أدب عالمي - ترجمة

التحفة لإميل زولا ... فنّ مرفوض في باريس L’Œuvre, Émile Zola (1840-1902), France

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الثلاثاء ٢ أبريل/نيسان ٢٠١٣
جريدة الحياة
هيثم حسين


تقارب رواية إميل زولا «التحفة» (ترجمة الحسيني معدي، فردوس، القاهرة 2013) صراع الفنّان في حياته مع واقعه، وجوانب من الاغتراب الذي يعانيه حين يقدّم أعمالاً مختلفة، ويُقابَل برفض مَن يحاربونه ويسعون دوماً لدفعه إلى هاوية اليأس المدمّر.

يحكي زولا سيرة رسّام غريب الأطوار، يعيش التناقض بين حياته وفنّه، بين ما يشتهيه وما يحاك ضدّه، بين افتراضه وتصوّره للفنّ، وفرْض الآخرين ورفضهم لتصوّراته. يقدّم شخصيّة الرسّام كلود الذي يلتقي منتصف الليل بفتاة وحيدة، عرض عليها المساعدة وإمكانيّة إيوائها، لكنّ الفتاة تردّدت بداية، ثمّ رضخت للأمر الواقع، ولا سيّما أنّ المطر أغرقها، وأنّها خافت العتمة والبرد، رافقته إلى مرسمه، وهناك رقدت على فراشه، في حين أنّه نام بعيداً منها، وفي الصباح اكتشف جمالها المذهل حين كانت أشعّة الشمس تتساقط عليها، فبادر إلى رسمها، ولكنّها ذعرت حين اكتشفته يراقبها ويرسمها. تحفّظت عن ذلك، وبعد توسّله إليها وافقت على إكماله رسم لوحته، وهي تغطّي جسدها، ويستكمل هو رسم الرأس وحركة الكتفين.

خرجت الفتاة كريستين محرجة من مرسم كلود إلى بيت المرأة الكفيفة التي جاءت لتعمل كقارئة لها، شكرته على حسن استقباله وإنقاذه إياها، ولم تعده بالزيارة، وكان ذلك ما أثّر فيه عميقاً، لأنّه وجد فيها النموذج الأمثل للوحاته، لما تتمتّع به من عذريّة ونضارة ونقاء وشفافيّة، أضفت عليها لعبة الضوء والظلّ ألقاً متفرّداً، بحيث شعر بأنّها امرأة مخلوقة للفنّ لا للحياة.

بعد مدّة تعود كريستين لزيارته، ثمّ تتكرّر زياراتها له، يتعلّقان ببعضهما بعضاً، تصل علاقتهما إلى الزواج، يختاران السكن في كوخ في الريف، وهناك يعيشان أيّاماً مفعمة بالحبّ والسعادة، ويخمّن كلود أنّه على أعتاب تحقيق مشروعه الفنّيّ المتميّز الذي سيكون أيقونة فنّيّة وأسطورة معجزة، وذلك لأنّ أدواته الفنّيّة والحياتيّة تكاملت بطريقة تحضّه على الإبداع والتفرّد. لكن سلسلة المصاعب تبدأ، حين تكتشف كريستين حملها، فيصبح العاشقان في مواجهة الحياة الحقيقيّة بعيداً من روعة الفنّ والانجذاب لبهجة المختلف، ويعاني كلود مزاجاً سيّئاً بعد ذلك، يعود إليه القلق والاضطراب بين الحين والآخر، يعودان إلى باريس بعد قضاء مدّة في الريف، يشعر كلود بأنّ روحه عادت إليه بعودته إلى باريس التي كانت تضجّ بالفنون والآداب والحرّيّات، كما كانت مرتعاً للفساد والمحسوبيّات، تشتمل على كلّ شيء وترضي الجميع بتنوّعها.

تؤمن كريستين بفرَادة كلود، تؤمن بقدرته على تحقيق أعظم الإنجازات الفنّيّة، تسانده في فنّه وحياته، تضحّي بكلّ شيء من أجله، تهمل ولدها في سبيل إرضاء نزوات زوجها وتغيّبه وانغماسه في بحثه عن تحقيق أسطورته الفنيّة، تواسيه حين تقابَل أعماله بالرفض من المشاركة في المعرض الأهمّ في باريس. تظلّ تقنعه بوجوب الاستمرار، وتهدّئ ثوراته واضطراباته، تكابر على جراحها وإهماله لها ولابنه في سبيل فنّه، وتنتظر أن يحقّق ذاته الفنّيّة، لكنّه يظلّ مقيّداً برؤى التقليديّين القائمين على مركز الفنون، بحيث إنّ عمله المختلف ولوحاته المبدعة تغدو مثار ضحك واستهجان واستغراب، فيظلّ غريباً مَقصيّاً مهمّشاً، يعيش انكساراته المتتالية، لكنّه يقاوم غرقه في أوحال الهزيمة. يجدّد طاقاته وعمله ويؤمن بتميّزه، ولا يثنيه الرفض المتعاقب لأعماله، ولا عرضها في صالة المرفوضات، التي يجد فيها براعة الفنّ وبؤس الواقع.

