قراءات

اعتقال الغابة في زجاجة، أنيس الرافعي (المغرب)، مجموعة قصصية

, بقلم محمد بكري


جريدة القدس العربي


10-03-2013
جريدة القدس العربي
أحمد المديني


مع أنيس الرافعي في غابته : في كيفية تدبير التجريب القصصي


ـ تشغل القصة القصيرة حصة مهمة وقيمة نوعية في الكم الكبير والهيكلي للأدب العربي، مذ انتقل إلى مرحلة صياغة الأجناس الأدبية الحديثة ووضع خطاباته بواسطتها..

وتاريخ نشأتها وترعرعها في هذا الأدب سار تقريبا جنبا إلى جنب مع التبلور العام للرواية، بقدر ما ارتبط بالشروط السوسيو ـ ثقافية للتحول النوعي للقول الأدبي، وبروز وظائف جديدة له. وخلافا لأفكار جزافية فإن هذا الجنس انتزع في كل الآداب الحديثة أكبر مقدرة على جسّ الأوضاع الاجتماعية والأزمات الفردية، برصدها عبر إيقاع الإحساس الموتور والتحول المتسارع، ينسجم معه شكلٌ يبني أضلاعه ويحرك فرده ويشخِّص فعله بضربة لازِب. لا عجب، إذن، أن تكون الصحافة مضماره الأجلى، أمس واليوم أيضا، وكتّابُه ثاقبو النظر، مهندسون وماكرون، وقراؤه فَطِنون مدققون كالصّاغة، ولذلك فالقصة القصيرة هي الفن الأصعب، والسجل الحافل في آداب الشعوب بحساسية عالية وحذق بتّار، لوجدان الإنسان الحديث ومشاغله التي بلا حدود. ومن يمعن النظر في مدونة أدبنا العربي الحديث سيجد مواهبه قُدّت جلها من جِبلّة هذا الفن، وهي صُناعُه، ومن أخفق فيها لا يفلح في غيرها، ليمكنُ القول بأنها امتحان لا مناص منه لكل من يزعم عبورا فذّا إلى القول السردي التخييلي. ولننظر درجة التهافت على كتابة الرواية ظنا أنها حكي سائب لوجه الله، ما لا يجرؤ عليه المتهافتون مع القصّ القصير لدقته التي لا تضاهى ورهافته الشعرية الباذخة.

