السنة الرابعة والعشرون ـ العدد 7337 الاثنين 21 كانون الثاني (يناير) 2013 ـ 10 ربيع الاول 1434هـ
جريدة القدس العربي
القاهرة (مصر) - محمود قرني
تضم ابن المقفع وابن طُفَيْل والمنفلوطي ومحمد حسين هيكل : إعادة طبع الكلاسيكيات في سلسلة جديدة
كرس الناشر محمد رشاد صاحب الدار المصرية اللبنانية سلسلة أدبية وفكرية وثقافية جديدة تحمل إسم ’كلاسيكيات’ خرج إلى النور منها حتى الآن كتب: العبرات والنظرات (ثلاثة أجزاء) والشاعر والفضيلة أو ’بول وفرجيني’ وفي سبيل التاج وماجدولين أو ’تحت ظلال الزيزفون’ لمصطفى لطفي المنفلوطي (1876 1924م). ورواية زينب أول رواية عربية متكاملة فنيّاً، وعُثمان بن عفان والصدّيق أبو بكر لمحمد حسين هيكل (1888 1956م و الفاروق عمر (جزءان) وحياة محمد لهيكل، وحي بن يقظان لابن طفيل، والإلياذة والأوديسة (لهوميروس)، وفي منزل الوحي، وحياتي لأحمد أمين، وهكذا خلقت والأدب الصغير والأدب الكبير (لابن المقفع).
وستصدر بقية الكتب التي شكلت وجدان المصريين تباعاً، وهي بشكلها الجديد لا تزال قادرة على إثارة الدهشة، والقيام بالدور نفسه لدى الأجيال الجديدة.
قدمت الدار سلسلتها الجديد عبر شروح وضبط لما يصعب أو’يغمض مدلوله على القارئ من الكلمات والعبارات، ففي رواية ’زينب’ التي مر قرن من الزمان على تأليفها، حرصت الدار على شرح الكلمات والعبارات الصعبة، خصوصاً الكلمات الريفية أو’العامية التي كانت متداولة في القرية المصرية آنذاك وهكذا الأمر مع الكتب جميعها، نظراً لتطور اللغة العربية منذ أول القرن حتى الآن.
يشرف على السلسلة محمد فتحي أبو بكر الذي قدمها وعلق عليها.
كما قام فتحي أبو بكر بتقديم وافٍ لكل المؤلفين والكتاب الكبار من أعلام القرن العشرين الذين تنشر السلسلة كتبهم، عبر سرد سيرهم الذاتية، وأهم محطات حياتهم، ومؤلفاتهم وتأثيرها في زمنها، وفي الأجيال المتعاقبة، وكيف رآهم روّاد عصرهم وقرَّاؤهم، وهم بهذا يعدون في رأيه المثل الأعلى للشباب، خصوصاً في هذا العصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وضعفت فيه ملكة اللغة والأدب لدى الشباب والناشئين وغيرهم بسبب عوامل كثيرة وظروف قاهرة، فتراث هؤلاء الكتاب مثل أعلى ونموذج راقٍ يقتدى به في سلامة إنشائهم وصقل أساليبهم، واعتدال ألسنتهم وقوة لغتهم وسلامتها.
ومن ناحية أخرى، يعطي التعريف الكامل في المقدمات بهؤلاء الكتاب صورة بانورامية لحضور مصر الثقافي في القرن العشرين، خصوصاً النصف الأول منه، وكانت مصر بسبب هؤلاء المفكرين رائدة أمتها العربية.
السلسلة تنشر كتب أهم ثلاثة كتاب في بدايات القرن العشرين :
الكاتب الأول هو: أحمد أمين فموسوعة أحمد أمين مثلاً (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام)، تقدم صورة طليعية للإسلام الحضاري، الذي أسس كيانات معظم الدول الإسلامية، التي تحاول النكوص عنه الآن، فتناولت الإسلام وحضارته من شتى جوانبه أدبيّاً وفنيّاً وثقافيّاً وعلميّاً، فلم يقتصر الإسلام على الطقوس والفقه فقط، بل امتد ليشمل جوانب الحياة كلها سياسة وإعاشة.
