Article de presse - مقال صحفي

اعترافات جان جاك روسو بالعربية بقلم خليل رامز سركيس ترجمة - Traduction

, بقلم محمد بكري

جريدة النهار اللبنانية
الأحد 09 أيلول 2012- السنة 80 - العدد 24843
أدب فكر فن
رلى راشد

جريدة النهار اللبنانية


"اعترافات" جان جاك روسو بقلم الكاتب الكبير خليل رامز سركيس

بناءٌ ترجميّ شاهق ولغةٌ متألقة لا تليق بهما الصفات المعهودة


“النص الأصلي خائن للنص المُتَرجَم”. الكلام لخورخي لويس بورخيس ناقل كافكا وفولكنر وميلفيل وآخرين من الإنكليزية الى القشتالية. ليست المقاربة مألوفة لأننا نسلّم في معظم الأحيان، بنقيضها القائل ان النص المُترجَم يخون النص الأصلي، بل يقترف ازاءه فعلا يشبه تدنيس الموتى. ليست أفضل الترجمات هي الأكثر وفاء للنص الأساس إنما تلك المكتوبة على أفضل نحو والأكثر قدرة على الإمتاع. بهذا المعنى، لا يسعنا ان نقيس “الإعترافات” التي عرّبها خليل رامز سركيس من حيث وفاؤها للأصل او خيانتها له فحسب، وانما في الاستناد الى إلتزامها معارف يُدخلها الكاتب والمترجم، ولغة يخاويها.

احتفاء بالمئوية الثالثة لولادة جان جاك روسو، أعادت “المنظمة العربية للترجمة” بالتعاون مع “اللجنة الوطنية اللبنانية الأونيسكو”، إصدار “الإعترافات” المنقولة الى العربية بعد ولادة أولى، في 1982. جاء الإصدار بمثابة تذكير بأن الترجمة نمط للقراءة، وتأويل للنص وإعادة بناء له. الصيغة المترجمة من سيرة روسو الذاتية، بناء شاهق وعمل دؤوب يبتّ انفتاح لغة على لغة وثقافة على ثقافة. نقصّر اذا أسبغنا عليها تاليا أياً من الصفات النهائية المتقوقعة في تفسير، لأنها لا تليق بسوى النصوص “المُنزلة” والأخرى الباعثة على السأم فحسب. أما التمرين الأدبي وصنوه المنقول فبمثابة مكان مفتوح على شتى الاحتمالات.

تسمح “الاعترافات” من موقعها كمشروع سيرة ذاتية، بتأمل فعّال للنفس، في حال تمسّكها بالصدق. غير ان ثمة شكوكا تحوم حول دقة اعترافات روسو، يؤكدها بنفسه، في رابع جولات “أحلام يقظة جوّال منفرد”. أتمّ روسو “الاعترافات”، منطلقا من مخزون الذاكرة التي خانته، على ما يقرّ، في حالات عدة، ليحاول ان يسدّ الثغر عبر تفاصيل مكمّلة لشذرات الذكريات، جازما أنها لم تناقضها مرة. يصطدم إلحاح الحقيقة عند روسو بمحدودية الذاكرة اذاً، فضلا عن نزوعه الى تحليل بعض الحوادث على نحو متشائم لأنه عدّ نفسه ضحية اضطهاد. أما الراوي روسو فيميل الى مدّ حوادث معيشة، بحسّ درامي، او يعمد الى رفع اللحظات السعيدة الى مستوى المثالية.

الحلّة الأدبية الرفيعة تتأمل الحرية

يدخل سركيس في وسط هذا الكمّ من التلاطمات النفسانية والفلسفية والذاتية المعبّر عنها بحلّة أدبية رفيعة، لينقل تأمّل الحرية. يسكب مقاربته في لغة متألقة، قلّ نظيرها في النسخ المترجمة، لأنها لسان الأديب عندما يقارع أديباً آخر على معرفة وثيقة به، وإن فرّقتهما ثلاثة قرون. يضعنا النص العربي أمام ضرورة الاقرار بأن ثمة من يستطيع النجاة بالاستحقاقات العسيرة والمتطلّبة مثابرة وتفسيرا وتدقيقا، لأنه يوفق في الإيغال في متن اعترافات روسو ليفي العمل الأصلي جلّ ما يستحق. شُيّدت النسخة العربية على الفرادة والتركيب في آن واحد، وعلى مناخ استبقاء حرية المرء البدئية وحرية المستوحِد المهشّم بثقل الحلم.

يذكر عبد العزيز لبيب الذي أوكلت إليه مراجعة النسخة المعرّبة وتصديرها في صدورها الثاني، ان مهمته لم تقم البتة على التصويب انما كـ"ضرب من التأويل على التأويل والشرح على الشرح". والحال ان النزوع الى التراكم هو من صلب منجز سركيس في الأساس، حيث يعمد الى التبحّر في بيئة النص الفرنسي ليسكبها في وعاء النص العربي، تلاحقه الرؤية كما عند روسو، تلك التي لا يسعها ان تتنصّل من المنطق. يلتصق النص المعرّب بمنطق نظيره الفرنسي إذاً، وإزاء مجد الفيلسوف الذي كرّسه منجز روسو وأمام عصر التنوير كفنّ للحياة كذلك.