2ـ وكذلك هو موقعُها في الأدب المغربي الحديث، مذ بواكيرها في أربعينات القرن الماضي وانتقالا إلى ستيناته حين أضحت التعبير الأدبي الأول لمرحلة الاستقلال وما رافقها من نضالات اجتماعية وانبثاق لعديد أزمات للأفراد الكادحين وفئات من طبقة وسطى ناشئة أفرادُها ومعضلاتُ عيشهم هي بطولة مجتمع يتخلق من قلب إشكالاته، كان الراحل محمد زفزاف علَم نقلِ صوتِها والمصورَ الأبرعَ لمحنتها، فترك متنا بقدر ما بوّأه مُعلما محنّكا في هذا الفن، بقدر ما رسّخ عمادا أساسا للأدب القصصي العربي الحديث كله، بجوار أساتذة مثل يوسف الشاروني، ويوسف إدريس، وموسى كريدي ووليد إخلاصي. هو فنٌّ سيمضي في العقد السبعيني صُعُدا، ليبحث عن قماط غير الواقعية التي وإن تواصل نسيجُها لم تعد في عُرف ويقين كتاب جدُد كافية للتعبير عن حساسية زمنهم كما رأوها، وباعتبار أن الرؤية الواقعية هي محور التواصل والتفاعل والقطيعة أيضا بين كاتب السرد ومناط عمله وموقع تلقيه، وحول هذه الرؤية في منظورها المُركّب وتجسيداتها الجمالية والدلالية وقع الاختلاف بين جيلين، مما سمح بتحقيق تطور للفن القصصي وتعدد لاقتراحاته النصية، كان التجريب أحدَ مسمياتها، والتجريبية الخلاقة،لا المتحذلقة أو الملفقة بلا تصور كلي ناضج، تعبيرا مركزيا لها بيراع كتاب مشهودٍ لهم اليوم في فنهم، ونصوصُهم علامات لمن تلاهم.
3ـ وما العبرة في نهاية التحصيل بالمسمّيات، ولا ما يرافقها ويتسلق حولها من مزاعم وإنكار وخبط، بل بالمسار الذي تسلكه، والمعنى الذي تنتجه، والشكل/ الأشكال التي بها يتخلّق الفن ويقدم خطابه على النحو المخصوص، ناهضا على بناء، ومُخصبا لآخر في رحمه، هذا ما يعتدّ به تاريخ الأدب، ويُعوَّل عليه في مقاربة النصوص القابلة للتمثيل حقا. هكذا يصبح التجريب، أو التجديد، هما في كل حال ليسا وجودا من عدم، مندرجين في سياق، مصنوعين من جبلّة الروح الخلاقة في طبع كل مبدع وإبداع، جدير بالصفة. هل يستطيع أحد اليوم، وغدا كذلك، أن يتحدث عن الغرابة والتحويل والخرق دون الحديث عن ثربانتس، وكافكا، وسان جون برس، وسلفادور دالي، مثلا. نذكّر بهذه البداهة لنعيد إلى الأذهان أن تاريخ تجديد القول الأدبي في أدب المغاربة والعرب عامة، ليس ابن يومه، ومن المفيد أن يتوفر على تاريخ تراكمه، دليل حيوية خلاقة لكتابة وكُتاب، وبيئة ثقافية. نزعم أن الأدب المغربي في رصيده السردي التخييلي توفر لديه منه مُنجزٌ مُفحِم، والسندُ فيه متواصلٌ بحق. لولاه ما كان يعنيني أن أتوقف عند أحد الموهوبين اليانعين في حقله اليوم، عند نصوصه، أجدها بعد طول تروٍّ، بعد قراءة متفحصة، معاينة ومستبطنة، وأخرى رفيقة ودودة، ومستمتعة، تجتاز بابا يحتاج كلُّ كاتب غير مقتنع بكمال العالم وصواب منطقه أن يجتازه، ليأتي ما يكتب خللا، وليكن، و’شذوذا’ وحتى ’هرطقة’ لِمَ لا يوصَمُ بها نسقُه، حين يتأتّى له صنعُه، وما أصعب ذلك وإن توجّب عليه مواجهة ’الخطأ’ الفني طبعا، أعني معضلة الشكل، يظن، يدخل إليها طواعية وإذا هو في حيص بيص، عندما يركبه جن التمرد عليها، باجتراح بديل لها، فيا لفداحة ما سيُقْدم عليه: جرأة مواجهة الخالق ونظامه (!).