وذلك هو السلاح القوي الماضي في مُواجَهة الهجمة الشرسة التي يشنُّها أعداءُ الإسلامِ هذه الأيام ضد العروبة والإسلام ونبيِّ الإسلام، وهو السلاح الفَعَّال في مُواكَبة هذا العصر، عصر المعلومات والمعرفة، وهو الذي يحقق الحاضِرَ الواعِدَ والمستقبل الـمُشرق للإسلام والأُمَّة العربية، والنهوض بها مِمَّا أصابها من ضَعْفٍ ووهن.
وليس أقدر على ذلك من مفكر غير أحمد أمين بحساسيته المعرفية وموسوعيته العلمية وبهذا المنهج، وهذا الأسلوب، وهذه النتائج التي تَوَصَّلَ إليها أحمد أمين في تأريخه للحياة العقلية في الإسلام، حيث أَبْهَرَ الناسَ بذلك، ومَهَّدَ الطريق لكثيرٍ من الباحثين مِمَّنْ أَتَوْا بعده وبهذا أصبح واحِداً من أبرز المفكرين والأُدباء من جِيلِ الرُّوَّاد.
حتى أن طه حسين (1889 1973م) قال عنه: ’لقد أَهْدَى أحمد أمين إلى العَالَمِ الحديث بتأليف ’فجر الإسلام وضُحَاه وظُهره’ كَنْزاً مِنْ أقْوَمِ الكُنوز وأعظمها حَظّاً من الغِنَى، وأقدرها على البقاء ومطاولة الزمان والأصراح’.
وقال أيضاً: ’مَنْ أَلَّفَ فَجْرَ الإسلام وضُحَى الإسلام وظُهْرَ الإسلام أَبْقَى على الأيامِ من أن يُدْرِكَهُ الموتُ’ ؟
وقال عنه عبد الرازق السنهوري (1895 1971م): ’إن سلسلة فَجْر الإسلام وضُحاه وظُهْره من أقوم وأروع ما وُضِعَ عن الحياةِ العقليةِ والفكرية الإسلامية’. وقال أيضاً: ’لقد أسس أحمد أمين مدرسةً في الفكر الإسلامي لا أعرف أن مُعَاصِراً قام بعملٍ يُدانيه، وستبقى هذه المدرسة راسخةَ الأصْلِ باذِخَةَ الفُروعِ، وسيظل هو إمامها وزعيمها الفكري الكبير’.
وقال أحمد حسن الزيات (1885 1968م) صاحب مجلة ’الرسالة’: ’حَسْبُ أحمد أمين أنه حَلَّلَ الحياة العقلية للعرب والمسلمين في كُتُبه: فَجْر الإسلام وضُحَاه وظُهْره، تحليلاً لم يتهيأ مثله لأحَدٍ من قَبْلِه. وستظل هذه الكتب الخالدة شاهدة على الجهد الذي لم يَكِلَّ، والعقل الذي لم يَضِلَّ، والبصيرة التي نَفَذَتْ إلى الحق من حَجَب صَفِيقَةٍ واهتدت إليه في مسالك مُتَشَعِّبَة’.
وقال الدكتور أحمد فؤاد الأهواني (1908 1970م): ’لم يظفرْ كتابٌ من الذُّيوع والانتشار والتأثيرِ بمِثْلِ ما ظَفِرَتْ به مجموعةُ الكتب التي أصدرها أحمد أمين حين أصْدَرَ فَجْر الإسلام وتَبِعَهَا بضُحَى الإسلام ثم ظُهْر الإسلام’.
وقال أيضاً: ’أصبح الفَجْرُ والضُّحَى والظُّهْرُ مَرْجِعَ كُلِّ طالبٍ ومُرْشِدَ كُلِّ باحثٍ، والمنارة التي يَهْتَدِي بها الناظر في التاريخ الإسلامي وحضارته’.