التقطيع والتطلب والتفسير

يحتفظ سركيس في القسط الأكبر من الترجمة بإيقاع تقطيع الجمل المعتمد في النسخة الفرنسية وصولاً الى إبقاء علامات الوقف (النقطة والفاصلة وعلامتا التعجب والاستفهام وسواها). لا يتردد ايضا في الزيادة التفسيرية حيث يتطلب الأمر، منعا للانزلاق الى الالتباس. يرد على هذا النحو في الفصل الثاني: “ودخلت العالم واثقا من أن استحقاقي كفيل أن يملأ مداه الفسيح”، ليضيف مباشرة بين قوسين بعد “استحقاقي” ("جدارتي/ مزيتي"). في حين يجعل بعض الكلمات تستريح في مقصدها المرجو أيضا ليسهل على القارئ تلقفها، كأن يورد “بأناي” مباشرة بعد “بنفسي”. ها هنا نجد سركيس يفي “الأنا” المشظّاة والمتضائلة في “الاعترافات” حقّها، تلك عينها التي كان لا يزال روسو يحتاج إليها في تلك الحقبة التأليفية عندما لم يكن بلغ الغبطة والوحدة بعد.

في خيارات سركيس للمرادفات العربية تطلّبٌ وتعمق، ذلك انه لا ينتقي البديهية منها أو الأوليّة، وإنما تلك القادرة على حفر المعنى لتصل به الى القعر. يستقدم على هذا النحو صيغة الجمع، “طوّفت في الأرضين”، ليعرّب معنى يفيد في الفرنسية بالتجوال في العالم، فيمدّ المرادف العربي من خلال اختيار “الأرضون” بسمة الإتساع. يروح أحيانا يتصرّف بالنص الأصلي كذلك، فيحذف الإشارة الزمنية الواردة في النسخة الفرنسية “منذ عامين” في الفصل عينه، في جملة “لقد شاء المارشال أن يخصّني بشيء في وصيته”. في حين تساهم الهوامش التي يدخلها المترجم في وضع المضمون في سياق بيوغرافيا روسو، كأن يضيف صوب خاتمة “الإعترافات” وفي موازاة ذكر الكاتب قراءته على البعض يسمّيهم بالإسم، ملاحظة “كان روسو يجتمع الى بعض معارفه ليقرأ عليهم الإعترافات”.

ثمة تحدّ جليّ في التودّد الى لغة منصرمة، الى فرنسية القرن الثامن عشر التي تموضعت لسانا ثقافيا في فلك أدب الأفكار حيث لم يكن النقاء اللغوي من صلب الكلام التأليفي. يدفع روسو على هذا النحو بنصّه الى ألسنة أخرى عدا الفرنسية، ليورّط سركيس بمهمة تحديد قرائن عربية للتعابير اللاتينية وسواها الإيطالية. تصير in fiocchi بالايطالية “لباس الاحتفال” وتنقل Di prima intenzione الى لغة الضاد لتغدو “إرتجلت”.

يقرّب سركيس وصف روسو الهزّاء من مرارة ثرفانتس وسخرية الجاحظ في تقديمه لـ"الاعترافات" ليتراءى في رؤيته الشاملة تلك، لا يوفر جهدا في التمهّل البحثي. لا يكاد القارئ يحتاج الى التنقيب عن تفسيرات خارج دفّتي النسخة المعرّبة، ذلك ان سركيس يحرص على تيسير تلقف التفاصيل، فيشير على هذا المنوال، في الفصل السابع من الجزء الثاني، الى “أن كورالين وشقيقتها كميل” المذكورتين في النص “ممثلتان ايطاليتان” او ان الماركيز دولوبيتال “سفير فرنسا في نابولي” في مكان آخر.

أجرى الزميل رؤوف قبيسي قبل شهور، مقابلة مع خليل رامز سركيس المنسحب الى الغمامة اللندنية، نُشرت في “النهار”. في ذاك الحوار عاين الكتابة ملح الأرض وسرّ وجوده، إذا لم يمارسها مات. لا يلجأ سركيس إلى الكتابة كما يلجأ الصانع إلى صنيعه اليومي، وإنما إذا شعر بدوافع نفسية وعقلية وجسدية تجعله يذهب إلى القلم، وتجعل القلم يأتي إليه. حسبنا ان الدوافع عينها، ذاك المزيج من الابتهال والودّ المعرفي، تحرّك سركيس المُعرّب. يتحبب الى بعض روائع الأدب العالمي ليساهم في انتشالها من غفليّة محلية تصيبها، ليقيمها عند الفصل الأمامي من عناوين المكتبة العربية.

عن موقع جريدة النهار اللبنانية


النهار هي صحيفة لبنانية سياسية مستقلّة رائدة. وقد صدر العدد الأوّل في 4 أغسطس/آب 1933 في أربع صفحات. بدأت الصحيفة التي كان عدد موظّفيها خمسة بينهم المؤسّس جبران تويني، مع رأسمال من 50 قطعة ذهبية جُمِعَت من الأصدقاء، وكانت تُوزِّع 500 نسخة فقط. ولاحقاً تولّى ابن جبران، غسان تويني، وحفيده الذي يحمل الاسم نفسه، جبران تويني، رئاسة التحرير والنشر. حالياً تشغل نايلة تويني منصب رئيسة التحرير ورئيسة مجلس الإدارة.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)