4ـ يحب أنيس الرافعي، ومَن في عمره الأدبي، أن ينعتوا أنفسهم، جريا على تقليعة متداولة، ب’جيل التسعينات’(الماضية) وهي عندنا تسمية وقتية، أهم منها إلى أي درجة تتأهل بسِماتٍ نصية محددة، علما بأن العقد الزمني ليس جيلا بأي حال. ما علينا، فالرافعي بدأ الكتابة في وقته المتعين، واليوم ونحن في مطلع العشرية الثانية من القرن21 أصبح له رصيد ست مجموعات قصصية. وهو كمٌّ معتبر أولا، قياسا بأبناء جيله، ودليل مثابرة في تعبير أدبي، وعلى منوال وبتصوّر يتدرّج من نص إلى آخر، يمكن وصفه، وهو يصنع بعدُ ذخيرتَه، بأنه أضحى يمثل متنا متصلا، قابلا للقراءة، للتلقي النقدي والتقويم بذاته، ويصلح للتصنيف والتمييز لقياس حركة تطور وتغير المتن العام للجنس المكتوب فيه، ضمن بيئة أدبية محددة، مغربية عربية. وبما أن الأمر كما نرى، فهو وضعٌ يلقي مسؤولية جدية على الكاتب، الذي نحسب تخطى مرحلة النزوة، ولا يمكن أن يبقى أو يحتج دائما بالتجريب، الذي هو مرحلي لبلوغ تجديد قار وراسخ ونظامي، كما يلقي مسؤولية أكبر على القارئ المحترف، الناقد أو الدارس، يُلزمه بقراءة منتجة، وقويمة، تتعدى التعميم إلى التخصيص، وتنظر إلى أي حد يمتلك النص المعنيُّ قدرة انتزاع مركزية في القول بدل هامشية أو نشأة، نبتة، لا يكتمل نموها، محتكما إلى معايير من داخل الجنس وأبعد، فإلى سياق كلي، فضلا عن طموح الكاتب نفسه.

5ـ نعتمد في هذه القراءة مجموعتين للكاتب، صدرتا في الأصل منفصلتين، ثم مضمومتين في كتاب واحد يحمل أحد اسميهما، هو:’اعتقال الغابة في زجاجة’(دار العين للنشر، 2011). علما بأن الكتاب يُستهل بالمجموعة الأخيرة، عنوانها:’ الشركة المغربية لنقل الأموات ’ أصبحت هنا القسم الأول، وهي التي سنركز عليها أكثر تجتمع فيها أبرز سماتها، وتمتص ما سبق للقاص أن عالجه في نصوصه،سواء من نواحي مادتها، وطرزها، والرؤية التي يبغي توليدها بوسائط تنمي شكلا، أي في الظاهر لأدوات القص القصير، لتغامر أبعد من سنن النوع،عمدا وبسبق إصرار، فلا يكون النوع إلا تَكُأةً، فيما القصدُ غيرُه. فما هو هذا القص أولا؟ يُفترض أنه حكيٌ لحكاية، لخبر، يخضع بعد ذلك لتطوير وفق مراحل وعلى سنن، تتلبس بشخص أو بحالة، وهذا ما توحي به القصص الأولى’ صانع الجنازات’؛’ الشركة المغربية لنقل الأموات’؛ ’اليوم الأول بعد الموت’ وصولا إلى ’سبع أرواح’. فهي مجتمعة، ومفردة، تحكي ـ إجرائيا فقط ـ عن شخص يتنقل من بحث إلى آخر، مسعاه الظاهر ومحيطه الخارجي واقعي، فيما عالمه ومذهبه باطني، مستغور، وبين الإثنين تضيع الحقيقة ويُبنى اللا يقين الذي هو يقين الكتابة وحدها. ففي ’صانع..’ شخصية لفنان، مصور يستعد لمعرض فني فيبحث عن نماذج وهو ما يقوده إلى المحطة الطرقية، وفيه يتابع أطوار شخص سبعيني بصفات محددة، يلتقط له صورا خفية، ولدى الإخراج تتكشف صور الرجل الضرير مجردة من الوجه، مما حيّره ودفعه إلى إعادة المحاولة/ بلا فائدة. لذا ظل يلاحق الضرير، المبصر في الحقيقة، يتابع بعض تصرفاته الغريبة منه وحوله، منها أن’رهطا من الكلاب الضالة ابتعد مفزوعا[لدى رؤيته]والعصافير انفضت..والريح صارت صرصرا’ والمصابيح انطفأت، ولم يتعرف على هوية الشخص الذي تكاثف غموضه عبر سلوكه، إلى أن أفلح ذات يوم في التسلل إلى بيته، وهنا يكتشف، أو ينتبه الفنان أنه يعيش: ’شيئا شبيها بذكرى، ولكن من الجانب المعاكس’ ووقعت عيناه: ’على مشجب عُلق عليه معطف وقبعة وكاميرا تصوير مطابقة لتلك التي أستخدمها منذ سنوات’ لتنتهي الحكاية تقريبا بالجملة الأولى لبدايتها كما جاءت على لسان المصور، الذي ليس إلا الشخص الغامض نفسه.