والكاتب الثاني الذي تنشر السلسلة كتبه هو: مصطفى لطفي المنفلوطي وهو أديب مصري نبغ في الإنشاء والأدب، انفرد بأسلوب نقي في مقالاته، له شعر جيد فيه رقة، قام بالكثير من الترجمة والاقتباس من بعض روايات الأدب الفرنسي الشهيرة بأسلوب أدبي فذ، وصياغة عربية غاية في الروعة لم يحظ بإجادة اللغة الفرنسية لذلك استعان بأصحابه الذين كانوا يترجمون له الروايات ومن ثم يقوم هو بصياغتها وصقلها في قالب أدبي. كتاباه (النظرات والعبرات).
ولد مصطفى لطفي المنفلوطي في سنة 1293هـ الموافق 1876م من أب مصري وأم تركية في مدينة منفلوط من الوجه القبلي لمصر من أسرة حسينية النسب مشهورة بالتقوى والعلم نبغ فيها من نحو مائتي سنة، قضاة شرعيون ونقباء، ومنفلوط إحدى مدن محافظة أسيوط. نهج المنفلوطي سبيل آبائه من الثقافة والتحق بكتاب القرية كالعادة المتبعة في البلاد آنذاك فحفظ القرآن الكريم كله وهو في التاسعة من عمره ثم أرسله أبوه إلى الجامع الأزهر بالقاهرة تحت رعاية رفاق له من أهل بلده، فتلقى فيه طوال عشر سنوات علوم العربية والقرآن الكريم والحديث الشريف والتاريخ والفقه وشيئاً من شروحات الأدب العربي الكلاسيكي، ولا سيما العباسي منه. وفي السنوات الثلاث من إقامته في الأزهر بدأ يستجيب لتتضح نزعاته الأدبية، فأقبل يتزود من كتب التراث في عصره الذهبي، جامعاً إلى دروسه الأزهرية التقليدية قراءة متأملة واعية في دواوين شعراء المدرسة الشامية (كأبي تمام والبحتري والمتنبي والشريف الرضي) بالإضافة إلى النثر كعبد الحميد الكاتب وابن المقفع وابن خلدون وابن الأثير. كما كان كثير المطالعة في كتب: الأغاني والعقد الفريد وزهر الآداب، وسواها من آثار العربية الصحيحة. وكان هذا التحصيل الأدبي الجاد، الرفيع المستوى، الأصيل البيان، الغني الثقافة، حرياً بنهوض شاب كالمنفلوطي مرهف الحس والذوق، شديد الرغبة في تحصيل المعرفة. ولم يلبث المنفلوطي، وهو في مقتبل عمره أن اتصل بالشيخ الإمام محمد عبده، الذي كان إمام عصره في العلم والإيمان، فلزم المنفلوطي حلقته في الأزهر، يستمع منه شروحاته العميقة لآيات من القرآن الكريم، ومعاني الإسلام، بعيداً عن التزمت والخرافات والأباطيل والبدع، وقد أتيحت له فرصة الدراسة على يد الشيخ محمد عبده وبعد وفاة أستاذه رجع المنفلوطي إلى بلده حيث مكث عامين متفرغاً لدراسة كتب الأدب القديم فقرأ لابن المقفع والجاحظ والمتنبي وأبي العلاء المعري وكون لنفسه أسلوباً خاصاً يعتمد على شعوره وحساسية نفسه.
وللمنفلوطي أعمال أدبية كثيرة اختلف فيها الرأي وتدابر حولها القول وقد بدأت أعمال المنفلوطي تتبدى للناس من خلال ما كان ينشره في بعض المجلات الإقليمية كمجلة الفلاح والهلال والجامعة والعمدة وغيرها ثم انتقل إلى أكبر الصحف وهي المؤيد وكتب المقالات بعنوان: ’نظرات’ جمعت في كتاب تحت الاسم نفسه على ثلاثة أجزاء.
