قراءات

الإسكندريّة في غيمة، إبراهيم عبد المجيد (مصر)، رواية Al-Iskandariyya fî Ghayma, Ibrahim Abd al-Majid (Egypte), Roman

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


20-02-2013
جريدة القدس العربي
د. شهلا العجيلي


"الإسكندريّة في غيمة" لإبراهيم عبد المجيد : سيرينادا للمدن الخالدة


يقول سقراط لصاحبيه في ’المأدبة’: إنّ من يقدر على وضع الرواية المحزنة، قادر على وضع الرواية المبهجة، لأنّ أصول الصنعتين واحدة’. ص276.

لم يقصد سقراط بمقولته فنّ الرواية بالطبع، فالأخير لم يكن قد وجد بعد، لقد تحدّث هنا عن الملحمة، والفارْس، والتراجيديا، لكنّ مقولته تلك، والتي تجنّبها النقد الروائيّ، ذات علاقة وثيقة بأصول صنعة الرواية، فالرواية الناجحة، هي في واحد من وجوهها، مجموعة من الحالات الدراميّة التي تجمع المحزن إلى المبهج، مع أنّنا نجد الغالبيّة العظمى من الروائيين يشتغلون على الجانب المحزن فحسب، ظنّاً منهم أنّ ذلك أشرف، في حين أنّه يشكّل خللاً في النسيج الروائيّ، فالرواية فنّ مختلف عن فنّ التراجيديا. لعلّ المعلّمين وحدهم أتقنوا عمليّة دمج الصنعتين، إذ تكشّفت لهم أسرار ذلك الفنّ، فوصلوا إلى أنّ أصول الصنعتين واحدة. هذا ما يفعله، دائماً، إبراهيم عبد المجيد في رواياته، وهذا ما فعله في نصّه (الإسكندريّة في غيمة)، والذي صدر مؤخّراً عن دار الشروق. لقد تمكّن من جمع البهجة والشجن في سبك روائيّ واحد، فجاءت (الإسكندريّة في غيمة) مرثيّة للمدينة، واحتفالاً بها في آن معاً، لذا آثرت أن أصفها بـ(سيرينادا)، والتي هي المقطوعة الموسيقية الصغيرة التي تعزف تحيّة لشخص ما، أو على شرفه، وهي هنا تعزف على شرف المدينة، الإسكندريّة، ولاشكّ في أنّه لم يكتب روائيّ عن الإسكندريّة مثلما كتب عبد المجيد عنها، ولا تشبه علاقته بها، ورصده لتحوّلاتها، سوى علاقة أورهان باموك بإسطنبول ورصده لتحوّلات الهويّة فيها، فيبدو الأمر كأنّه قدر المبدعين في المدن المفتوحة على البحر.

يشكّل نصّ (الإسكندريّة في غيمة) ثالثة الأثافي لتجربة الروائيّ في رصد تحوّلات المدينة، فقد بدأ الروائيّ بـ (لا أحد ينام في الإسكندريّة) ببسط حياة مصر والإسكندريّة بخاصّة، وما اعتراها خلال الحرب العالميّة الثانية. ورصد في (طيور العنبر)، التحوّلات إثر العدوان الثلاثيّ، وتجربة التأميم 1956، وما تلاها من خروج الإثنيّات من الإسكندريّة، ليأتي نصّ (الإسكندريّة في غيمة)، فيحكي التحوّلات الثقافيّة الاجتماعيّة إثر استلام السادات الحكم، وسطوع نجم الإسلاميينن، في سبعينيّات القرن العشرين، وما تبعه من تحوّلات لم يقصرها على السياسيّ الاجتماعيّ، بل سار بنصّه إلى رصد التغيير الديموغرافيّ، والأخلاقيّ، والمورفولوجيّ، وما يمكن تسميته بالتغيّر الثقافيّ، وفاقاً لنظريّة الثقافة:

’البيت محاط بسور تفصله عنه مسافة صغيرة خالية من الورود والأشجار التي يبدو أن صاحب البيت القديم بناه على هذا النحو كي يزرعها. بقيت الأرض متربة . والرجل الخمسيني العمر الذي يأتي كل شهر لتحصيل الإيجار، قال عنه أبو الحسن المكوجي، وسمسار الشقق أيضا، أنه اشتراه من صاحبه اليوناني الذي غادر مصر عام 1962. بيوت الشارع كان أصحابها يونانيين أو شوام أو يهود ، أو مصريين موسرين . سكان البيوت كانوا كذلك، والبيوت في معظمها بنيت قبل ثورة 1952، أقلها بنى في الخمسينات. التزم أصحابها بقوانين البناء , فلا يرتفع البيت عن عرض الشارع مره ونصف ، لذلك كلها تقريبا لا ترتفع عن ثلاثة أدوار, أو أربعة إذا كان البيت يقع على ناصيتين. ’. ص28