6ـ ستتكرر هذه النمذجة جزءا أو كلا في محكيات أخرى، لتكرس في الأخير البراديغم الأول في نصوص الكاتب القصصية، يمكن توصيفه بالمشتبه/ الملتبس، وبزوج أنا/ الآخر، وما يبدأ مني/ ينتهي إليّ، وبالوجه والقفا، وعموما بثنائية ظاهرية تُفضي إلى فصام وجودي. ثنائية تنتسب إلى الغياب، وتقيم في الفقدان، ولذلك تمعن في الانقطاع عن كل ما يصل بالحياة حسا وإحساسا، لتنهب الطريق نهبا نحو الموت، وتجعل منه الشخصية/ الكاتب إقامتها الأولى بامتياز،إن لم نعدّها الوحيدة. تعتبر قصة’ الشركة المغربية..’ النموذج الأمثل لهذا المعنى/ التصور، هنا حيث شخص تتبدل حياته، يتصورها، عند افتتاح فرع للشركة قبالة عمارة سكناه، فيشرع في مراقبة كل ما يجري فيها وحولها، ويصبح مجاله البصري والخيالي أيضا مأهولا بالجثث، مشدودا إلى فكرة واحدة هي الموت. بهذا المنطق يتماهى الواقع بالخيال، فلا يوجد أفضل من الحلم مجالا لممارسة اللعب واصطناع التهيؤات، ما يحول الشخصية إلى ميت يُشرّح، أو في وضع جثة تنتظر التشريح، أو حي مؤقتا ينتظر إجراءات الدفن، الخ، إنما المهم هو قلب المنطق (الشكلي) وإنجاز التحويل بما يجعل الموت حياةً، ويقلب هذه موتا، وهكذا فالميت هو من يصف موته، أو أطوار ذهابه فيه، وما ينتابه من أحاسيس ورعشات وما يخوض فيه لما يسميه ب’الهلوسات’ بعد إذ وصفه بأنه: ’محض كابوس’، سيأخذ عديد تمثيلات منها أنابيب تنفس، إبِرُ سيروم مغروسة، أطباء، سياط حمى تلسع..عموما : ’ركضٌ بلا توقف داخل مضمار هذا الكابوس الخانق’(35) ينتهي بصاحبه إلى أن يفقد التمييز بين الواقع والحلم، أو الكابوس، أولا، فهما يتنازعانه، قل ينهشانه، ويتموّهان، ثانيا، في آن، لكي لا يصل إلى أي صورة مستقرة، إلى أي يقين، ولأن المكان ليس إلا: ’الجهة المفترضة.. الامتداد المجازي والترجمة الروحية المشتركة لنفس حالتي ’(34). قس على هذا في نص ’اليوم الأول بعد الموت’ يلي سابقه، مؤكدا منحاه ومعناه، فهذه القصص ـ النصوص، متواليات متآزرة، ينبغي أن تُقرأ وتُفرز حبّاتٍ في عِقدٍ وإلا ضؤلت، وهو ما يتطلب مقاربة خاصة ـ حيث الشخص نفسُه، المقيمُ في عمارة ـ وهذا مكانٌ نمط، أو لاـ مكان، كما لو قلت الأرض أو السماء، بما يوافق التجريد والبعد عن التحديد الذي هو مهماز في القصة القصيرة ـ يسمع كل ليلة دقات فوق غرفته من رجل، رجل افتراضي طبعا، وتتكرر الدقات، واستيهاماتُه حول مصدرها وسببها، إلى أن يقرر بعد طول صبر وعياء منها اقتحام عالم صاحبها، فيتسلل إلى شقته، ولا عجب، فالنتيجة أنه مُلاقٍ فيها أشياءَ كان يعرفها وتعرفه، مكانا وأثاثا، وصورةً معلقة: ’كنت في حقيقة الأمر مع صورتي التي ستكون يوما ما. مع ذكرى صورتي التي سبقت أيامي. مع الصورة التي سأتخذها في اليوم الأول بعد موتي’(43). بطل واحد، دائما، متوحد: ’وحيدٌ وطاعن في العمر’؛ ’هو ذاتُ الرجل الوحيد والطاعن في العمر مهما تعددت أو اختلفت الشقق’(39). وقد تستبدل العمارة بهاتف يرن (محفز، آلية D’clencheur) في قصة: ’يوم زائد بين الإثنين والثلاثاء’ حين يُطلب من المدعو الانتقال إلى مكان مجرد (مدينة ك، نظير السيد جوزيف K بطل ’المحاكمة’ لكافكا، وللعالم الكافكاوي وتمثيلاته، قُل تجريداته، في هذه الكتابة عديد نظائر) لتسلم صورة تخُصُّه، ويقول مخاطبه إنها أُخِذت له ـ كما ينبغي له ـ في مستودع الأموات، بعد مراسيم الجنازة والدفن ـ بعد حادثة سيارة افتراضية، حُلمية، وهو في طريقه نفسه لاستلامها من ’استوديو الجماهير’ في كاف، ويتداخل الزمن مع المكان مع الحادثة، فلا أهمية، في منطق حكي الكتابة، لمنطق القص، وإنما لمنطقها الداخلي، لنَسَقها هي التي تنزع لضبطه وتوكيده من نص لثان، فثالث، من مجموعة لتاليتها، لذا لا عجب تنتهي حكاية الهاتف الافتراضي الذي رنّ: ’بعد منتصف ليلة يوم الإثنين ليصلك من الجهة الأخرى صوتي. هذا الصوت البعيد، الغامض، الذي تعرفه جيدا!’(50). ومثلُه في: ’ثلاثة أحجار صغيرة في قعر النهر ’حيث شخص’ بلا إسم..في نقطة معقّمة وضائعة بين الحقيقة والوهم..’يجلس وحيدا’ إحساسه الدائم: ’أن نسخا طبق الأصل مني ـ شأن قطع شتى من مرآة واحدة ذات وجوه متعددة ـ تؤدي بشكل متزامن أو استباقي نفس حركاتي في المكان الأول الذي وفدت منه، أو في الأماكن التي سوف أرتادها في ما بعد’(53).