من أهم كتبه ورواياته التي نشرتها الدار المصرية اللبنانية طبعة عصرية من:
- النظرات: (ثلاثة أجزاء). يضم مجموعة من مقالات في الأدب الاجتماعي، والنقد، والسياسة، والإسلاميات، وأيضاً مجموعة من القصص القصيرة الموضوعة أو المنقولة، جميعها كانت قد نشرت في جرائد وقد بدأ كتابتها بها منذ العام 1907.
- العبرات: يضم تسع قصص، ثلاثاً وضعها المنفلوطي وهي: الحجاب، الهاوية. وواحدة مقتبسة من قصة أمريكية اسمها صراخ القبور، وجعلها بعنوان: العقاب. وخمس قصص عربها المنفلوطي وهي: الشهداء، الذكرى، الجزاء، الضحية، الانتقام. وقد طبع في عام 1916.
- رواية في سبيل التاج ترجمها المنفلوطي من الفرنسية بتصرف. وهي أساساً مأساة شعرية تمثيلية، كتبها فرانسو كوبيه أحد أدباء القرن التاسع عشر في فرنسا. وأهداها المنفلوطي لسعد زغلول في العام 1920.
- رواية بول وفرجيني صاغها المنفلوطي بعد ترجمته لها من الفرنسية وجعلها بعنوان الفضيلة وتسرد هذه القصة عدة أحداث لعل من أهمها الحب العذري لبول وفرجيني لبعضهما والمكافحة في سبيل أن يبقى هذا الحب خالداً للأبد في قلوبهم الندية. وهي في الأصل للكاتب برناردين دي سان بيير من أدباء القرن التاسع عشر في فرنسا وكتبت في العام 1789م.
- رواية الشاعر هي في الأصل بعنوان ’سيرانو دي برجراك’ عن الشخصية بنفس الاسم للكاتب الفرنسي أدموند روستان، وقد نشرت بالعربية في العام 1921.
- رواية تحت ظلال الزيزفون صاغها المنفلوطي بعد أن ترجمها من الفرنسية وجعلها بعنوان مجدولين وهي للكاتب الفرنسي ألفونس كار.
وثالث هؤلاء الكتاب هو : محمد حسين هيكل (1888 1956م) شاعر وأديب وسياسي كبير مصري، ولد في 20 أغسطس 1888م الموافق 12 ذو الحجة 1305هـ في قرية كفر غنام في مدينة المنصورة، محافظة الدقهلية، مصر.
درس القانون في مدرسة الحقوق الخديوية بالقاهرة وتخرج فيها في عام 1909م. حصل على درجة الدكتوراه في الحقوق من جامعة السوربون في فرنسا سنة 1912م، ولدى رجوعه إلى مصر عمل في المحاماة عشر سنوات كما عمل بالصحافة. اتصل بأحمد لطفي السيد وتأثر بأفكاره، والتزم بتوجيهاته، كما تأثر بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وغيرهم.
كان عضواً في لجنة الثلاثين التي وضعت دستور 1923، أول دستور صدر في مصر المستقلة وفقاً لتصريح 28 من فبراير 1922م. لما أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة أسبوعية باسم السياسة الأسبوعية عين هيكل في رئاسة تحريرها سنة 1926. اختير وزيراً للمعارف في الوزارة التي شكلها محمد محمود عام 1938م، ولكن تلك الحكومة استقالت بعد مدة، إلَّا أنه عاد وزيراً للمعارف للمرة الثانية سنة 1940م في وزارة حسين سري، وظل بها حتى عام 1942م، ثم عاد وتولى هذا المنصب مرة أخرى في عام 1944م، وأضيفت إليه وزارة الشئون الاجتماعية سنة 1945م.