تبدأ أحداث النصّ عام 1975، بزيارة السادات إلى الغرب، ويحمل التفاصيلَ مجموعة من الشباب، وهم طلبة في جامعة الإسكندريّة، في قسم الفلسفة، وذوو انتماءات يساريّة، وماركسيّة بخاصّة، وبالطبع تحضر أصوات أخرى إسلاميّة، وليبراليّة، وأصوات بعيدة عن عالم الفكر، تربطها بأصحابه علاقات إنسانيّة وجسديّة، من مثل بائعتي الهوى (روايح، وغادة). أمّا البنى الاجتماعيّة الرئيسة التي تشكّل فضاء النصّ، فهي البورجوازيّة الصغيرة، فضلاً عن البروليتاريا، والبورجوازيّة الكبيرة، وذلك من خلال حضور عائلات الطلبة، كما تظهر بكثافة الأنساق السلطويّة الأمنيّة، والدينيّة المسيّسة.

لابدّ من الكلام على ثيمات رئيسة شكّلت النصّ وميّزته:

يحضر المخزون الثقافيّ في النصّ بكثافة، ويُوظّف ليصوّر المرحلة معرفيّاً وجماليّاً في آن معاً، فيعمل التوظيف المعرفيّ على صناعة فضاء النصّ، أي فضاء المرحلة، عبر الوثائقيّة المنوطة بصنع تفاصيل الزمان والمكان، وعبر صناعة روائيّة الرواية، مثلما يعمل التوظيف الجماليّ على صياغة شعريّتها، وحيث أنّ أيّ إخفاق معرفيّ هو إخفاق جماليّ، فالتفوّق المعرفيّ هو تفوّق جماليّ أيضاً:

’ أما في الجنوب فكانت البيوت تقوم بسرعة أكبر، وترتفع العمارات، بعيداً عن أي نظام.

شوارع تبدأ واسعة ثم تضيق وتتفرع منها أزقة صغيرة ترتفع فيها البيوت بشكل عشوائي ، تماما كما حدث ويحدث في منطقة الجبل بالدخيلة. هنا المكان أكبر، عميق وممتد، كثير من الأرض وخاصة في الجنوب، مستنقعات مائية. وظهر على الكورنيش لأول مرة، في آخر شارع خالد بن الوليد عند إلتقائه بالكورنيش، مقهى علق لافتة ممنوع المشروبات الروحية، وتم بيع ملهى الكيت كات الكبير الواسع ليصبح قاعة أفراح، والتقى الرئيس السادات بالملك فهد عاهل المملكة العربية السعودية، وأعلن السادات مبتسما ابتسامته العريضة التي لا يعادلها على وجهه إلا غضبه العنيف، إنهما متفقان على كل شيء.’. ص47
تحضر الأساطير والتناصات، ويحدث التأصيل للأمكنة، وللأحداث، وللشخصيّات، بدءاً من أوديسيوس، والإسكندر، مروراً بدستويفسكي وماياكوفسكي، وليس انتهاء بسعد زغلول:’هل حقّاً حين قامت الحرب بين روما والإسكندريّة، استطاع الجنود البطالمة، أن يسلّطوا أشعة الشمس، بعد أن تنعكس على مرايا في فنار الإسكندريّة، إلى سفن الرومان فتحرقها؟ يا للإسكندريّة مدينة العالم القديم، التي اشتهر شعبها بمصارعة الديكة، وتناول النبيذ، والتندّر على الحكّام.’ ص162
بذلك يحترم النصّ كلاًّ من ثقافة المتلقّي وثقافة الناقد، ويحفّزهما، لذا، يمكن أن نقول كما قال الناقد العربيّ القديم عن بيت أطربه: هذا نصّ له سجدة!

*الثيمة الأخرى التي ستجذب الناقد، في هذا النصّ، فتشغله، هي الاتفاق المبرم تاريخيّا بين الإبداع والنقد، على ضرورة وجود منظومة أخلاقيّة (من علم الأخلاق) كبرى سواء أكان ذلك في البنى الاجتماعيّة، أم في البنى الفنيّة. وتتوافر هذه المنظومة الأخلاقيّة بوضوح في نصّ عبد المجيد، ومنها تنبثق المنظومة الجماليّة التي تتجلّى في صياغة الشخصيّات، وعلاقتها ببنيتها الاجتماعيّة، وإشكاليّاتها، وحالاتها الدراميّة، فتتشكّل الحالة المعرفيّة الجماليّة التي تنتج النصَّ.

