إلى عصر الشاعر، وفي بعض الأحيان يمتد في استطراده إلى أكثر من عصر وأكثر من بيئة.

وقد قصد أبو الفرج إلى ذلك قصداً، حتى لا يمل قارئه، وإن كان قد أتعب باحثيه بصنيعه هذا في تتبع تلك العصور، ومحاولة الفصل بينها. وخلال هذا التَّطْوَاف سجل أبو الفرج كثيراً من مظاهر الحياة الاجتماعية لتلك العصور، مما يبرز قيمة الكتاب من الناحية الاجتماعية.

والواقع أن كثيراً من الباحثين والدارسين قد نوّهوا بقيمة الكتاب من حيث ما يحويه من «أغان»، وهو ما ينص عليه عنوانه «الأغاني»، ومن حيث ما يحويه من «أشعار» و «أخبار» تضعه ضمن المصادر الأصلية لأي دراسة أدبية، تضاف إلى هذا الإشادة بقيمته «التاريخية» و «الاجتماعية»، التي تتجلى مثلاً في قول ابن خلدون: «... ولعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ وسائر الأحوال، ولا يُعدَل به كتاب في ما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنّى له به».

ويذكر بعض الباحثين أن قيمة هذا الكتاب تعود إلى ما يشتمل عليه من «المعلومات الأدبية والتاريخية والجغرافية والفنية، وهذا ما يجعل الكتاب غزيرَ المادة لتاريخ الأدب العربي ووثيقَها، في الجاهلية والقرون الإسلامية الثلاثة الأولى». من هنا، فإنه «كتاب لا يَعْدله كتاب آخر في أحوال العرب الاجتماعية والأدبية». وقد تصدت لهذه المهمة الباحثة العدوي، فعكفت على هذه الموسوعة بمجلداتها التي تجاوزت العشرين، تغوص في أعماقها تمحيصاً وتدقيقاً، بحثاً وراء الجماعات الشعبية وطريقة حياتها وطقوسها في أفراحها وأتراحها، لإلقاء المزيد من الضوء على ما في «الأغاني» من صور الحياة الاجتماعية لتمتعنا متعة فنية لا حدود لها، وكان أبرز بوادرها ماثلاً في أن الباحثة كاتبة أديبة بالدرجة الأولى قبل أن تكون باحثة في علم التاريخ، ولديها حس رهيف بإبداع القريحة الشعبية التي أنتجت هاتيك الروائع الفولكلورية والأدبية الغنية، ولديها ذائقة فنية عالية أضافت إلى عقليتها البحثية العلمية الدقيقة رصيداً هائلاً من القيمة الوجدانية، فحققت درجة من التوازن بين لغة العلم ولغة المجاز الأدبي، فإذا المجاز يخدم العلم، وإذا العلم يستنير بالمجاز.

التوازن المدهش في دقته ذاته، أحدثته الباحثة في منهجها العلمي الذي كتبت به هذه الدراسة التاريخية في ثلاثة أبواب، يصلح كل واحد منها أن يكون موضوعاً لكتاب علمي قائم بذاته، فالحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي كما تصوِّرها موسوعة «الأغاني» تصلح موضوعاً لكتاب جديد مستقل، وكذلك الحياة الاجتماعية في العصر الإسلامي حتى نهاية العصر الأموي، ثم الحياة الاجتماعية في العصر العباسي حتى وفاة الأصفهاني قرابة منتصف القرن الرابع الهجري، ولعل هذا يكشف عن مدى الجهد الذي بذلته الكاتبة في سبيل إنجاز عملها الذي يؤكد «الطابع الشعبي والفني» لكتاب الأغاني، الذي يرصد تفاصيل حياة الطبقات الدنيا والمتوسطة، مثل: أدوات الزينة، وأنواع الطعام والحلوى، واستحداث أزياء جديدة، وشيوع مجالس الغناء والطرب... وغيرها، بل كان حاضر الذهن في تنبهه إلى رصد بدايات هذه المستحدثات الصغيرة ذات العلائق الاجتماعية، إذ كثيراً ما كان ينبه قرّاءه بمقولة: «.. أولُ مَن ..»، وهذا دليل قاطع على وعيه بالتطور، فضلاً عن أنه يسَّرَ للباحثين تعقب هذه المستحدثات الصغيرة، ووضَعَها في دوافع وجودها، وملابسات استمرارها، وأسباب التوسع فيها، ثم استقرارها أو اضمحلالها، بما يشكل في النهاية بصيرة عارفة بقانون العادات والتقاليد ومصادر التأثير والتأثر وأسبابه منذ أن تخلى علم التاريخ عن مكانه التقليدي في قصور الحكام والأباطرة والسلاطين والملوك والخلفاء، ونزل يسعى وراء الحقيقة في الشوارع والطرقات والأسواق، بين جموع الفلاحين والطبقات الشعبية والفئات المهمشة والمغمورين وجماعات المثقفين والفنانين والشعراء، وبدأ يدرس أحوال صنّاع التاريخ الحقيقيين، في المصانع والحقول والمدارس والجامعات وأماكن العبادة ونوادي الأدب وقاعات الفنون... وكانت النتيجة أن تلك الفروع الكثيرة التي تفرع إليها مسار الدراسات التاريخية، وهذا التطور الذي ألمَّ بعلم التاريخ - وكان مثالاً في ذهن الكاتبة - هي التي جعلت للفن، لا سيما «الأغاني» بوصفه من مصادر المعرفة التاريخية، قيمةً كبيرة لدى المؤرخ الذي يعكف على إعادة بناء الماضي متسلحاً بمنهجه الاستردادي.

فإذا كان مفهوم « التاريخ» قد اتسع ليشمل مسيرة البشر الحضارية، فإن مصادر المؤرخ التي تساعده على إعادة تصوير الماضي تنوعت أيضاً، لتشمل ما أنجزه الإنسان كافة، إضافة إلى ما فكر فيه أو تطلع إليه بأمل منذ بدأ سعيه على وجه الأرض من أشكال الإبداع الفني المتنوعة «من فنون القول، شعراً ورواية وقصة ومسرحاً... وما إلى ذلك، إلى فنون الشكل، من عمارة ونحت وتصوير... وغيرها»، وبات المؤرخ يجد مادة تاريخية خصبة تساعده على أن يكشف عن روح العصر ووجدانه، وتساعده على الاقتراب أكثر من هدفه، الذي هو إعادة بناء صورة الماضي.

تضمن دراسة الباحثة شيرين العدوي، على رغم تخصصها الدقيق، المتعة الفنية حتى لغير المتخصصين.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)