اختير سنة 1941م نائباً لرئيس حزب الأحرار الدستوريين، ثم تولى رئاسة الحزب سنة 1943م، وظلَّ رئيساً له حتى ألغيت الأحزاب بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952. تولى رئاسة مجلس الشيوخ سنة 1945م وظل يمارس رئاسة هذا المجلس التشريعي حتى يونيو 1950م حيث أصدرت حكومة الوفد المراسيم الشهيرة التي أدت إلى إخراج هيكل وكثير من أعضاء المعارضة من المجلس نتيجة الاستجوابات التي قدمت في المجلس وناقشت اتهامات وجهت لكريم ثابت أحد مستشاري الملك فاروق. تولى أيضاً تمثيل السعودية في التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية عام 1945م، كما رأس وفد مصر في الأمم المتحدة أكثر من مرة.
وتوفي يوم السبت 5 من جمادى الأولى 1376هـ الموافق 8 من ديسمبر 1956م عن عمر يناهز 68 عاماً.
بعد أن أرسى هيكل فن الرواية العربية بروايته ’زينب’ ذهب بعد ذلك إلى مصادر الإسلام الأولى فألقى عليها أضواءً جديدة، وقد تفوق هيكل في الكتابة التاريخية لاتساع نظرته ودقة بحثه فكتب حياة محمد ، وكتب في منزل الوحي، والصديق أبا بكر، وكتب الفاروق عمر (في جزأين)، وكتب عثمان بن عفان (بين الخلافة والملك).
ثم رجع هيكل أخيراً إلى كتابة القصة، فأخرج في سنة 1955م قصة ’هكذا خُلقت’، وهي قصة طويلة تقصُّ حياة امرأة مصرية عصرية أُصيبت بشذوذ الغيرة، واضطربت بهذا الشذوذ في محيط الدعوة الجديدة إلى الحرية السوية، وسلطته على حياتها الزوجية فحطمها مرتين كما يحطم الطفل لعبته ... ويتابع هيكل بعد ذلك كتابة القصة القصيرة وينشرها في الصحف الأسبوعية ... وما يلبث أن يلبي داعي ربه في ديسمبر سنة 1956م، ورثاه الكثيرون من علماء الأمة وأدبائها، وقد جُمع ما قيل فيه من تأبين ورثاء في كتاب يحمل اسمه، وقد طبع في القاهرة سنة 1958م، ولعبد العزيز شرف كتاب ’الدكتور محمد حسين هيكل في ذكراه’ نشرته دار المعارف في سلسلة اقرأ، غير ما كتبه عنه الراحل الدكتور شوقي ضيف والدكتور عبد المحسن طه بدر، والدكتور أحمد هيكل، والدكتور علي الراعي وغيرهم من الرواد ...
وكانت البداية التاريخية مع ’الفاروق عمر’.
لقد تناول الكاتب في فصول هذا الكتاب صُوَراً من حياة الفاروق في جاهليته، وفي العهد الأول من إسلامه، ومُلازمته للرسول وحضوره المواقع معه، ووقوفه بجانب أبي بكر إبَّانَ خلافته، وبَعْدَ أن قَضَى على الرِّدَّةِ والمرتدّين في بلاد العرب، فَمَهَّدَ بذلك لوحدة شبه الجزيرة العربية السياسية، ثم مَهَّدَ للفتح والإمبراطورية الإسلامية بغزو العراق والشام .. ثم كيف تَابَعَ الفاروق هذه السياسة من يوم استُخْلِفَ، فواصلت الجيوشُ العربية في عهده الفتوحات التي كانت قد بَدَأَتْ في عهد أبي بكر، وتمكَّن قُوَّادُ جَيْشِه - بفضل يقظته وحَزْمِهِ وسداد رأيه - من إكمال فتح الشام والعراق وغالبية فارس، ومن فَتْح مصر وفلسطين، وبذا وثَّقَ أواصِرَ الوحدة العربية في شبه الجزيرة العربية، وأزال مُلْكَ الأكاسرة من العراق، ومُلك القياصرة من الشام، ومَدَّ وَحْدَةَ العرب من خليج عَدَن جنوباً إلى أقصى الشام في بادية الشام، حتى قيل : انتصبَ في مُدَّتِهِ اثنا عشر ألف منبر في الإسلام.
