الإثنين، ٢ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧
جريدة الحياة
محسن جاسم الموسوي
رواية “أولاد الغيتو”
قلما تتشكل الروايات من الشعر ومفاهيمه. وحتى عندما تمتلك السرديات تكويناً تحتياً كثيفاً، كحال أبرز الروايات ، لا يظهر الشعرُ نفسه مكوناً بارزاً خشية أن يفقد السردُ ملحمةً برجوازيةً أو ولادةً مقرونةً بالطباعة وفئات القراء الجُدد استجماعات الذروة والتشخيص والأثر. وعندما يحضر ظاهراً في الأسلوب يُراد له في الغالب منح الرويّ طراوة الرواية وغوايتها أمام جمهرة من القراء والمستمعين. كان الشعر يحضر في الحكاية من قبل بالإضافة إلى دوره التزييني الذي نقرنه بميل البشر إلى ملءِ الفراغاتِ الخرساء بالجميل الناطق لوناً وصورةً، كان للشعرِ دَورُه في الحكاية من حيثُ تطويع الحكي وتطويرهِ وتنمية شخوصِه وحبكته. فاشتغل الشعر شفرةً وتشفيراً وفعلاً وغوايةً وإغراءً، واستدعى الاستكمالَ والإجابة. لكن الرواية بحضورها الذي كتب عنه جورج لوكاش و وولتر بنجامين وجورج ستانغ ومن التالين أيان وات وغيره، وكذلك المؤرخون والنقاد العرب تشهد غيبة الشعر. ولا يعني هذا غياب البنية الشعرية. إذ تحضر الأخيرة حتى في السرد التاريخي الذي دفع هيدن وايت إلى كتابة “الخطاب الإستعاري”، و “التاريخ التحتي أو المغاير: التخييل التاريخي في القرن التاسع عشر”. أهمل هيدن وايت الرواية على الرغم من اعترافه بقرابة السرد التاريخي لمؤرخي التاريخ البشري وفلاسفته من روايات ستندال وبلزاك وفلوبير وتولستوي وديكنز ودستويفسكي وغيرهم. وفي الرواية العربية تحضر البنية الشعرية التحتية كما هو شأنها في السرد، سواء كان خطياً أم عمودياً ومتداخلاً أو متزامناً. لكنه يغيب حضوراً عند محفوظ مثلاً، كما لا يحضر إلا في كتابات تستعيد حياة الريف كما يفعل عبدالحكيم قاسم في رائعته “أيام الإنسان السبعة” سنة 1969 والتي استعان فيها بقصيدة البردة للبصيري وبغيرها مما يشكل إيقاعات الذِكْر الصوفي. أقول غاب الشعر، لكني من بين من أحضروه في رواية قصيرة ظهرت أيام ابتلاء العراق سنة 1990 بعنوان “أوتار القصب”، ثم في “دون سائر الناس:انفعالات الرقم 46”. لكن حضوره في التكوين السردي وبنيته الغائرة والبارزة واشتغالاته اللغوية-النصية كميدان التباس وفعل تحقق عند الياس خوري عندما بدأ مشروعه في هذا الاتجاه سنة 1994 في روايته “مجمع الأسرار”، وهو المشروع الذي تتوجه روايته الجديدة الصادرة أيضاً عن دار الآداب سنة 2016 بعنوان “أولاد الغيتو: اسمي آدم”. ولعل المفردات والمسميات تشارك في صنع البنية التحتية، بنية الحنين والطلل والموت وما يفوح داخلها من غربة واغتراب والتي تدعو الروائي إلى استعادة لازمته الأثيرة في الروايتين في أن “أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى كان آدم”، ثم تبعه امرؤ القيس حين أنشد يقول:قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ/بسقط اللّوى بين الدّخول فحوملِ.إذ أن “حنينَ سيدِنا آدم إلى الماضي كان مزجاً للحقيقة بالرؤيا، وهذه أُسّ الحنين إلى الأطلال الذي نراه في الشعر العربي القديم” (مجمع الأسرار، 44). سيكون امرؤ القيس مفتاحاً للكلام في الغربة، ولهذا يستعين به آدم بن حسن دنون اللداوي ، بائع الفلافل في نيويورك ، وأنا السارد في مجموعة الدفاتر التي ظهرت الآن ضمن خديعة الرسالة والمخطوط لتتشكل منها الروايات الواعية بذاتها، أي تلك التي تحيل على كتابات المؤلف الياس خوري وما يتشابه معها أو يضيف إليها من كتابات آخرين كـ"خربة خزعة"، و"اربسك" لأنطون شماس، و"باب الشمس" لإلياس خوري رواية وفلماً، و “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، وكتاب الأغاني، الفصل الخاص بوضاح اليمن، والكتاب المشترك لمحمد بهجة الأثري و أحمد حسن الزيات عن وضاح اليمن. هكذا نسمع أصداء الشعراء في الغربة على لسان السارد المفترض آدم دنون الذي يُعطي اسمَه عنواناً فرعياً لـ" أولاد الغيتو". ولأنه يختار آدمَ من بين الأسماء التي تعطى له بعد التهجير الإجباري ويوم الحشر اللداوي في جامع دهمش حيث القتل الجماعي والإهانة المقرفة ، تنز كلماته غربةً لأن الحرف يمتزج بمعناه أمام الحياة والموت. ولهذا تأتي عبارته في الابتداء: “أنا لا أملك قبراً في بلاد لم تعد بلادي، كي أطلبَ أن أدفنَ فيها معانقاً أرواح أجدادي. سوف أعانق في هذا النهر -الهادسون حيث يوصي أن تُحرقَ جثتُه وينشرَ رمادُه- أرواح الغرباء، وسألتقي بمَن يجد في لقاء الغريب بالغريب نسباً يغنيه عن نسب أضاعه”(21). ويعلق السارد : “أعرِف أنني الآن أنثر بيتين من شعر امرئ القيس بطريقة غير شاعرية، لكن ما همني، فلن يقرأ أحد هذه الكلمات بعد موتي، لأنني سأوصي بأن تُحرق هذه الدفاتر معي كي تُرمَى هي أيضاً في النهر. هذا هو مصير البشر ومصير الكلمات. فالكلمات تموت أيضاً، وتترك أنيناً نازفاً مثل الأنين الذي ينبعث من أرواحنا ، وهي تتلاشى في ضباب النهاية”(21). لكنه يعود إلى امرئ القيس ، وإلى دفنه على سفح تلّة يُقال لها جبل عسيب بعدما تقرح جسده بعباءة الجذام التي أهداها قيصر ، فكان له أن ينشد: أجارتَنا إنّ المزار قريبُ /وإني مقيم ما أقام عسيبُ/ أجارتنا إنّا غريبان هاهنا/وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ" (61).
