الأخوان رحباني وفيروز في نتاجهم الإسلامي المجهول

, بقلم محمد بكري


جريدة المدن الألكترونيّة


جريدة المدن الألكترونيّة
السبت 16-06-2018
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي


الأخوان رحباني وفيروز في نتاجهم الإسلامي المجهول


<article4768|cycle|docs=5665,5666,5667>


في السنوات الأولى من مسيرتهما الفنية، وضع الأخوان عاصي ومنصور رحباني عددا لا يحصى من الأعمال الإذاعية المتعدّدة الأنواع. يضم هذا النتاج الغزير أعمالا إسلامية تبقى إلى يومنا هذا شبه مجهولة، منها تسجيلات تعود إلى الإذاعة السورية، وأخرى تعود إلى “محطة الشرق الأدنى” التي أغلقت أبوابها إثر “العدوان الثلاثي” في خريف 1956.

تحتفظ الإذاعة السورية بثلاث لوحات رحبانية إسلامية، منها لوحة أنتجتها لمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ولوحتان خُصّصتا لعيد الأضحى. تحمل اللوحة الأولى عنوان “حليمة السعدية”، وهي غير مؤرخة، وأغلب الظن أنها من نتاج 1952، وقد وصلتنا بتسجيل رديء دخل في السنوات الأخيرة شبكة الانترنت. شارك في هذا العمل عدد من الأصوات التي يصعب تحديد هويتها، منها صوت عاصي الذي لعب دور عبد المطلب بن هشام جدّ الرسول، وصوت فيروز التي تؤدي وصلتين متواضعتين مع الجوقة المرافقة.

بحسب الرواية المعروفة، كانت حليمة السعدية تعيش مع زوجها الحارث بن عبد العزى في بادية الحديبية، ولها منه أبناء، هم عبد الله وأنيسة والشيماء. في العام الذي وُلد فيه النبي محمد، قدمت مع نساء قبيلتها بحثاً عن أولاد ليرضعنهم ويكسبن المال جراء ذلك، وأخذت الطفل محمد من والدته آمنة وهو يتيم الأب، فطرح الله البركة فيه لها ولأسرتها، وأيقنت أنه مبارك.

تبدأ اللوحة الرحبانية بمقدمة غنائية تؤديها الجوقة، بعدها تدخل والدة الرسول، آمنة بنت وهب، في حوار مع الجد عبد المطلب بن هشام، وتدعوه إلى التأمل بحفيده الوليد. يقول عبد المطلب: “لتسميته محمداً”، فترد وتقول: “لقد أتاني آتٍ في النوم وأمرني أن أسميّه أحمد”، فيعلّق الجدّ: “وهو محمد، وهو أحمد، وما أرى الا أنهما بعض أسمائه”. ثمّ يضيف: “أيها الحبيب يا محمّد، من تكون أيها الطفل العظيم، ومن ستكون، ان أباك عبد الله، وآمنة أمك، تلك هي أسرتك، لكن يخيّل إليّ أنك تتطلّع إلى أسرة يُعدّ أفرادها بالملايين”.

تلي هذا الحوار وصلة غنائية تنقل المستمع إلى مرابع البادية، بعدها تودّع حليمة السعدية ابنتها الشيماء، وتمضي إلى آمنة، أملا بأن تدفع بوليدها إليها. تقول لها الأم: “انه يتيم كُتب عليه اليتم يا حليمة. أتبقيه سنتين في حضانتك، إلى أن يحين فطامه، ولا تبغي عنه جزاء ولا عطاء؟ إليك به، وليكن يا رب قطرة الغيث لأرضك، ودفقة الخير والخصب فيها”.