7ـ إذا وصلتَ في قراءتك إلى هذا الحد، فمن الجائز أن ستعلن اكتفاءك ما دامت الكتابة ستراوح كما تعلن جهرا مكانها، أو تعاند مثلي فتواصل علك تظفر بالصيد الثمين، لعلك، إن لم يُضجرك إلحاحُ الموت، هو التيمة المركزية، وما تبقى تنويعٌ عليها، أو تماثلُ الشخصيةَ وهلاميتَها، وإن تعددت أطيافا وأشباحا واتخذت أوصافا، زد تجريديةَ المكان والزمان، وإن تعيّنا ببعض الأوصاف والعلامات، وضياع الحدود بين الواقع والخيال، والمتعيّن والمجاز، وحتى بين الممكن والمستحيل، حتى ولكل وضع إطارُه ولونُه وصورتُه، وإن شئنا منطقه، ثم تناظرُ الخطاب، و’توتولوجيته’ لحدّ تحوله أحيانا إلى مُستنسَخ، رغم عمد مُنشئه إلى نفيه ونسخِه، تفنيده واستئنافِه، وتلقيحه بالمعاني المبذولة في الطريق لشحنه بالواقعي بغية إعادة إغراقه في بئر غرابته الأصلية، ألحِقْ بهذا التحويلات والتحويرات والتشويهات والطباقات وتقابل الأضداد(!) واختصارا كل ما من شأنه جعل الكائن يمشي على رأسه لا على قدمين، (لنتستحضر رأس الرسام شاغال المقلوب في لوحته بالإسم ذاته) ولكي تستقيم قراءته عليه اتخاذ هذا الوضع. إنما اعلم أنك إن هجرتَ السباق ستخسر رهان كتابة، وما تقيم به بنيانها لكي تنتج معناها، المرفود برؤيتها، من السابق لأوانه ’اعتقالها’ مبكرا في عنوان أو تسمية، وهي قيد التبلور، أي في الطريق أو المشروع النصي قيد التكوين، زعمي أن رؤية أي كاتب، حقيقي طبعا لا عابر سبيل، هي جَماعُ تجربته وحصيلةُ مُنجزه، في نهاية المطاف.

