الحلل السندسية، شكيب إرسلان (لبنان)، تاريخ

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة، ٢ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٥
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«الحلل السندسية» لشكيب إرسلان: تجوال وحسرة عربيّان في الأندلس


«انها الأندلس الجديدة»... هكذا وصف مثقف عربي في الاربعينات فلسطين، مشيراً الى ان ضياعها يماثل ضياع الأندلس... وهو تعبير ظل سائداً ولا يزال حتى اليوم، وبالطبع من دون مراعاة الفوارق الكثيرة بين الحالين، وخصوصاً الفارق بين حال ارض عربية خالصة تواطأ كثر لتحويلها الى دولة عبرية، ما اسفر عن واحدة من اكبر المآسي الانسانية في تاريخ القرن العشرين، وحال ارض لم تكن لها علاقة بالعرب والمسلمين، احتلها هؤلاء عنوة عن اهلها - ليسمّوا الاحتلال فتحاً - ثم خرجوا منها، تاركين لها كما قد يترك بعض الاستعمار الحديث في كل مكان يحتله، آثاراً حضارية واجتماعية تنم هنا عن عظمة الحضارة العربية الاسلامية. طبعاً لسنا نريد من هذا الكلام هنا المقارنة بين شتى انواع الاستعمار الاستيطاني. أو بين الاحتلال والفتح، أو حتى بين مناطق عربية ازدادت تعريباً مع الفتح الاسلامي واتخذت وجهاً عربياً خالصاً حتى حين لم تعتنق الإسلام، ومناطق اخرى لا تمت الى العرب بصلة. هنا الحديث عن واحد من الكتب الكثيرة التي وضعها مفكرون عرب، ماضياً وحاضراً، عن الأندلس، للترحّم حيناً، للافتخار حيناً، للدرس والعبرة حيناً، وللنواح في معظم الاحيان. والكتاب الذي نحن في صدده هنا، هو واحد من ابرز هذه الكتب، خصوصاً انه يكاد يجمع العناصر الاربعة معاً، لينتهي به الأمر كتاباً في التاريخ، وحضّاً على بناء الحاضر، استخلاصاً لدروس الماضي.

الكتاب الذي نعنيه هنا هو «الملل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية» للمفكر العربي النهضوي الكبير الأمير شكيب ارسلان. ويكاد هذا الكتاب ان يكون علمياً على النمط الموضوعي في أنحاء كثيرة منه، حتى وإن كان، مؤلفه، يحدد منذ العنوان الفرعي للكتاب، ان الأندلس «فردوس عربي مفقود».

منذ البداية يخبرنا الأمير شكيب ارسلان من دون تردد كيف انه بعد زوال «الفتح العربي/ الاسلامي للأندلس»، اندثرت تلك الارض ليعود كل هذا «كهشيم المحتظر، كأنه لم يكن بالأمس، ولم يبق منه إلا آثار صوامت، وأخبار تتناقلها الكتب، كأنه لم يعمر الأندلس من هذه الأمة عامر، ولا سمر فيها سامر (...) وبقيت الامة العربية تنوح على هذا الفردوس المفقود الذي هبط منه اهله بأعمالهم، نحواً من اربعمئة عام، نواح الثاكل لولده لا يريد ان ينسى مصابه، ولا يفتأ يذكر خصاله». «ولما كنت من جملة هذه الامة الباكية على ذلك الفردوس الضائع، يقول أرسلان مستطرداً، أولعت منذ صباي بقراءة تاريخ الأندلس والتنقيب عن كل ما يتعلق بالعرب في تلك الجزيرة...». على هذا النحو، اذاً، يحدد لنا ارسلان منذ البداية دافع كتابته عن الأندلس، وهي كتابة تفصل على أي حال اكثر من رحلة وتجوال قام بهما المؤلف في تلك الديار.

من المنطقي هنا ان ليس في وسعنا ان نتوقع من شخصية سياسية ومن مفكر مناضل من طينة شكيب ارسلان ان يقدم في كتابه هذا دراسة علمية مفصلة لتاريخ الأندلس - وتلك، على أي حال، مهمة، سيقوم بها بكل حسّ علمي وفي اقتراب لافت من الموضوعية، باحث ومفكر عربي آخر هو المصري محمد عبدالله عنان في سفره الذي بلغ ألوفاً عدة من الصفحات، التي قال فيها اشياء كثيرة من المعارف والتحليلات من حول الأندلس وتاريخها، بالتوازن مع الإنجاز الضخم حول الموضوع نفسه للمستشرق ليفي بروفنسال -. اما أرسلان فكتابه اشبه بأن يكون صرخة، وجردة حساب في الوقت نفسه. ومن هنا قد يكون من المنطقي القول انه كتاب يُقرأ بمتعة... وهي متعة تنسحب حتى على كل تلك الصفحات التي عبّرت عن عواطف جياشة تنخر فؤاد راصد محب لتاريخ أمته و «فتوحاتها»، قارئ نهم ومتحمّس تنسيه عواطفه ان الفتوحات قد تحمل احياناً اسماً آخر هو «احتلال». وارسلان يقول لنا، على أي حال، ان معظم المادة العلمية والتاريخية في كتابه، انما استقاها من عشرات الكتب، العربية وغير العربية. والى هذا يفيدنا ارسلان، الذي انجز كتابه هذا في ثلاثينات القرن العشرين، ان الاصل في وضعه الكتاب كان مقدمة وضعها لترجمة قام بها، قبل ذلك بأربعين عاماً، لكتاب شاتوبريان «آخر ملوك بني سراج»... ذيّله حين نشر، بتاريخ للأندلس.