لا يدع الياس خوري مؤلفاً الكثيرَ للناقد كي يقتحمَ نصه الذي يعترف ساردُه بأنه لا اسم له، لأن آدم دنون صاحب الدفاتر المزعومة يقول في النتيجة : “سأكون مجرد راوٍ لما شاهدته وعشتُه”( 418 ). وما شاهده هو مقتلة مسجد دهمش ، ومقتل مدينة اللد. فيكون التساؤل: “هل رأى أحد في العالم جثة مدينة؟” (238). فالتعليقات النقدية والشروح والوثائق الخاصة بهذه المذبحة وغيرها تمتزجُ باستطرادات في الشعر والمجاز ومراجعات لرواد الحداثة ما بين عقلانية طه حُسين التي تحذف الشعر الجاهلي وتدفن اللغة (69-70)، وبين جماعة الانبعاث الشعري الذين قادوا في نظره أو ساعدوا في سيادة الفكر الاستبدادي( 289) . كل هذه تعين في تكوين البناء التحتي، وخاصة عندما تردف بالمراجعة التي يقدمها صوت السرد في مفاهيم اللغة والنحو، لأن هذه هي العتبة نحو الشعر الذي سيشتغل عبر مجازاته في تكون السرد بصفته المتوترة ما بين التوثيق والتلفيق والشعر ومجازاته. فالسارد، صاحب الدفاتر وموضوع السيرة، آدم حسن دنون، اليتيم الذي سيسمع حياته على لسان مأمون الأعمى الذي واصل البقاء في اللد، سيكون سبيل الاستعارة الكونية وتساؤلاً في (صمم العالم عن سماع صراخهم)، أي الفلسطينيين (31) : فآدم سيرى الالتباس قائماً فيه، وفي اللغة، وفي صيغة المثنى، وفي كل ما حوله. ولأن الروائي عبر صوت السرد، موضوعِه وفاعله، سيعيش هذا المثنى الذي كان قد تساءل فيه من قبل وقَبل التقاء أبي الفرج الأصفهاني في (الأغاني) : “لماذا لا يُحذف من لغة العرب، مثلما حُذف في كل اللغات القديمة”(37). وبعد قراءة الفصول الخاصة بوضاح اليمن وامرؤ القيس وغيرهما، تبين لآدم حسن دنون، الراوي في أولاد الغيتو ، أن المثنى هو غيرُ ما يفهمه : “علَّمني امرؤ القيس المثنّى، حيث تنقسم أنا الشاعر إلى نصفين، ، الأنا هي مرآة الذات المنكسرة على ظلال الشاعر في الصحراء ، ويصير الحوار بين الأنا والأنا هو بداية العلاقة بين الكلمات والموسيقى”(38).وسواء كان امرؤ القيس حقيقة أم كنايةً كما يريد طه حسين في الشعر الجاهلي ، فإن الشعر يمسح هذه الحدود بين الأنا وظلها؛ لذا تراه يصيح : (أنا لا أفهم كيف يدافع الكتّاب عن أبطالهم بالقول إنّهم خياليّون وليسوا واقعيين. تبَّاً لهم، فأنا أعتبرهاملت حقيقياً أكثر من شكسبير، والأبله أكثر حضوراً من دوستويفسكي، ويونس أكثر واقعية من هذا الكاتب اللبناني [أي الياس خوري] الذي شوَّه صورته في “باب الشمس”( 38).
قلت إنّ الراوي، بأناه وظلَّها، يحيل إلى مجموعة نصوص ووثائق مسماة لا عن مجازر اللد وغيرها، ولكن أيضاً في كتابات الياس خوري وجبرا ابراهيم جبرا وأنطون شماس وغسان كنفاني والروائي الإسرائيلي، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي في الكتيبة التي نفذت عملية خربة الخصاص، في روايته “خربة خزعة” ، المنشورة سنة 1949 (ص 258-259)، وشعر وضاح اليمن وامرؤ القيس ومالك بن الريب وأدونيس وسعدي يوسف وآخرين من الباحثينَ والدارسين. وتظهر الرواية مغايرةً أو واعيةً بذاتها بسبب كثرة الإحالات ، لاسيما الإحالات إلى كتابات الياس خوري، وبخاصة رواية باب الشمس والفلم الذي أعده مخرج اسرائيلي عنها (ص 24).
وبمثل هذا الاكتظاظ، كيف يمكن للسرد أن يظهر “روايةً”؟ بل، كيف يمكن له أن يحفرَ مكانة لهذا الاكتظاظ داخل مجازات الشعر؟ وكيف تتوحد قصة الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي قضى منتحراً في شقته في نيويورك، بقصة صندوق وضاح اليمن؟ وعباءة السم والقروح التي تودي بامرؤ القيس، وغربة مالك بن الريب؛ وتداخل شخصية محمود درويش وشعره براشد حسين، وهذا الأخير بآدم حسن دنون الذي يموت منتحراً محترقاً في شقة في نيويورك؟ وكيف تشتغل كل هذه الأطراف في تكوين الحكاية كإستعارة كونية، إنسانية عن الفلسطيني ومن يماثله.