8ـ لكي تواصلَ وتغنمَ من نصوص كاتب يجدد إبداعية القص عربيا، مواصلا بحيوية عمل أسلافه، رواد التجديد، وبُناة التجريب، منذ مطلع السبعينات، فصار وهو من بعدهم مُجايلاً لهم، ومبدداً ركاكة وضحالة من يحسبون التجريب أو هجر القواعد مطيّة لأي كتابة، لأن القواعد هي الامتحان العسير قبل تطليقها بـ’القاعدة’؛ لكي تواصل اعلم أن رُجحان الموت في كل ما توفر لنا من قراءة نصوص أنيس الرافعي، فضلا عن كونه تيمة ملحمية أدبية متواترة، هو نسغُ الحياة عنده، بل قيمته في صنع انقلاب الأدوار وتحوله إلى حياة، ففيه مجرى القص وأفعاله واشتغال فاعلية النص، وبالمقابل نبذ وإدانة لحياة عقيم. الموت هو الرّحِمُ الجديد، شأن الكتابة المتحررة أو تروم الإعادة في قواعد الجنس الأدبي، بالتفكيك، بالتسفيه، بالتراوح بين هنا وهناك، بشحذ الآلية الاستعارية وتفخيخ الواقع بخلخلة بنيانه وبنيته، للهبوط إلى قاعه، إلى لا وعي ودهاليز أحلام وكوابيس ومكبوتات الكائن فيه. وكذلك الحال مع منزع الغرابة والتغريب، وهو طابع آخر غالب، يبرز في عديد تجليات: سلوك الشخصية، محيطها، هواجسها، تهيؤاتها خاصة، حيث تنقلب العلاقات، وتنتفي الصور الموضوعية للواقع بإبدالات تصعيد غرائبي يُنسج من قصة إلى تالية على نول مخيلة خصبة تتوالد منها المشاهد عبر عملية تناسل حلمي يَعَضُّ في الأخير ذَنَبَه، فيعيد الدورة وهكذا دواليك. وهي عملية واعيةٌ تهدف إلى جعل العالم الذي تبنيه الكتابة بصُوره ومعانيه هو العالم الواقعي، الحقيقي، الممكن، لا الخارجي الحائز سلفا لصفته ومنطقه، وباعتبار الخيال المنطقةَ الفسيحةَ القابلةَ للعيش ماديا وحلما، وهنا حيث يجدر بالكائن الإقامة والأبد. وما الواقعية السحرية، كما أطلقها النقد الغربي أو أسقطها على سرديات بلدان أمريكا الجنوبية، إلا الصفة الطبيعية لأدب هذه فطرتُه وطقوسُه وكثيرٌ من مظاهر معيشه، بتناغم تام مع بيئته. ورُبَّ سائل، أيُّ جديد هنا إذن، فالغرابة والكابوسية والسحرية والعجائبية وما في ضربها آفاقٌ مطروقة في السرود الأجنبية والعربية على السواء، فنقول إنه التأكيد مرة أخرى على سمو الخيال، وعلوّ مراتب التخييل بانزياحات شتى، والتذكير بأن هذه الآفاق ليست نباتات طفيلية في حقل الأدب، بل الشجرة الباسقة، ورفض معادلة الكتابة ب وللواقع الجاف، لاستنساخه، وادّعاء محاكاته، وهي محاكاةٌ مستحيلة، لأن للأدب أدواته وغاياته.