إن الفاروق يُعَدُّ - بعد النبي وبعد خليفته أبي بكر - من أعظم الشخصيات الإسلامية العربية، وهو بحق يُعَدُّ مؤسس الإمبراطورية الإسلامية، فقد نَهَضَ بإِعْداد جيوش الفتح، ونَظَّمَ الفتوحات - بوضْع كثيرٍ ممن الأُسس والنُّظُم الإدارية - كما أَمَرَ بإنشاء معسكرات للجند تكون مقصورة عليهم - وقد أصبحت فيما بعد مُدُناً زاهرة - منها البصرة، والكوفة، والفسطاط .. وهو أول مَنْ دَوَّنَ الدواوين في’الإسلام لضبطِ المال، وعمل إحصاءً للمسلمين، وفَرَضَ لهم الأُعطيات والمرتبات، مبتدئاً بأزواج النبي ، ثم أهْلِ السَّابقة .. وهو أول من استقضَى القضاةَ، وأولُ مَنْ وَضَعَ للعرب التاريخ الهجري - وكانوا يُؤرِّخُون بالوقائع - وقد رفَضَ أن يجري على أرض السَّوَاد حُكْم الغنيمة، فتركها في أيدي أصحابها يدفعون عنها خَراجاً، ويُنْسَبُ إليه كثير من أحكام أهل الذِّمَّة الذين حَرِصَ على عَدَم إرهاقهم.
لقد عُرِفَ الفاروق بشدَّته في الحق ومَخافته من الله، وحِرْصِه على العَدْل، والعمل على خِدْمَةِ رعيته، فكان يطوف في الأسواق منفرداً، ويقضي بين الناس حيث أدركَهُ الخُصوم، وكان يُحاسِبُ وُلاته على أعمالهم، ويحصي عليهم أموالهم، واستطاعَ باستقامته وحَزْمِه أن يستفيدَ من جُهود القُرشِيِّين بدون أَنْ يَجْرُؤَ أَحَدٌ منهم على مُخالَفتِه، لذا اتَّخَذَهُ المسلمون مَثَلاً أعْلَى للحاكم العادل الذي يتحلَّى بأسمى الفضائل’..
والكتاب الثاني هو ’الصِّديق أبو بكر’:
وكان سيداً من سادات قريس، وغنيّاً من كبار مُوسِرِيهم.. وُلد بمكة سنة واحدٍ وخمسين قبل الهجرة (573م)، وكان عالماً بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكان يُلَقَّبُ بعالِمِ قُريش... وحَرَّمَ على نفسه الخَمْرَ في الجاهلية، فلم يشربها.. وفي عصر النبوة كانت له مواقفُ كبيرة، فَشَهِدَ الوقائعَ والغزوات مع رسول اللَّه ، واحتملَ الشدائدَ، وبَذَلَ الأَمْوَالَ.. وبُويِـعَ بالخلافَةِ يومَ وفاةِ النبي سنة 11 هجرية.. فَحَارَبَ المُرْتَدِّينَ والمُمْتَنِعِينَ من دَفْع الزكاة.
وهو الذي قَرَّرَ غَزْوَ الشَّام كما قرر غزو العراق، وهو الذي سَيَّرَ الإمداداتِ إليهما.. وفي أيامه افتُتِحَتْ بلادُ الشامِ وقِسْمٌ كبير من العراق، وأَنَّ ما تَمَّ من نَصْرٍ على الروم والفُرْسِ في عهده كان أساس الإمبراطورية الإسلامية... ومن أشهر قُوَّادِهِ خالد بن الوليد، القائد المظفر فـي حربِ الرِّدَّةِ وفي فتـح العراق وفتح الشام، وأبـو عُبيدة بن الجَـرَّاح، وعَمْـرو بن العاص، ومُعـاذ بن جَبَل، ويـزيد بن أبي سفيان، وأَخُوهُ معاوية، وعِكْـرِمَة ابن أبيجهل، وشَرَحْبِيل بن حَسَنَة، والعلاء بن الحَضْرَمِيّ، وغيرهم من القُوَّاد الأبطال.