والتماهي بين آدم حسن دنون وراشد حسين مقصود: كلاهما يقرر الانتحار في شقته في نيويورك. أحدهما يكتب شعره، والآخر يكتب سيرته وتعليقاته في دفاتر يريد لها أن تحترق معه لأنها لم تستكمل شيئاً؛ ولكن هل تتشكل روايةٌ مغايرة ٌأو واعية بذاتها من تماه ومحاكاة ما بين لاحق وسابق من فلسطين؟ ليس التماهي هو المحرك الأساس لأولاد الغيتو، أي من تبقى محاصراً بالأسلاك في اللد : إنه الصمت الذي يغلف كل هؤلاء، ومنهم راشد حسين وآدم حسن دنون، صاحب الدفاتر والصوت في أولاد الغيتو. ولكن لنعود إلى راشد حسين. يقول آدم حسن دنون : “قرأت دواوين راشد الثلاثة ، وأحسست بخيبة الأمل. أحببت شعره، لكنني شعرت بأنه ما قبل الشعر، فهو يمهد للشعراء الآخرين الذين أتوا من بعده ، ويكتب ما يشبه تهجئة الذات التي تسبق الوصول إلى إمتلاك اللغة التي تعبِّر عنها”. كان قد تعرف عليه من خلال قصيدة لمحمود درويش، ( كان ما سوف يكون) التي يشبَّههُ فيها ( بحقل من البطاطا والذرة). يعلق آدم على ذلك: “قلت في نفسي إن رجلاً يشبه حقلاً من البطاطا يستحق أن يكون شاعراً كبيراً”(40). أدرك لاحقاً أن قوة شاعر تكمن في حياته : “شاعر كتب قصته الشعرية بموته محترقاً في شقته الصغيرة في نيويورك”(40). إذن، كان اليأس هو الذي يجمع آدم براشد حسين، لكن آدم حسن يتهم نفسه بالعجز : “لا أمتلك جرأة الانتحار”، ولهذا تجئ الحكايات على لسانه عن أبطال آخرين (41). كان الانتحار يدفع آدم إلى قراءة راشد حسين ثانية : “حكاية موت هذا الشاعر الفلسطيني محترقاً بالخمر وسيكارته المشتعلة ، دفعتني إلى قراءة أشعاره من جديد، وأحسست أن قصتَه هي شعرُه، وأن هذا الحزن الذي تشفّ عنه كلماته لم يكن سوى مقدِّمة لحكاية موته”( 40). إذن هل أن دفاتر آدم حسن دنون هي استعادة للحزن الذي يرافق الغربة ويدعو راشد حسين إلى الانتحار صمتاً، كما سيفعل آدم حسن دنون؟ كان راشد حسين يكتب مأساة هؤلاء الغرباء الذين سيقوا إلى الغربة والذين رأوا أو سمعوا قصة أهاليهم وأنفسهم في مجازر تقَدّمُ الدفاتر خلاصاتٍ عنها، لاسيما عندما تعرج على خربة خزعة ومطالبة كاتبها أن يخرج أرميا واحد من بين هذه الجموع التي تساق للذبح والموت والطرد (260). هنا يخرج التماهي عن ظاهر التركيب السردي ليخترق صممَ العالم عن المحرقة والمقتلة ولوثة الدم. ليس آدم حسن بعد كل ذلك غيرَ ابن حكاية يرويها مأمون الأعمى الذي حضر سرداً محاضراً عن محمود درويش، مأمون البصير الذي رأى وسمِعَ وسرَد ما يظهر هنا وهناك من شذرات وتقارير ودراسات. مأمون الذي يظهر دارساً يقدم محاضرة تخلص إلى “أن الشاعر الذي أحب ريتا وتزوجها لم يكن درويش بل راشد حسين. وأن حكاية موت هذا الشاعر في نيويورك أكثر مأسويّة من كل الشعر الفلسطيني”(181). لم يعترض على الاستنتاج إلاّ الدكتور ناجي، أي بديل المؤلف الياس خوري الذي يقول عنه آدم ، بطله الذي لم يستكمل بعد : “يتفرج عليّ بصفتي بطلُ قصة لم تكتب!”(181). ولكن كيف يتشكل هذا النص، أي الرواية الواعية بذاتها التي تحمل اسم (أولاد الغيتو:اسمي آدم) ، وهو يَتهِم ُمؤلف باب الشمس بالتلفيق والكذب وَنقل ضده ما يقوله خصومُه من أنه ليس من أبوين فلسطينيين(24)؟ هل يكفي أن تأتي الرواية الواعية بذاتها بالوثيقة موصوفة ومعززة بالشواهد والتواريخ ليتشكل سجلها الإحالي لتكون “استعارة كونية”؟ كانت مقتلة مسجد دهمش (129، 176، 204، 308) هي الأكثر حضوراً لأن حكاية آدم تأتي من هناك، ومنها وبعد أن عرفها على لسان الآخرين ومأمون الأعمى تحديداً، تتشكل القصة التي تبرر استطراداتها على أنها رديفُ تيار الوعي حيث “الكلمات تعبُرني وتمضي إلى حيث تشاء”( 239). هذه الرواية الواعية بذاتها ، أي التي تحيل إلى نص للمؤلف ونصوص أخرى عديدة، تخلق عالماً تناصياً متقاطعاً فيه الخبر والوثيقة والدراسة والصورة والحكاية، ولهذا لا يمكن أن تُدعي روايةً، أي ملحمة لها ابتداء وانتهاء ، ولها معنى، لأن متحدثاً يصر على تفاهة المعنى عندما يسقط على حكايات كحكايات شهرزاد مثلاً :ا"لكاتب الذي أضاف الإطار إلى حكايات شهرزاد تافه ككل الكتاب الذين يخافون من الحكايات المجّانية ، التي تنفجر فينا كما ينفجر الماء من باطن الأرض. من قال إننا نحتاج إلى المعنى كي نروي؟فحلمي الدائم هو الوصول إلى نصٍّ بلا معنى، مثل الموسيقى،معناه يأتي من إيقاعات الروح التي فيه"( 418).وفي النتيجة، فإن “الحكاية ليست بديلاً من الحياة، بل هي الحياة نفسها”.. لا قوةَ في هذا الاستنتاج المعروف بين الأوربيين عندما حرر ادوارد وليم لين الحكاية من سحرها بهوامشه المطولة ليجعل النقاد يتعاملون بحرية أكثر مع الحكايات التي سحرتهم وحالت دون سطوةِ ذائقتهم النقدية.
