أولاد حارتنا، نجيب محفوظ (مصر)، رواية Les fils de la Médina, Naguib Mahfouz (Egypte), Roman

, بقلم محمد بكري

يبدأ نجيب محفوظ روايته أولاد حارتـنا بهذه الافتتاحية التي تلخص على أكمل وجه هذه القصة المتشعبة الأحداث والشخصيات. وقد رأينا أن نقدمها لكم كما هي دون زيادة أو نقصان، كما نشرت في الطبعة الخامسة لهذه الرواية في دار الآداب في بيروت في كانون الثاني / يناير عام 1986:

هذه حكاية حارتـنا، أو حكايات حارتـنا وهو الأصدق. لم أشهد من واقعها إلا طوره الأخير الذي عاصرته، ولكنني سجلتها جميعاً كما يرويها الرواة وما أكثرهم. جميع أبناء حارتـنا يروون هذه الحكايات، يرويها كُلُّ كما يسمعها في قهوة حيّه أو كما نقلت إليه خلال الأجيال، ولا سند لي فيما كتبت إلا هذه المصادر. وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات. كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة من ناصيتها المتصلة بالصحراء وقال في حسرة: “هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع وكيف نضام ؟!”، ثم يأخذ في قصّ القصص والاستشهاد بسير أدهم وجبل ورفاعة وقاسم من أولاد حارتـنا الأمجاد. وجدّنا هذا لغز من الألغاز. عمّر فوق ما يطمع إنسان أو يتصور حتى ضُرب المثل بطول عمره. واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يره منذ اعتزاله أحد. وقصة اعتزاله وكبره مما يُحيّر العقول، ولعل الخيال أو الأغراض قد اشتركت في إنشائها. على أيّ حال كان يدعى الجبلاوي وباسمه سُمّيت حارتـنا. وهو صاحب أوقافها وكل قائم فوق أرضها والأحكار المحيطة بها في الخلاء. سمعت مرة رجلاً يتحدث عنه فيقول: “هو أصل حارتـنا، وحارتـنا أصل مصر أمّ الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده ومنزلته عند الوالي، كان رجلاً لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره” وسمعت آخر يقول عنه : “كان فتوة حقاً، ولكنه لم يكن كالفتوات الآخرين، فلم يفرض على أحد إتاوة، ولم يستكبر في الأرض، وكان بالضعفاء رحيماً”، ثم جاء زمان فتـناولته قلة من الناس بكلام لا يليق بقدره ومكانته، وهكذا حال الدنيا. وكنت وما زلت أجد الحديث عنه شائق لا يمل. وكم دفعني ذاك إلى الطواف ببيته الكبير لعلي أفوز بنظرة منه ولكن دون جدوى. وكم وقفت أمام بابه الضخم أرنو إلى التمساح المحنط المركب أعلاه، وكم جلست في صحراء المقطم غير بعيد عن سوره الكبير فلا أرى إلا رؤوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتـنف البيت، ونوافذ مغلقة لا تـنم على أي أثر لحياة. أليس من المحزن أن يكون لنا جدّ مثل هذا الجد دون أن نراه أو يرانا ؟ أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن في التراب ؟! وإذا تساءلت عما صار به وبنا إلى هذه الحال سمعت من فورك القصص، وترددت على أذنيك أسماء أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، ولن تظفر بما يبل الصدر ويريح العقل. قلت أن أحداً لم يره منذ اعتزاله. ولم يكن هذا بذي بال عند معظم الناس، فلم يهتموا منذ بادئ الأمر إلا بأوقافه وبشروطه العشرة التي كثر القيل والقال عنها، ومن هنا ولد النزاع في حارتـنا منذ ولدت، ومضى خطره يستفحل بتعاقب الأجيال حتى اليوم، والغد. ولذلك فليس أدعى إلى السخرية المريرة من الإشارة إلى صلة القربى التي تجمع بين أبناء حارتـنا. كنا وما زلنا أسرة واحدة لم يدخلها غريب. وكل فرد في حارتـنا يعرف سكانها جميعاً نساء ورجالاً. ومع ذلك فلم تعرف حارة حدّة الخصام كما عرفناها، ولا فرّق بين أبنائها النزاع كما فرّق بيننا، ونظير كل ساع إلى الخير تجد عشرة فتوات يلوحون بالنبابيت ويدعون إلى القتال. حتى اعتاد الناس أن يشتروا السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، ولاحقتهم العقوبات الصارمة لأدنى هفوة في القول أو في الفعل بل للخاطرة تخطر فيشي بها الوجه. وأعجب شيء أن الناس في الحارات القريبة منا كالعطوف وكفر الزغاري والدارسة والحسينية يحسدوننا على أوقاف حارتـنا ورجالنا الأشدّاء، فيقولون حارة منيعة وأوقاف تدر الخيرات وفتوات لا يُغلبون. كل هذا حق، ولكنهم لا يعلمون أننا بتنا من الفقر كالمتسولين، نعيش في القاذورات بين الذباب والقمل، نقنع بالفتات، ونسعى بأجساد شبه عارية، وهؤلاء الفتوات يرونهم وهم يتبخترون فوق صدورنا، ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلى البيت الكبير ونقول في حسرة : “هنا يقيم الجبلاوي ، صاحب الأوقاف ، هو الجد ونحن الأحفاد”.

شهدت العهد الأخير من حياة حارتـنا، وعاصرت الأحداث التي دفع بها إلى الوجود “عرفة” ابن حارتـنا البار. وإلى أحد أصحاب عرفة يرجع الفضل في تسجيل حكايات حارتـنا على يدي، إذ قال لي يوماً: “إنك من القلة التي تعرف الكتابة، فلماذا لا تكتب حكايات حارتـنا ؟.. إنها تروى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجل بأمانة في وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها، وسوف أمدّك بما لا تعلم من الأخبار والأسرار”. ونشطت إلى تنفيذ الفكرة، اقتناعاً بوجاهتها من ناحية، وحباً فيمن اقترحها من ناحية أخرى. وكنت أول من اتخذ من الكتابة حرفة في حارتـنا على رغم ما جرّه ذلك علي من تحقير وسخرية. وكانت مهمتي أن أكتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات. وعلى كثرة المتظلمين الذين يقصدونني فإن عملي لم يستطع أن يرفعني عن المستوى العام للمتسولين في حارتـنا، إلى ما أطلعني عليه من أسرار الناس وأحزانهم حتى ضيق صدري واشجن قلبي. ولكن مهلاً، فإنني لا أكتب عن نفسي ولا عن متاعبي، وما أهون متاعبي إذا قيست بمتاعب حارتـنا. حارتـنا العجيبة ذات الأحداث العجيبة. كيف وجدت ؟ وماذا كان أمرها ؟ ومن هم أولاد حارتـنا ؟

الموقع الرسمي للأديب العالمي نجيب محفوظ.

دراسة تحليلية لرواية أولاد حارتنا بالفرنسية للاستاذ فريديريك لاغرانج الاستاذ بجامعة السوربون في باريس.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)