يحمل الطفل معه البركة إلى البادية، وتتبدّل أحوالها، ويحلّ فيها الخصب بعد القحط، فيدعو الحارث بن عبد العزى زوجته إلى حجب الطفل محمد عن العيون. يأتي عرّاف العرب، ويقول: “إن آلهتنا ستتحطّم”، ثمّ يتحدث عن قوم “يتناقلون أخبار ظهور النبي ويعطون الدلائل”، ويصفونه بـ"خاتم النبوة". يهتف صوت: “هذا الصبي اقتلوه. اقتلوا هذا الصبي. أين هو اليتيم؟”. وتنتهي اللوحة بوصلة غنائية جماعية يعلو فيها صوت فيروز: “هذا اليتيم لا يمسّه المعتدون. هذا اليتيم لا يطوله الحاسدون. يوحّد العرب ويحمل الحق والهجر والحب والبر والتقوى”.

حكاية العيد

مثل “حليمة السعدية”، تجمع لوحتا عيد الأضحى بين الحوارات غير الملحّنة والوصلات الغنائية، وهما من الأعمال المجهولة التي لم تخرجا بعد من أرشيف الإذاعة السورية. محبو التراث الرحباني لا يعرفون منهما سوى وصلتين غنائيتين سُرّبتا بتسجيل من النوعية البائسة على شرائط غير شرعية. عنوان اللوحة الأولى “حكاية العيد”، وتاريخ تسجيلها 2 أيلول/سبتمبر 1952، ومطلعها أغنية تشدو فيها فيروز مع جوقة نسائية أغنية تقول: “مرحبا يوم الهنا، مرحبا فجر المنى”، بعدها يطل عاصي رحباني في دور “العم أبو عصام”، ويدخل في حوار مع الصبايا. يقول لهن إن غناءهن الجميل جذبه، فتردّ فيروز: “كنا نغني أغنية للعيد”، فيعلّق: “أحسنتنّ، فالعيد فجر مكتمل الجمال، ويوم خير بين الأيام”. تسأله الصبية: “ما هو العيد؟”، فيجيبها: “العيد يا صغيرة حكاية جميلة، يلذّ للنفس أن تردّدها في كل عام، حكاية تجدّد الإيمان، انه واحة تستظلّها الروح في صحراء الحياة المحرقة”. فتردّ وتقول: “انني أشعر يا عمّاه، كلّما اقترب عيد الأضحى المبارك، بأن روحي تخفق بجناحي طائر، وتتّجه شطر الأماكن المقدّسة”. ويضيف العم أبو عصام: “هذا شعور كل قلب يا بنيّة، هذا حنين الإيمان المتّقد بجذوة الأزلية، هذا شوق ملايين الناس من كل قطر وصوب إلى تلك البقعة المقدّسة”.

تشدو فيروز مع صاحباتها أغنية ثانية تقول: “جئنا بشوق مجيد إلى بلاد الضياء”، بعدها يتحدّث أبو عصام عن عرفة، ويقول: “عندما تجتمع تلك الملايين من الناس، تشعر بالحب الشامل، وتتبادل التمنيّات والرغبات الطيّبة، ذلك بعد أن تغمرها بركات المصطفى الحبيب”. تعلّق الصبية: “لا فضّ فوك يا عمّ أبا عصام، فتحت أمامنا آفاقا جديدة في الحكمة والمعرفة”. وتسأله إحدى صديقاتها: “وماذا بعد عن العيد يا عمّاه؟”. فيسترسل عاصي في الحديث عن فرح العطاء: “هناك أيضا العطاء الطيّب، فعلى كل من أمكن أن يضحّي من حاله في سبيل المحتاج والمعوزين. جميل أن يبذل الإنسان ممّا يملك في سبيل أخيه الإنسان”. من جديد، تشدو فيروز مع صاحباتها، وتختم اللوحة بأغنية يقول مطلعها: “يا أكفّ الخيّرين يا غمامات الندى/ يا قلوب المؤمنين يا منارات الهدى/ عندنا جار فقير جارت الدنيا عليه/ ولنا زاد كثير هيا نحمله إليه”.