إذا، كيف يتحرر النص من ثقل الذاكرة التي يأتي بها مأمون الأعمى وتعززُها الوثائق التي يطلع عليها بائعُ الفلافل، صاحبُ الدفاتر، بكل عالمها التناصي؟ لابد من الحيدة والفرجة أولاً لضمان المسافة الجمالية والنفسية. سيعلن ذلك ليلغيه. يقول : “عليّ ، وأنا أكتب عن اللّد، أن أتخذ موقف المتفرج، وأتوقف عن الرثاء، خلص، الماضي مات، ويجب أن أتعامل معه ببرودة، هذا ما تعلمته من الشاعر العباسي أبي تمام الذي وصف علاقة الإنسان بالأيام، كأنها منام : ثم انقضت تلك السنون وأهلُها/ فكأنها وكأنهم أحلام”(414). ويعلق : “حين أقف أمام أطلال المدينة [اللّد]، أشعر كأني أقف على أطلال الزمن ... الخراب الذي عشناه ولا نزل نَعيشه، هو خرابُ زمننا”(415).
ومرةً أخرى، من شأن الرواية الواعية بذاتها أن تسرق من الناقد ملاحظاتِه، وتستبقُه في تكوين مرجعياتٍ مراوغة ما دامت مراوغتُها الأساس تكمن في محاسبة كاتبها وغيره على كتابات فعلية ومنشورة أو أخرى يحتضنُها السرد الحالي. ومن الجانب الآخر، تحيا الرواية الواعية بذاتها في مجموعة من العوامل والعلامات والمجازات لتشُدَ بعضها إلى بعض : وإلا كيف يجتمع صندوق الموت في حكاية الشاعر وضاح اليمن بعباءة الموت عند الملك الضليل؟ وكيف يُسقطُ كلُ هذا على ما جرى أمام صمت العالم، الذي لَبِسَ ترسيمة الفلسطيني الأخرس في رواية س. يزهار خربة خزعة؟ كيف تلتقي الترسيمة بتلك الصيحة التي يعلنها أبو الخيزران في رواية غسان كنفاني، رجال في الشمس، لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ لم يكن السؤال : ولكن من يسمع داخل الضوضاء والهرج والقسوة في زمن الخراب؟ لم يكن السؤال كيف تناسى أبو الخيزران وأضرابه هؤلاء ؟ الذي يجمع الخيوط هو ما يسميه السرد ببلاغة الصمت. فالصندوق والعباءة والخزانِ والغيتو وشقة الانتحار حرقاً هي مجموعة المجازات التي تُعطي للرواية الواعية بذاتها شَكلَها المراوغ الذي يقول كل شيء بدون أن يدّعيه. هذه المجازات هي التي تبقى في الذاكرة لدرجة أنها تَسدلُ العتمةَ على ما يكمن خلفها وداخلها من دلالات ومعان.
كنت قد قلت في مقال آخر، إن أولاد الغيتو تستطيع الخلاص من حكاية وضاح اليمن التي شغلت ما يزيد على سبعين صفحة، لأن صندوق الصمت يمكن أن يجد مثيله في حكايات أخرى. لكننا عندما نضع الحكاية في صندوق الموت والصمت، ندرك أنها مجازاً تنفع جسراً في تصعيد “بلاغة الصمت” ضمن مشروع الراوي للإتيان باستعارة كونية : وعندما يوضع صمت المحب، أي الشاعر، وصمت أم البنين، وصمت الوليد بن عبدالملك، والصمت الذي سيفرضه الموت على الخادم/ الواشي الذي نقل الخبر إلى الخليفة، نحار في تحديدِ أي صمتٍ هو الأبلغ؟ هل صمت وضاح هو الأبلغ لأنه عاش لحظة الحب كاملة وأوصلها الذَروة التي لا معنى لحياته بعدها؟ أم التساؤل الذي يثيره الراوي هو الأبلغ؟ إنَّ تناصية أولاد الغيتو: إسمي آدم التي يسمّيها الناشر روايةً، ويسعى الراوي لتلافي ذلك. هذه التناصية تَمنحها طاقة الشعر لتحررها من تركيبتها ملحمةً بورجوازيةً أي أنها بهذه التناصية الكثيفة تتحرر من العقدة والتركيبة الأرسطية وتنتهي كما ينتهي الشعراء، كوضاح وامرؤ القيس. يقول عندما يستعرض حياته، ويقظة الفلسطيني فيه بعد رحلة التباس طويلة ( وصولاً إلى زمني الجديد في نيويورك)، إنه يقوم بعمل كتابي، لإقناع نفسي بأنني أكتب رواية لا تشبه الروايات، لأنها تنتهي إلى جنس أدبي لا أعرف له إسماً، ولست متأكداً من وجوده أصلاً (290). هذا الجنس الأدبي المغاير، ما وراء الرواية، أو الرواية الواعية بذاتها. يتشكل ظاهراً من أشلاء “رواية مبتورة” عن وضاح اليمن (417)، ومن كونه “راويا لما شاهدته وعشته” ، كما يقول،" أي مجرد كاتب للإطار".ولكن ما الذي تتجه نحوه الحكاية، كما يسميها في أكثر من مكان (304)؟ الحكاية تبتدئ من “الخَرس”، من “الصمت”، الذي تفتتحه حكاية صُندوق وضاح اليمن وصمتُه فيه أمام الوليد بن عبدالملك حاملاً معه ذروة النشوة إلى الموت : “أخرسني مأمون عندما روى لي حكاية الطفل [ أي آدم] الذي التقطه من فوق جسد أمّه”(304). وينتهي إلى مايلي : “أجد نفسي مكبلاً بحِكايَةٍ تصْلُحُ أن تكون مدخلاً ميلودرامياً لرواية مأساة الفلسطينيين، لكنها بالتأكيد لا تصلح لي-304) . هذه الحيرة بين الأنا وظلها، بين حكاية (لا تصلح أن تكون بداية لتاريخ الجريمة الذي لم يكتب”(304)، كما يقول في الصفحة نفسها وبين استعارات الصمت التي جاءت عند صندوق وضاح اليمن وخزان التهريب عند غسان كنفاني في “رجال في الشمس”، وعند راشد حسين الذي انتحر تاركاً إيانا أمام وهج عينيه ودواوينه الثلاثة التي تمهد للشعرية الفلسطينية في الغربة والمأساة. الصمت هو مفتاح الشعر، لأن الكلام، لغة النهار، تتفتت ويكون المجاز معبراً داخل دروب الصمت. يتحايل الراوي على قضية صندوق وضاح، ويمر على الاحتمالات عند أبي الفرج، و مأساة الشاعر وضاح للأثري وأحمد حسن الزيات (بغداد: مطبعة العهد، 1935. ص 76). وضمن الاحتمالات تكون الوشوشة خطوة نحو الصمت : “جاءه صوت الملك خافتاً، تتخلله نتوءات تشبه الجروح: يا هذا إنه قد بلغنا شئ ، إن كان حقاً فقد كفّناك ودفنّاك ودرسنا أثرك إلى آخر الدهر، وإن كان كذباً فما علينا حرج في دفن صندوق من خشب”( 85-86، 80 ). هذه المزاوجه بين الدفن (رمزاً) والحكاية المتداولة يعيد الكلام إلى النفوذ والسلطة، واستسهال القتل الذي تنتصر فيه الحكاية عند شهرزاد. كان صندوق الصمت في النتيجة كعباءة الملك الضليل وخزان الماء في رجال في الشمس . والصمت هو الذي يدعو راوي “خربة خزعة” أن يقول عن أهل البلاد الذين يحصدهم الرصاص ويوضع المتبقي منهم بين الأسلاك : “كنت أبحث عمّا إذا كان من بين كل هؤلاء إرميا واحد أيضاً، غاضب ومتقد، يطرق في القلب غضباً وينادي الإله العجوز اختناقاً ، من فوق قاطرات المنفى”(260). هذه هي الترسيمة، كما يسميها الراوي للفلسطيني الأخرس، حيث “يزهار يعلننا يهوداً ليهود إسرائيل”(260).
وكما ذكرت، تصادر الرواية الواعية بذاتِها أدوات النقد، لأنها سلسلة من المراجعات التي تعرض للوثيقة، والمجاز، والنص نثراً وشعرا ، وتقدم تفسيراً ما وتنأى عنه نحو آخر. وتأتي بعض الأسئلة عنوة لاستفزاز إجابة مختلفة. “لماذا صمت الوضاح في الصندوق، ولم يصرخ طالباً الرحمة؟”( 79). وتكون الإجابة :" هذا السؤال هو الذي دفعني إلى تحويل هذا المخطط إلى عمل روائي. روايتي سوف تقود إلى الصندوق، وهي تشبه في ذلك رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس”(79) .ويستدرك قائلاً عن سؤال اللماذا الذي انتهت إليه الأخيرة : “سؤال كنفاني جاء من خارج الخزان، أما سؤالي فسيكون من عتمة الداخل، حيث يختلط ظلام الروح بظلام العالم”(79). من هنا، يكون صندوق وضاح “استعارة إنسانية عن مأساة الفلسطينيين”(29). يُدرك الراوي أن الاستعارة لن تتحقق بالوثيقة، لأن خصمها يمتلك القدرة على التضليل العظيم في منظومة من السرديات العظمى والصغيرة التي يتيحها النفوذ وتيسرها السطوة المعرفية والماديّة. لابد للاستعارة أن تحيد عن الإفصاح في اللحظة التي تفقد فيها ذلك، توثيقاً وإشارةً. ولهذا يكون حضور راشد حسين الذي يتماهى مع الراوي مهماً لأن قصيدته تأتي منه وهو يشبه حقلاً “من البطاطا والذرة” حيث “يكتب ما يَشبه تهجئة الذات التي تسبق الوصول إلى امتلاك اللغة التي تعبِّر عنها”(40). لنقل أن آدم هو راشد حسين الذي يستعاد في هذه الدفاتر والذي ينتحر محترقاً في شقة صغيرة في نيويورك. إذن من يتكلم في شبكة المجازات حيث الصندوق والخزان والشقة الصغيرة المحترقة؟ هنا يشتغل السرد جاهداً على موضوعه البياض والصمت: فالسؤال الذي نوجهه للفلسطيني الأخرس في رواية س. يزهارخربة خزعة ، وللفلسطينيين في خزان كنفاني، ولوضاح في صندوقه وللملك الضليل في عباءة الجذام، ينبغي أن يتوجه إلى الآخر : يقول الراوي، في رواية واعية بذاتها عن وضاح:"(صار هو الضحية بصمته الذي اختار له أن يكون معادلاً لشعره إذ لاشئ يعادل الشعر سوى فواصل الصمت، التي تضبط إيقاعاتِه على إيقاعات الروح"(32).