كان موصوفاً بالحِلْمِ، والرأفة بالعامَّة، قال : ’أرحم أمَّتِي أبو بكر، وأشدها في دين اللَّه عمر، وأشدها حياء عثمان’. قال إِثْرَ بيعته : ’ إني وُلِّيتُ هذا الأمر وأنا له كَارِهٌ، وواللَّه لَوَدِدْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ كَفَانِيهِ.. ألَا وإنما أنا بَشَرٌ، ولَسْتُ بخيرٍ من أحدكم، فَراعُونِي، فَإِنْ رأيتموني استقمتُ فَاتَّبِعُونِي، وإنْ رأيتموني زُغْتُ فَقَوِّمُوني ’... وقال : ’قد وليت عليكم ولستُ بخيركم، فإنْ أحسنتُ فأَعِينُوني، وإن أسأْتُ فَقَوِّمُوني’.
لقد تَجَرَّدَ الصِّدِّيقُ - رضي اللَّه عنه - لِلَّهِ تَجَرُّداً مُطْلقاً، وأَوْجَبَ على نَفْسِهِ أن يُقِيمَ بين الناس عدلاً مُنَزَّهاً لا يعرفُ محاباةً، وإنما يعرف حدودَ اللَّه في أن يعيش الناسُ جميعاً في ظِلِّ عَدْلِهِ آمنين مطمئنين.
كانت حُكومته حكومةَ شُورَى في منشئها وفي نزعتها، حكومةً لم تعرف السُّلْطَانَ المطلق - وهذا هو الحُكْمُ في الإسلام.. حُكْمٌ مُقَيَّدٌ، خاضِعٌ لرقابةِ المسلمين جميعاً، لكل فرد منهم أن يُحاسِبَ القائمَ به - وكان يقول : ’أَطِيعُوني ما أَطَعْتُ اللَّه فيكم، فَإِنْ عَصَيْتُهُ فلا طَاعَةَ لي عليكم’، وهذا إقرارٌ صريحٌ بِحَقِّ الرَّأْيِ العام في مُراقبته وإرْشَادِهِ، وبحقِّ الناسِ في العِصْيَانِ إذا عَصَى الخليفة اللَّه وصَدَفَ عن أمْرِهِ، وحقهم في عَزْلِهِ.
وكان شديدَ الحِرْصِ على التقيُّدِ بكتابِ اللَّه والتَّأَسِّي برسوله في التَّنَزُّهِ عن كُلِّ مَطامِعِ الدنيا، ثقةً منه بأنَّ مَنْ سَاسَ أُمورَ الناسِ فأفادَ لِنَفْسِهِ منها كان ظالماً لنفسه.. ولذا فإنه أَعَادَ إلى بيتِ مالِ المسلمين ما خَصَّصُوهُ له في فترة خِلَافَتِهِ قبل وفاته.
إن أعظمَ أعمالِ الصِّدِّيق قضاؤه على الرِّدَّةِ والمُرتدين في بلاد العرب، وفَتْحه العراق والشام، وتمهيده بذلك الفتح لقيام الإمبراطورية الإسلامية العظيمة التي حملت عبْءَ الحضارة الإنسانية قروناً متتابعة.. أمَّا جَمْعُهُ القرآنَ - بعد استشهاد أكثر حُفَّاظِهِ في حُروب الرِّدَّة - فَيُعَدُّ أعظمَ أعماله، وأكثرها بَرَكَةً على الإسلام والمسلمين والناس أجمعين.
لقد امتدتْ حُكومة أبي بكر إلى ما وراء بلاد العرب - كما ذكرنا - ومهدت للإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، وكانت مُدَّةُ خِلافتِهِ سنتين وثلاثةَ أَشْهُرٍ ونصف الشهر، وكانت وفاته بالمدينة يوم الاثنين لإحدى وعشرين ليلةً خَلَتْ من جُمادى الآخرة سنة 13 هـ (634م)، وهو في الثالثة والستين من عمره، وقد ارتَجَّتِ المدينةُ لوفاته، وصَلَّى عليه عُمر بنالخطاب، ودُفِنَ بجوارِ النبيِّ .. وَأَبَّنَهُ الإمامُ عَلِيٌّ وعُمَرُ، وأَبَّنَتْهُ أيضاً أُمُّ المؤمنين عائشة ابْنَتُهُ وكبار الصحابة...