يصوّر زولا عوالم الفنّانين والرسّامين، وصراع الطبقات والذهنيّات في باريس التي كانت تتهيّأ لدخول الألفيّة الجديدة، وكيف أنّها كانت تنزع حللها الكلاسيكيّة لتتعرّى قبل أن تنتقل إلى ارتداء حللها المعاصرة. يصف بطله كلود وهو يحرص على رسم صور النساء العاريات، ويرسم التناقض بين الاحتشام والتعرّي، ثمّ ينتقل إلى رسم قلب باريس النابض، يرسم الحركة الدائبة في المدينة، وتألّقها المتجدّد، كأنّها امرأته النموذجيّة التي لا يملّ من اكتشافها ورسمها كأجمل لوحة منشودة. وعلى رغم ما كان يلقاه كلود من عنت وجحود ظلّ مؤمناً بمذهب الرسم من الطبيعة الذي سخر منه عمالقة عصره، وكان متمرّداً على التعريفات الجاهزة للفنّ بأنّه الجمال أو الخير فقط. يعتمد أسلوباً جديداً مبتكراً في الرسم، يستخدم الألوان الصارخة ويركّز في تدفّق الضوء حتّى يبدو باهراً، ويعتني برسم الظلام والظلال. يجد أنّه لا يفترض باللوحة أن تعني شيئاً محدّداً، يكفي أن تثير في المتفرّج أحاسيس مختلفة وانفعالات تدعوه إلى التفكير فيها دائماً، ولا يأبه لصدمة الذوق العامّ، ولا يرى أنّه ينبغي على الفنّان الملهم أن يخضع للرأي العام، على رغم معرفته أنّ الرأي العام هو الذي يرفع الفنّان أو يلقي به إلى الحضيض. ويجد أنّ الفنّان الموهوب يعلن ثورته على كلّ شيء تقليديّ منطقيّ مألوف، يكون جنونه الفنّيّ سبيله إلى إبداعه الفريد.

يستغرق كلود في رسمه بحماسة وصمت يجعل جوّ المرسم كأنّه معبد للفنّ، يتفانى في عشقه لرسمه، يرهن حياته للفنّ، يصارع كلّ ما يعترض طريقه إلى المجد، يقوده الفنّ إلى مجاهيل خطيرة، ويودي به في النهاية، حين تصارحه كريستين بعد سنوات من الزواج، وبعد وفاة ابنهما نتيجة إهماله، وبعد رزوحهما في أتون الفقر القاتل، بأنّ الحياة أهمّ من الفنّ، وأنّه لا بدّ من أن يعود إلى حياته وأنّها ستقوم بأيّ شيء في سبيل إسعاده. يرضخ لها بعد تردّد عاصف، يجد نفسه منغمساً معها على سريرهما، يردّد لها أنّه لن يعود إلى الفنّ، ويهمس لها أنّه سيختار الحياة، ولكنّه يخذلها في الصباح، حين تكتشف أنّه قد أعدم نفسه، في حالة قاهرة، وأنّه اختار التضحية في سبيل إعجازه الفنّيّ الذي ظلّ مرفوضاً في حياته نتيجة العصبويّة التي كانت تتحكّم بالعلاقات الفنّيّة والتسويق، وكذلك الشلليّة المرَضيّة التي تقصي البعض على حساب تصدير مَن هم أقلّ موهبة وبراعة، وذلك في مناورات تراعي المحسوبيّات وتبادل المساعدة والمنافع. وتظلّ كريستين فاقدة الذاكرة، بعد أن تحرق اللوحات التي أودت بكلود ودمّرته.

يزيح زولا النقاب عن عالم الفنّ الذي يكون مضرّجاً بالمال ومدفوعاً برغبات السوق، وينقل المكاشفات بين أوهام النخبة ورغبات الجماهير، ومدى الصراع بينهما، كأنّه أحد أوجه صراع الفنّ والحياة المتجدّد. وذلك عبر بطله الذي يصفه بأنّه ثورة في عالم الفنّ يظلّ مرفوضاً، يُخشَى من اشتغاله المختلف، فيصار إلى رفضه وإقصائه في سعي للقضاء عليه.

بعد الانتهاء من قراءة «التحفة»، يظلّ السؤال الجدليّ المحيّر الذي أبقاه زولا معلّقاً في فضاء الزمن حول جدارة الفنّ واستحقاق الحياة، وأيّ واحد منهما التحفة الحقيقيّة، حياة المرء أم فنّه، نور الحياة أم نار الفنّ؟ وهل يستحيل الجمع والتوفيق بين التحفتين النارين؟ لمَ يتعرّف الناس إلى المبدعين بعد موتهم؟ وأسئلة كثيرة أخرى تظلّ باحثة عن أجوبة في فضاء الحيرة والافتراض.

عن موقع جريدة الحياة

 سيرة حياة إميل زولا باللغة العربية
 سيرة حياة إميل زولا باللغة الفرنسية


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)