هنا يهجر الراوي البناءآت السردية، خطيةً كانت أم متزامنة وعمودية ومتداخلة ومتعددة الأصوات. يهجرها لأنه يستعين بما تيسره حافظته وقراءاته في الشعر، وما يقوله الدارس القديم كإبن حزم و أبو الفرج الإصفهاني من قبل في الحب والشعر، ككل متداخل عصيّ على الانفصام : “قال ابن حزم الأندلسي رحمه الله: (وإن كان الحبّ عَرضاً والعرض لا يحتمل الإعراض، و صفةً والصفة لا توصف، فهذا على مجاز اللغة في إقامة الصفةِ مقام الموصوف”(34).
تتلاحق مثل هذه الشاعرية لأنها وحدها التي تتيح للصندوق أن يحضر عنواناً للاستعارة الإنسانية التي تأتي بها صفحات تالية : “الحب لا يوصف إلا بمكابدة الألم، والألم لا أسماء له ولا صفات”(35). وهنا يكون مأمون هو الراوي، لأن فيه أعمى تجتمع الحكايات والأقاصيص، والفطنة واليقظة إزاء المخفي والمصمت. وهو عندما يسرد تلك المأساة لتصبح استعارة إنسانية، يعرض لشعر محمود درويش على أنه “إيقاعات المعاني في فواصل الصمت، معلناً أن ميزة أدب النكبة الفلسطينية هو أنه صُنعَ من صمت الضحية فواصل تُعيد بناء الصورة الشعرية”(234). هذا ما يعيد الراوي ، كما يقول ، “إلى ساحة الجامع، حيث ارتفع صمت الضحايا ليغطّي على أصوات الجنود الإسرائيليين”(234). كان مأمون، كما يشخصه الراوي خلاصة للمثقف العربي والفلسطيني في أحسن لحظات التجلي. قال “إن مأساة اللّد علمته كيف يقرأ صمت الضحايا”(114). أما هو بنظارتيه السوداوين، فإنه صار مزيجاً من طه حسين وإدورد سعيد( 114). وإذ يسرد الراوي المرات السبع التي تتشكل فيها ويشكل فيها هوياته المتباينة (ص 118). فإنه ينتهي إلى واحدة هي صورة الكفن المنسوج من “كلمات وألوان” ، كما يقول :" الفن لا يغلب الموت كما كتب محمود درويش، الفن ينسج لنا كفناً من كلمات وألوان، نلتف بها ونغمض أعيننا على رجاء لا رجاء له"(118). فالمقتلة التي يدونها بألوان الموت والدم والحياة والمنفى هي الوجه الآخر للمحرقة النازية ينفذها هذه ضحايا الأمس وهم يخلقون ضحيتهم بترسيمة جديدة، بلا هوية، ولا أرض، ولا صوت، هي ترسيمة الفلسطيني الأخرس عند يزهار.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.
السنة الثامنة والعشرون العدد 8502 الثلاثاء 21 حزيران (يونيو) 2016 - 16 رمضان 1437هــ
جريدة القدس العربي
ثقافة
رائف زريق ـ أكاديمي وكاتب فلسطيني
قراءة «اولاد الغيتو - اسمي آدم» لـ الياس خوري.. الرواية محاولة في المستحيل!
كيف يتكلم الصمت ويصمت الكلام ؟
محاولة لجعل الصمت يتكلم، وجعل الكلام صامتاً. صمت يتوق إلى الكلام، وكلام يخشى الابتذال. الصمت المطبق تماماً هو معنى لم يولد بعد، وكثير من الكلام هو انتحار المعنى. وبين كلام لم يولد، وكلام انتحر، تحاول الكتابة أن تقول ما لا يقال، تستنطق المعاني من ثنايا الصمت، تحرسها وتخاف عليها من الانتحار.
من الواضح أن الخروج عن الصمت والحديث عن الذاكرة وعن المجزرة يشكلان هاجساً قوياً ومركزياً في رواية: «أولاد الغيتو – اسمي آدم»، وبهذا المعنى، فإن الرواية هي محاولة لفهم هذا الصمت على مجزرة بهذا الحجم، ومحاولة لإعطاء الضحية حقها في الكلام. وبهذا السياق، الصمت هو الغياب، الغياب المطلق، وهو رديف للموت، أمّا استرجاع صوت الضحية فهو عبارة عن محاولة إنقاذها من براثن النسيان.
«لم يسمع أحد أنين الفلسطينيين الذين كانوا يموتون ويُشرَّدون بصمت، لذا جاء الأدب كي يصنع للضحية لغتها الجديدة» (ص 363). وبالتالي فإن الكتابة هي محاولة للعثور على اللغة، لأن الفلسطيني لم يُقتلع ويتشرد فقط، بل حُرم أيضاً من لغته. والضحية النموذجية كما يكرر ليوتار هي الضحية التي فقدت قدرتها على أن تثبت أنها ضحية، أي أنها ضحية منسية، غير مرئية، آلامها خفية عن العين، وأنينها لا يُسمع. وهي الحالة الفلسطينية بامتياز، كما جاء في الرواية على لسان أحد أبطالها: «حطونا بمكان ما عندوش لغة، وتركونا بعتمة الصمت» (ص 382). ليس هذا فقط، بل إن الضحية الفلسطينية حُرمت من دموعها أيضاً، فمثلما يقول مراد: «نحن مُنعنا من البكاء، وحين لا يعود باستطاعتك أن تبكي خوفاً من أن تُقتل، يصير الكلام بلا معنى» (ص 383). والدموع هي مبتدأ الكلام.. ورسالة الطفل قبل أن يعي أبجديات اللغة، وأن تُحرم من البكاء، يعني أن تُحرم من اللغة التي هي ما قبل اللغة، يعني أن يُفرض عليك الخرس المطلق، وهذا يعني الغياب المطلق؛ ضحية لا يسجل لها أنها ضحية، وأمام الضحية الكبرى لليهود في أوروبا تختفي الضحية الفلسطينية وتمر الجريمة بلا أثر.