يتألف «الحلل السندسية» من ثلاثة اجزاء، يقول لنا المؤلف انه وازن فيها بين التاريخ والجغرافيا، على اعتبار انهما معاً، يكوّنان صورة ذلك «الفردوس المفقود» وتاريخه. وهو في الجزء الاول يبدأ بمدّنا بمعلومات متشعبة وتكاد تكون وافية على رغم الصبغة العاطفية التي تهيمن على الكثير من فقراتها، حول اسم الجزيرة الايبيرية واسم الأندلس، لينقل بعد ذلك عن عدد من المؤرخين العرب، تفاصيل الأوضاع التي كانت عليها الأندلس، قبل دخول المسلمين. ما يجعل ثلث الكتاب يبدو على شكل «انطولوجيا» لكتابات ابن حوقل والإدريسي والمقري وابن الخطيب والمسعودي والحنبلي والقلقشندي وغيرهم. وبعد ان ينتهي ارسلان من هذا ينتقل الى العمران والفنون والتقسيمات الجغرافية، متحوّلاً الى الحديث عن مناطق الأندلس منطقة منطقة، متنقلاً من الحديث عن مدينة الى الحديث عن اخرى، في شكل يختلط فيه ما يبدو انه مشاهدات شخصية، مع ما هو نقل واقتباس من مؤلفين آخرين، مع حرص طاغ على التوقف بوفرة عند النواحي الإيجابية. وهو يتابع هذا السياق نفسه في الجزء الثاني، الذي يبدأ في شكل يذكّر بطريقة ابن بطوطة وإبن جبير في الحديث عن البلدان التي يزورانها، فيحدثنا عن «من نبغ في طليطلة من الحكماء والفقهاء والادباء» ثم ينتقل الى المناطق المجاورة متحدثاً عن اسمها وبعض تاريخها، متوقفاً دائماً، في كل منطقة عند ابرز النابغين المنتسبين اليها. واذ يصل في هذا الجزء الى الفصل الخامس من كتابه، يحدثنا باستفاضة عن «مشيخة المرابطين، وعن الغزاة من الاسلام والنصرانية» غير ناس ان يدمج في السرد النثري الذي يكتبه، مئات الأبيات من الأشعار التي تؤيد كلامه وتصور الأحوال الاجتماعية في الأندلس.

في الجزء الثالث من الكتاب، وهو صدر بعد عامين من صدور الجزءين الاولين، يتابع ارسلان تنقله بين المدن واعداً بين الحين والآخر بأجزاء اخرى تتابع ذلك التجوال الشيّق... ولسنا ندري ما اذا كان الأمير الكاتب قد واصل كتابة حلله السندسية هذه، بعد ذلك الجزء، مع انه كان في مقدمته وعد بأن تليه اجزاء اخرى. المهم ان هذا الجزء يحدثنا بإسهاب عن بقية المناطق الأندلسية، خاتماً صفحاته بالكثير من الأشعار التي ترثي الأندلس التي، وفق ابن خاتمة، «اضحت بأيدي الكافرين، رهينة/ وقد هتكت بالرغم منها ستورها». ومن هذه الأشعار، قصيدة معاصرة، لزمن انتهاء ارسلان من تحرير هذا الجزء كتبها الوليد بن طعمة («من أدباء اخواننا المسيحيين اللبنانيين» كما يقول)، فقال ارسلان انه احب «تخليدها في هذا الكتاب لمكانها من النخوة الادبية والنزعة العربية»، وختامها: «اوصيك خيراً بأشجار مباركة/ لأنها كلها من غرس ايدينا - كنا الملوك وكان الكون مملكة/ فكيف بتنا المماليك المساكينا - وفي رقاب العدى انغلت صوارمنا/ واليوم قد نزعوا منا السكاكينا».

عاش الأمير شكيب ارسلان، ابن الجبل اللبناني والمعتبر واحداً من كبار المفكرين من دعاة الوحدة الاسلامية، ثم الوحدة العربية، بين اواخر العام 1869 وأواخر العام 1946، متنقلاً بين شتى المناطق العربية والاسلامية مناضلاً، بالفكر والعمل السياسي، لنصرة افكاره هو الذي «كان مترهباً في خدمة الثقافة العربية» و «مؤمناً بالوحدة العربية» «الآتية لا ريب فيها» وفق رأيه، خصوصاً ان «العرب الذين في العالم اليوم لا يقدر ان يبتلعهم احد، والمستقبل لهم». ولقد كان لدى الأمير، خلال سنوات نضاله وحياته، ما كفاه من الوقت لكي يكتب عدداً كبيراً من الدراسات والكتب التي جعلته يلقب، من اهل زمانه بـ «أمير البيان». ومن ابرز هذه الكتب، الى «الحلل السندسية»: «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم» و«الارتسامات اللطاف» و«تاريخ غزوات العرب» و«عروة الاتحاد» و«حاضر العالم الاسلامي»... وغير ذلك.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)