*يقودنا حضور المنظومة الأخلاقيّة إلى الكلام على الثيمة الثالثة، والتي تتعلّق بالنمذجة الفنيّة، إذ يتيح حضور منظومة أخلاقيّة كبرى فرصة إنتاج نماذج فنيّة متينة ومؤثّرة، في حين تصنع الفوضى النظريّة نماذج مائعة أو ضعيفة، ويشتغل النصّ على نماذج رئيسة هي: نموذج البطولي (نادر)، والجميل (يارا)، والمعذّب (نوال)، والتراجيدي (كاريمان)، والكوميديّ (خريستو/ غادة/ روايح/ الشيخ زعلان)، ممّا يقدّم روح الشعب الحقيقيّة.

*يحاكي جانب من حياة (نادر) جانباً من حياة ماياكوفسكي، وعلاقته الفكريّة والعاطفيّة بالشخصيّات المثقّفة المحيطة بـه، وتتفاوت بين دراميّة أقلّ أو أكثر، فيأتي انتحار (كاريمان) مثلاً ليشيع جوّ روسيا ذاته، بعد ثورة أكتوبر الاشتراكيّة، هناك انتحر المثقّفون لأنّهم كانوا أكبر من العالم، وهنا ينتحرون لأنّهم أصغر منه. وينسحب ذلك التناص على العنوان، فـ( الإسكندريّة في غيمة) تتناصّ مع عنوان قصيدة ماياكوفسكي الشهيرة (غيمة في بنطلون)، وشعر نادر يحيل المتلقّي إلى القصيدة ذاتها، لكنّه أكثر رومانتيكية، في حين نجد نصّ ماياكوفسكي أقرب إلى روح الوجوديّة. كان العنوان الأول لقصيدة ماياكوفسكي ( الحواري الثالث عشر أو النبيّ الثالث عشر) لكنّ الرقابة أجبرته على تغييره، فصرخ في قصيدته: ’فليسقط حبّكم. فليسقط فنّكم. فليسقط نظامكم. فلتسقط ديانتكم’ أربع صرخات لأربعة مقاطع.

لقد حوّل عبد المجيد الصرخة ذاتها إلى رواية، قدّم فيها أولئك الشباب الممتلئين بالحياة والثقافة والفكر، على أنّهم حواريّون أو أنبياء صغار في زمن التجهيل:

’قال لي: لو لم يكن البحر المتوسّط /ما كانت الأوديسا/ قلت له:/عاد أوديسيوس/ وبدأت متاهتنا’. ص439
*لابدّ من الكلام على ثيمة دامغة في النصّ تشير إلى أنّ بناء الفرد وبناء المجتمع يشكّلان حالة جدليّة، فالمجتمع كلّه يتضافر ليصنع فرداً مثقّفاً: الجامعات، والكتب، ودور العبادة، والمقابر، والمنابر السياسيّة، ودور السينما، والآثار، والأغاني، والترجمات، والمقاهي، مثلما يتضافر المجتمع كلّه ليهدم الفرد، في حال غياب تلك العناصر، أو في حال صبغتها بصبغة واحدة. سيرى المتلقّي من خلال هذه الجدليّة تحوّل الإسكندريّة من مدينة كانت تنظر باتجاه البحر، بكلّ ما يحمله من غنى، وتعدّد، وكوزموبوليتانيّة، إلى مدينة تنظر باتجاه الصحراء، صحراء الشيخ زعلان وملّته، بكلّ ما فيها من معاني الخواء، والأحاديّة، والخصوصيّة الضيّقة:

’في النهاية وجد نفسه يمشي إلى حديقة تمثال سعد زغلول. هنا كان يجب أن ينزل من الأوتوبيس ولا يدور هذه الدورة. وقف كطفل حائر ينظر إلى التمثال، يسمع صوت المطر وهو يصطدم بالبالطو الووتربروف الذي يرتديه، وبالقبعة على رأسه. رأى أضواء فندق سيسل ظاهرة من خلف شيش نوافذه العالية، وكذالك أضواء فندق متروبوليتان. لماذا حقا لا يمضي ليلته هذه في أي من الفندقين ؟ في أتينيوس ألفة قديمة، وسأل سعد زغلول بسرعة لماذا لازلت تنظر إلى البحر. بلادنا الآن تنظر إلى الشرق. إلى صحراء الجزيرة العربية! هل يمكن حقا أن تستدير؟. أو تترك مكانك لينسي الناس ثورة 1919؟!’. ص66
لقد قدّم إبراهيم عبد المجيد في (الإسكندريّة في غيمة) سيرينادا للمدن الخالدة كلّها عبر الإسكندريّة، سيرينادا جمع فيها الرثاء والابتهاج في سبك نادر، فأسعد متلقّيه، مثلما أسعد ناقده، الذي يتوق إلى أن يقرأ له، بقدر ما يتوق إلى أن يكتب عنه، وتلك معادلة صعبة في عالم النقد.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)