هنا يحضر الأدب، كما تقول الرواية، «كي يصنع للضحية لغتها الجديدة» (ص 363). الأدب وليس التاريخ، لأن التاريخ محكوم بقواعده الأكاديمية الحديدية التي تطالب الضحية دائماً بأن تقدم البراهين العلمية المادية والملموسة على كونها ضحية. يقول آدم في الرواية: «أعرف أني لا أمتلك وثائق تثبت كلامي، وثائقي هي شهادات الناس الذين مات أغلبهم… ضحايا هذه المذبحة لم يرووها لأنها انحفرت في أرواحهم ورافقتهم طوال حيواتهم البائسة، ولم يجدوا هناك ضرورة لبرهنة البديهي الذي عاشوه» (ص 315)، وهكذا يحرر الأدب ما عجز عنه التاريخ، أو ما قمعه علم التاريخ، ويستعيد الفلسطيني حقه في أن يروي، محرراً ذاكرته من مكبس التاريخ الذي لا يرحم.
بهذا المعنى الرواية هي خروج عن الصمت، ومحاولة لفهم هذا الصمت المستمر، ويمكن تجسيد مشروع الرواية بالصرخة التي أطلقها «آدم» حين قال: «أنا ابن حكاية خرساء، وأريد للحكاية أن تنطق على يدي» (ص 95).
التوتر بين الصمت والكلام
ربما يبدو أن الخروج من الصمت إلى الكلام هو الحكاية كلها.. كأن الكلام والحياة هما سيان، فحين عاد الحب يسري في عروق وضاح، «سال منه الكلام كالماء» (ص 58). هذا كله جيد، لكنه غير قادر على صناعة رواية بامتياز كالتي بين يدينا. الرغبة في الكلام هي نصف الحقيقة، وأنصاف الحقائق لا تساوي شيئاً، وهي عادة أسوأ من الكذب. النصف الثاني من الحقيقة هو أن الرغبة في الكتابة، في الخروج عن الصمت، هي رغبة متلعثمة، تتعثر بذاتها دائماً، وهذا التعثر هو جوهر الرواية، لأنه جوهر التوتر المستمر بين الرغبة في الصمت والرغبة في الكلام، ولأنه يكشف التوترات الداخلية لأبطال الرواية. الرواية أولاً وأساساً تناقضات داخل نفسية الشخصيات، بينهم وبين ذواتهم وليس بينهم وبين الآخرين.
الصمت أنواع. الصمت قد يكون نوعاً من الخرس، ونوعاً من الغياب، لكنه ليس هكذا في جميع الأحوال. صمت المعتقل أمام المحقق ليس غياباً لكنه منتهى الحضور، والصمت الذي يتوسط بين نقرتين على مفاتيح البيانو هو مركب أساسي لا تكتمل المعزوفة من دونه. الصمت أنواع، وللصمت أسباب عدة، ومعانٍ كثيرة. والرواية ملأى بأنواع من الصمت. الشخصيات ملفوفة بالصمت: نوال تتدثر بالصمت؛ مراد يختبئ بين ثنايا الصمت قبل أن يسيل منه الكلام؛ وضاح يصمت في صندوقه؛ ومأمون يحدثنا عن لحظات الصمت في أدب محمود درويش. الصمت ألوان وأشكال، كما أن للكلام معاني كثيرة: الصمت أحياناً بلاغة، وأحياناً موت، والكلام أحياناً ابتذال، وأحياناً حياة.
الكتابة والموت
في مقابل ثنائية الصمت – موت، الكلام – حياة، تعرض لنا الرواية الثنائية المقابلة الكلام – موت، والصمت -حياة.
سأبدأ في الحديث عن الكلام والكلمات والكتابة لأعود إلى الكلام عن الصمت.
لا تحضر الكتابة في نص الرواية باعتبارها منقذاً، وإنما في كثير من الأحيان تبدو كتابة الذاكرة وتوثيقها باعتبارها عملية انتحار.
آدم يخبرنا: «لا أريد أن أعمّم قائلاً إن كل كتابة هي شكل من أشكال الموت، لكن هذا ما أشعر به الآن» (ص 111).
إذا اعتقدنا سابقاً أن الصمت هو الموت والغياب، فها هو آدم الذي قال لنا: «أريد للحكاية أن تنطق على يدي»، يقول لنا الآن إن الكتابة هي شكل من أشكال الموت!! وإن «الفن ينسج لنا كفناً من كلمات وألوان» (ص 118)، وإن الكتابة «هي الشكل الملائم للنسيان» (ص 96)، وإن «المرأة خبأت حياتها بين الأموات، وأنا أختبئ بين جثث الكلمات» (ص 262).
ما الذي يحدث إذاً.. لقد هربنا من موت الصمت وصمت الموت كي نكتشف أن الكلمات جثث والفن كَفن؟؟ ما العمل إذاً؟؟
الرواية لا تكتفي بهذا الاستئناف على معنى الكتابة والكلمات، بل تحيّرنا بشأن معنى الصمت. ففي لحظتين رائعتَي الجمال في نص الرواية، تستوقفان القارئ بما يشبه الصفعة بيد من ورد وحرير، يقول لنا «آدم» واصفاً حبيبته بالصمت: «كانت جميلة كالصمت» (ص 105). كيف يكون الصمت بعد هذا كله جميلاً؟
اللحظة الأُخرى التي تستوقف القارئ في الحديث عن الصمت هي جملة مراد الذي قال: «كنت عم بحكيلك عن الصمت، لا الصمت منّوش عتمة، الصمت موقف» (ص 382). الصمت موقف لأنه «حين لا يعود باستطاعتك أن تبكي خوفاً من أن تُقتل، يصير الكلام بلا معنى» (ص 383).