9ـ في مجموعتيه المنوّه بهما، المضمومتين في الكتاب القصصي ’اعتقال الغابة في زجاجة’ يعمد أنيس الرافعي، أولا، إلى استخدام أكثر من أداة وطريقة لنحت معالم بنائه، عمارته، رغم سديميتها، هي ومحيطها، والكائنات الباردة مثل جثث، لا تعدلها إلا جثة الشخصية ’الحية’؛ ويعمد ثانيا إلى تخصيص هذه المعالم بالتأثيث والزينة لتعيينه ك’أصل أدبي’ لصاحبه، (مقابل الأصل التجاري) وهذا ما يمكن التماسُه مثلا في: خطاب العتبات، حيث يتصدر كلَّ نص مدخلٌ له وتهيئة، تبلغ حدا يفرض اعتبارها جزءا منه، بالتقاطع أو الإحالة الضمنية كخلفية شكلية ودلالية. بل إنه يدفع هذا الخطاب إلى مرتبة تناوب وتبادل وتزامن في الأداء رغم اختلاف الأداة ونوعها بين العتبة والمتن: نعني قصص: ’اعتقال الغابة..’ تُصدَّرُ تباعا مُعرِّفةً بالمراحل المتدرّجة في طقس رقصة وغناء (جذبة) كناوة المغربية، بأصولها الإفريقية، يفترض أن كل مرحلة تنسجم مع روح النص اللاحق بها وتتجاوب. مثلا،في تصدير ’اليوم الأول بعد الموت’ نقرأ: ’فتيح الرّحبة: أولى محطات ’الملوك’ [ملوك الجن] من الليلة الكناوية. تستهل باللون الأبيض وبسبعة أصناف من البخور، ثم تنطلق بالنداء على كل من ’سيدنا بلال’ و’مولاي عبد القادر الجيلالي’ الملقب بالبوّاب، مصحوبة ب’التّحيار’ التراخي التدريجي لأطراف الجسد الأخرى..’(37). بالطبع لابد من فحص وظيفية هذا التقابل، مع تشغيل آليات أداء كل تعبير على حدة، بما يستوجب خبرة مختلفة، ويحيل إلى نزوع الكاتب إلى ضرب من النص الكلي، أو المركّب، تتجاور فيه اللغة، الكلمة، والإيقاع (الموسيقى) والحركة = الجذبة (الرقص) والطقوسية(الفولكلور بمعناه الأنتروبولوجي) وهو موضوع يتطلب قراءة خاصة ليست متاحة هنا، وإن وجب التنويه بالمكان الذي تشغله المادة التناصية بالمكونات إياها، موسيقية وثقافية وروائية خاصة، الحاضرة إما سياقا أو نتوءا أو استطرادا، أو تناصا مباشرا كما مع نص لمحمد خضير، تُنبئ بالخبرة الموسوعية ما في ذلك شك، ولكن تطرح سؤال ضرورتها، وكيف أنها تثقل كاهل النص الأم، وتربك وسائط تلقيه، ما يعد من معوقات كتابة على هذا الطرز، فأيا ما كانت مسالك التجديد والتجريب فهي تحتاج أن تأخذ في حسبانها قارئَها الفعلي أو المفترض، وتُحسِن تدبيرها، أو هي صيحة في واد، إن لم نقل رجعا يرتد إلى سمع صاحبه وحده.