تحمل لوحة الأضحى الثانية عنوان “المحسن المجهول”، وهي مسجّلة في 18 شباط/فبراير 1953، وفيها يؤدي عاصي دور كامل بيك، وتؤدي فيروز تمثيلاً دور زوجته، كما تؤدّي غناء دور صبية تعيش في مأوى خاص بإحدى المؤسسات الخيرية، وتشدو مع رفيقاتها في مطلع اللوحة: “يا عيد ما أحلاك مُذهّب الألوان نهفو إلى لقياك بالزهو والألحان/ عطّر ليالي شدونا بطيبك المسحور واملأ مغاني ربعنا من خيرك الموفور/ مرّت بنا نعماك غنية الإحسان وجمّلت نجواك أنشودة الإيمان/ يا واحة في ظلها ترفرف النسمات يا جنة في أنسها تزهّر الخيرات/ تموج في ملهاك خمائل الأغصان وفي حمى دنياك عطر المنى الفتان”.

يعلو التصفيق، ويدخل الزوجان في حوار. تقول الزوجة: “كان عليك يا كامل أن تمدّ هذا المشروع وتخصّه بالكثير من مساعدتك”. ويجيبها كامل بيك: “أنفقت كثيرا في سبيل مشاريع الخير، وأنت تعلمين يا عزيزتي انها وسيلة، ليس بمقود أحدنا مهما كان ذا سعة أن يغذّي صناديقها”. تسأله: “أتعتقد أن ما بذلته هذا العام من الصدقات يوازي ما كان للزكاة من حقّ في أموالنا؟”. فيرد عليها قائلا: “تسألينني أيتها العزيزة؟ لقد وفيت حقّ المسكين والمحتاج، بل ثقي انني أتيت ذوي الحاجة فوق ما كانوا يأملون، زكاة أتيتها عنّا جميعا، أنت وابنينا الصغيرين الحبيبين”.

يعلن مدير المؤسسة عن وصلة غنائية أخرى تؤديها فتيات المأوى، عنوانها “المحسن المجهول”، وهي مهداة إلى “محسن طوّق جِيد هذه المؤسسة بالفضل، ولم يشأ ان يعلن اسمه، فبلغ بذلك أسمى مراتب الإحسان”. تقول زوجة كامل بيك: “أسمعت، ما أجمل المحسنين، يتنافسون في عمل الخير ويتسابقون إليه. ليتك كنت هذا المحسن المجهول”، فيجيبها: “في عالم الخير يا عزيزتي لذة كبرى، وسعادة تفوق كل سعادة. إن الله وحده مطلع على السرائر”.

تغني فيروز مع رفيقاتها: “المحسن المجهول أنشودة كريمة ولفتة رحيمة أمانها يطول/ المحسن المجهول يسخو ولا يملّ، يهدي ولا يطلّ، يعطي ولا يقول/ مرّ علينا نور الغمام الجميل، يهدي إلينا عطاه السخي المجيد/ وما حكى عن عطاه، كالفجر للزهور كالماء للبذور كالغيم للحقول”.

ثمّ تقدم مع صاحباتها أغنية استعراضية راقصة تقول كلماتها: “اليوم الربيع لقياك يا عيد، واللحن السعيد لقياك يا عيد/ لمن الزينات أعلاه؟ لحبيب العيد، لأمير العيد/ ومن أمير العيد، ومن حبيب العيد؟/ المعطي الجوعان، والمروي العطشان، من يكسو العريان، من يأوي الشريد/ عاش حبيب العيد، عاش أمير العيد/ اليوم الرغيد رؤياك يا عيد، واللحن السعيد نجواك يا عيد/ لوّنت الأحلام، أطلقت الأنغام، فالأطيار تعيد يا عيد”.

يشكر مدير المؤسسة ضيفه كامل بيك تلبيته دعوة الحضور مع قرينته الفاضلة، ويدخل في حوار معه. تكتشف الزوجة أن زوجها هو المحسن المجهول الذي قدّم ربع أرباحه للمؤسسة. وتسأله: “أحقٌّ ما سمعت؟ هو المحسن المجهول؟ إذا كنت لا تريد أن تعلن اسمك، فما هي الغاية من عمل الخير، ومن يعرف أنك أحسنت؟”. فيجيبها: “السعادة التي نشعر بها عندما نعطي هي أسمى المكافآت. إن الذي يعطي لا يجب أن يكون عطاؤه لنيل مكافأة أو لكسب جزاء، بل يجب أن يعطي من أجل العطاء نفسه، ليكن عمل الخير فقط. ذلك هو الشعور الأسمى والعاطفة المثلى المتدفقة نحو منابع النور والحقيقة والجمال”. بعدها، تنتهي اللوحة باستعادة اغنية المقدّمة: “يا عيد ما أحلاك مُذهّب الألوان نهفو إلى لقياك بالزهو والألحان”.