وثالث الكتب لمحمد حسين هيكل هو ’في منزل الوحي’:
وقد تَمَثَّلَ الكاتبُ حياةَ النبي والمسلمين من حوله، ووقف عند كل مكانٍ سَارَ فيه النبي الكريم، ووقف عند آثاره يُحَدِّثُها وتُحَدِّثُهُ، فنراه يُعَبِّرُ بقلمه الفيَّاض عن آي الجلال والعظَمَة في حياة محمد وأصحابه، وعن الأماكن أو المواقع التي تهفو نفوس ملايين المسلمين وقلوبهم إليها، والتي تثيرُ في النفس معاني الإكبار والإعظام، فيهزُّهُم الحنين والشوق إلى زيارة تلك البلاد التي ضَمَّتْ تلك الأماكن المقدسة، ومنها البيت العتيق، وقبر الرسول ، وقبور أصحابه، وغير ذلك من المعالم التي زارها المؤلف وكتب عنها في هذا الكتاب، ومنها زيارته لجبل حِرَاء، والغار الواقع في قِمَّتِهِ، والذي كان البداية لنزول الوَحْي على سَيِّدِ المرسلين، وزيارته لمسجد العبَّاس بالطائف، ومسجد عَدَّاس، ومسجد العقبة، وجبل ثور الذي اختبأ فيه النبي وصاحِبُه أبو بكر حين أُذِنَ له بالهجرة إلى المدينة، ومسجد قُبَاء، والمسجد النبوي الشريف، والآثار الكثيرة المختلفة في مكة والمدينة، ومنها ميدان بدر حيث وقعت الغزوة الأولى بين قريش والمسلمين، والبقيع، وقبر حمزة، وغير ذلك من الآثار الكثيرة .. ثم ختم كتابه بحديث قَيِّم عن مظاهر الحياتين: المادِّيَّة والروحية.
يقول الناقد صلاح فضل في تقديمه للسلسلة إنها تمثل نافذة لمن يريد أن يتعرف على العقل العربي في أوج توهجه، وعلى لغة العلوم والآداب والفنون، وهي تتشكل بأنساقها الغنية، فبوسعه أن يتأمل هذه الكلاسيكيات؛ التي تكشف عن عبقرية المؤلفين لها ونضارة روح الجماعة، وأثر الوجدان القومي الذي حرص على جعلها من كنوزه الخوالد.
وهذه الكلاسيكيات تجسد حرية العقل ونقد النقل وفريضة التفكير وضرورة الاجتهاد، إلى جانب جني لذة الإبداع في الشعر والسرد، ومتعة التداول الحر للمعرفة والمعلومات عبر الأجيال المتتالية، وربط شباب الأمة بتراثها الجامع وهويتها الحقيقية.
وعن معايير اختيار الكتب الكلاسيكية التي يتم اختيارها في السلسلة، يحددها د. فضل في: إجماع أهل الذكر من العلماء والأدباء على أهميتها وتقدمها على غيرها. واعتراف الأجيال المتتالية بها، وبناؤهم على أسسها المعرفية والفنية. وتقديمها لأفضل ما يمكن أن يتعرف به الآخر علينا عند ترجمتها إلى اللغات الحية المختلفة.
ويضيف د. صلاح فضل: على أن هذه الكلاسيكيات تشمل الإنتاج المعرفي والإبداعي في العصور القديمة بمراحلها المختلفة، ثم تختار من إنتاج العصور الحديثة، ما اكتسب قيمة، تضاهي الروائع التي تعتقت بفعل الزمن، وأصبحت ركيزة للعقل والوجدان في الوطن العربي كله، واستحقت وصف الكلاسيكية العريق.