10ـ ولأن الرافعي يضع، يغمس قلمه سلفا في ما يظنه حبرا مشوشا، ولا نقول عكرا، أي ليس من النبع الذي يطرقه الجميع ويمضي مطمئنا إلى شراب سائغ، تراه على امتداد نصوصه يحيطها بالمتاريس والدروع للدفاع عنها، وشرح المستغلق، وهي الغالب، يلجأ إلى ما أصبح مصطلحاعليه ب’الميتاـ خطاب’ ونفضل تسميته هنا ب’بروفة’ الكتابة، محاذيرها وخطتها القبْلية يضعها الكاتب الواعي بحرفته في الاعتبار قبل وخلال التنفيذ، أو هو لا يفهم من عمله شيئاـ وهذا بعض سبب الفوضى والترهل الشنيع السائدين في كتابة العرب أيامنها هذه ـ عباراتٌ بصيغة توضيحية، ونبرة تقريرية، بل تنظيرية، يستبق إليها الكاتب الناقد، بل يعفيه مؤقتا من بعض مهامه، نظير أنه أو شخصيته في وضع: ’تأجج التهيؤات وانعدام التآلف بين الواقع ودخيلتي’(31)، وسيادتُها تلغي الحد بين ما هو سردي وما هو تأملي صرف، خارج نطاق القص، أيا كان نوعه، ونجدها تارة أخرى ضمنية، متحكمة في تصور كتابة النص، متموّجة بين خطاب الشخصية ولسان المؤلف نفسه، وهو ما تمثله مطلقا مجموعة: ’اعتقال الغابة..’ بناءً وصياغةً وما تسميه ب’التفاعل النصي’ أي إلى تناصيتها المنوّه بها. إن هذا الضرب من التصور والتنفيذ، حيث تنشط آلية التجريب بقوة، يتمرن فيها الكاتب على طرق لعِبيّة في السرد والوصف والحبك لو تأتّى، والفن لعب إن ُأُتقِنَ بمهارة، لهو جيد في ذاته، لولا محاذير الإغراق في التجريد، والتفكيك الذي ليس مضمون التركيب، والشكلانية، أي تنويع وتوسيع مروحة الكلام على أوجه عينية، وصور بلاغية، حيث يصبح القول هو موضوعُه، قد أغراه تكاثر شكله، من غير أن ينتبه مُنشئه (بطله) إلى تبعثر وجهه في المرايا، اللهم أن يكون التبعثر هو القصد، وهذه الطريقة في الكتابة خُطتُه، لكنها بأي حال، وبما أننا في مقام المجاز، لا يمكن أن تعتقل الغابة في زجاجة، لأن الزجاجة جمع لا شتات، شكل لا هلام، نظام وليست سديما، والبحر أيضا له ضفافه تميزه عن اليابسة.

11ـ واضح أننا إزاء نزوع لكتابة نص متحرر من الجنس الأدبي (ق. ق)، أو مخترِق له، أو مستعينٍ بأدواته شكلا، مفجر لها بناءً ومقصدا ، أو نص بين بين، بحثٍ عن وجه مختلف للكتابة، دأْب الأدب دائما، نصوص (قصص) الرافعي تجسيد آخر في هيئتها الكبرى. حسن، إنما، وبما أنه قطع شوطا وهو يبحث (أو يضيع) في القسم الآخر من الغابة، فقد آن له، أعني لهذه الكتابة أن تخطب مآلها، ولا أقول حدودها، ذلك أن أخطر اختبار للتجريبي هو كيف يحسن تدبير تجريبيته، وأن يعي ذات يوم، أهمية أن يَنْضمّ إلى سياق الكتاب الكبار الذين سبقوه، وبقدر ما سيصبح كلاسيكيا بالمعنى العظيم ستظهر التجريبية مرحلة عبور لا رُسُوّ.

عن موقع جريدة القدس العربي

 المقال في جريدة القدس العربي بالـ pdf

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)