أمين أبي صالح

في موازاة هذه الأعمال، سجّل الأخوان رحباني في “محطّة الشرق الأدنى” أعمالا إسلامية أخرى وصلتنا منها قصيدة من كلمات ابن جبير تمتدح الرسول وتقول فيه: “إليك إليك نبيّ الهُدى ركبنا البحار وجبنا القفار/ دعانا إليك هوى كامنٌ أثار من الشوق ما قد أثار/ عسى لحظةٌ منكَ لي في غد تمهد لي في الجنان القرارا/ فما ضلّ من بسُراك اهتدى ولا ذُلً من بذراك استجارا”.

عند مراجعة أعداد من مجلة محطة “الشرق الأدنى”، نكتشف أن فيروز غنّت هذه القصيدة في “برنامج خاص بعيد السنة الهجرية” قٌدّم يوم الأربعاء 9 أيلول/سبتمبر 1953. وفي الخميس 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1953، ولمناسبة عيد المولد النبوي، أعادت الإذاعة تقديمها، ونسبت اللحن إلى أمين أبو صالح. نشير هنا إلى أن أمين أبو صالح اسم وهمي ابتدعه الأخوان رحباني لخداع منتقديهم الذين اتهموهم بالتغريب وبتخريب الموسيقى الشرقية، وقد وقّعوا به “إلى راعية” التي حازت اعجاب منتقديهم الذين لم يكتشفوا هوية الملحن الحقيقية الا بعد اعلانهم عن اعجابهم بهذا العمل الذي “حرّر” فيروز من الأخوين رحباني.

من المفارقات، خرجت هذه الأغنية من الظلمة إلى النور بسبب صدورها على أسطوانة مقرصنة، وتبيّن حديثا أن الأخوين رحباني أعادا تسجيلها مع فيروز في الستينات، وهذا التسجيل محفوظ في محطة “بي بي سي” البريطانية، وقد كشفت السيدة ناهد نجار عنه أخيرا، وقدّمته في برنامجها “صدنوق النغم”.

قبل أن يلحنا قصيدة ابن جبير في العام 1953، قدّم الأخوين رحباني في “الشرق الأدنى” عملين إسلاميين في رمضان 1952، وهما من الأعمال التي لا أثر لها حتى يومنا هذا. نقرأ في عدد من مجلة المحطة: “في الساعة 11 من صباح الأربعاء 23 تموز نقدم برنامجا غنائيا من البرامج التي تم تسجيلها حديثا، وهو من تلحين الأخوين رحباني وإخراج صبري الشريف/ وفي هذا البرنامج إستعنّا بالحوار والغناء لنخدم الغرض الذي نزلت من أجله الآية الكريمة:”أما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعم ربك فحدّث". ونقرأ في تعليق من توقيع حليم الرومي نُشر في عدد آخر: “وهذه هي المطربة فيروز وقد عوّدتنا أن تسمعنا غناء حديثا في مجهود المادة الرفيعة وفيه صفاء الحنجرة الرخيمة السليمة، ولكن صوت فيروز أبى ألا يدهشني بشرقيته الغنية وبطلاوته وانسيابه الهادئ الواثق، ففي أغنية”رمضان"، وهي من تلحين أمين أبو صالح، غنّت فيروز اللحن وهي على أحسن ما تكون من العلم والدراية بالطرب والتطريب الشرقي العربي، كأنها مطربة إذاعية ذات خبرة سنوات عديدة، وليست مطربة وُلدت فنيا قبل عامين على وجه التقريب".

عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة


حقوق النشر

محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.


عن الصورة

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)