غير أن هناك ثلاث مناسبات أُخرى تشير إلى نبل الصمت في الرواية؛ الأولى، عندما يراجع آدم نفسه بعد أن استدرج مراد للخروج عن صمته كي يروي له الرواية، ويبدو كأنه في حالة تردد عمّا إذا كان ما فعله هو عين الصواب حين يقول: «ربما يجب عليّ أن أغضب من نفسي، لأنني كتبت ما رواه لي مراد العلمي. ربما يجب على المأساة أن تبقى ملفوفة بالصمت، لأن أي كلام عن تفاصيلها يشوّه صمتها النبيل» (ص 411).
المناسبة الثانية هي محاضرة مأمون الأعمى في نيويورك بشأن المسكوت عنه ولحظات الصمت في الأدب الفلسطيني، وفي شعر محمود درويش، باعتبارها اللحظات المهمة في هذا الشعر، الأمر الذي يوحي بوجود المعنى خارج الكلمات وقبل النص وتحته (مأمون، هذا الأعمى، الذي لم يشاهد المجزرة، كان الوحيد المؤهل للحديث عنها، كأن العمى ضروري للقدرة على الكلام).
أمّا الإشارة الثالثة والأهم فهي تردد آدم أصلاً في نشر هذه الدفاتر كلها، والتي نقرأها نحن الآن باعتبارها الرواية، وهذا أمر بحاجة إلى بعض التفصيل.
أين تبدأ الرواية
ربما يميل البعض إلى اعتبار أن الرواية التي كتبها إلياس خوري تبدأ في الصفحة رقم 19، أي بعد الفصل الذي سماه الكاتب «مدخل»، والذي يشير فيه إلى الطريقة التي وصلت فيها هذه الدفاتر إلى يديه من «آدم» عن طريق سارانغ لي، كأن الرواية هي ما نقرأه في الدفاتر، أمّا المدخل» فهو مجرد «مدخل»، إلاّ إن هذا هو الخطأ بعينه. الرواية «تبدأ» حيث تبدأ حكاية وصول الدفاتر إلى يد الروائي. إنها جزء من الرواية ذاتها وعنصر مهم جداً. لماذا؟ لأن الكتابة محور أساسي في الرواية. الكتابة عن فعل الكتابة. هذه الدفاتر وصلت إلى صاحب الرواية عن طريق الخطأ. لم يكن «آدم» يخطط لإيصال هذه الدفاتر إلى يد أحد، وأساساً ليس إلى يد إلياس خوري الذي تحول إلى شخصية في الرواية. «آدم» كان يكتب من دون أن يتخذ قراراً بالنشر، وبالتالي فهذه مجرد مخطوطات كتبها «آدم» لنفسه، أي أنه لم يتخذ القرار بأن يصبح هذا النص مكشوفاً ومقروءاً ومعروفاً للعالم بأسره، لا بل إنه، وأكثر من ذلك، طالب بحرقه!! ماذا يعني هذا كله؟
هذا يعني أن القرار بالخروج من الصمت وتحويل الذاكرة إلى كلمات، إلى جثث كلمات، هو قرار لم يتخذه «آدم»، لأنه بقي معلقاً بين نبل الصمت وضرورة الخروج منه، فالصمت موت والكلام موت من نوع آخر، والكلام حياة والصمت حياة من نوع آخر. وبين الصمت والكلام قرر أن يقف على عتبة الكلام، فكتب الكلام لكنه لم ينشره، وإنما وقف في منتصف الطريق تماماً كنظرات أمه نوال التي كانت عبارة عن صمت يقول وعن قول صامت.
بهذا المعنى فإن نشر الدفاتر، أو مجرد كتابة الرواية، يفتح سؤال الخيانة والوفاء على مصراعيه. هل خان الراوي بطله «آدم» حين نشر هذه المذكرات، أم كان وفياً له؟ مجرد طرح السؤال يُظهر لنا عقم التعابير وقصورها عن استيعاب مدى تعقيد الوجود الإنساني الذي تختلط فيه الخيانة بالوفاء.
اللغة العمياء
هنا سأتوقف قليلاً للحديث عن نبل الصمت والخوف من الكلمات، وكيف يمكن للكلمات أن تتحول إلى جثث والفن إلى كَفن، وهو أمر يتعلق بطبيعة اللغة وصناعة المعاني.
كثيراً ما نقرأ تعبيرات عن عجز الكلمات، وخصوصاً في وصف المشاعر، باعتبارها حالة شاعرية «تعجز عنها الكلمات». والتعبير «تعجز عنه الكلمات» يوحي بوجود معنى ما، سابق على الكلمات، وما دور الكلمات واللغة سوى التعبير عمّا هو سابق عليها، كأن الكلمات ما هي إلاّ مجرد أدوات تستعيرها المعاني لتسكن فيها وتستقر. في هذا السياق، عندما «تعجز الكلمات» فإن هذا دلالة على أن المعنى السابق على الكلمات لم يجد له مستقراً في عالم اللغة والكلمات، ويمكننا أن نفسر التعبير بلغة أكثر مباشرة، إذ حين «تعجز الكلمات» فإنها تعجز عن «إخضاع» المعنى، كأن المعنى نجا بنفسه من سطوة الكلمات، وإذا هي عجزت عنه، فإنه يكون قد انتصر عليها.
إن هذا «الحنين» إلى معنى سابق على الكلمات وعلى اللغة مفهوم جداً لأنه يرفض اختزال المعنى بالكلمات وباللغة. اللغة تبدو في هذا السياق كتهديد للمعنى، لأن اللغة قابلة للتداول اللانهائي المستمر، قابلة للإعادة والاستعادة، قابلة لأن تُطبع وتوزَّع في آلاف وملايين النسخ، وقابلة لأن تقال في كل مقال وفي كل مقام، وقابلة لأن يقولها الجميع، مَن فهمها ومَن لم يفهمها، مَن يقصدها ومَن لا يقصدها. عندما يقول العاشق لحبيبته «أنا أحبك» فإنه يعرف أنها قيلت قبله ملايين المرات، وستقال بعده ملايين المرات بعدد الأحرف نفسها.. هذه الرتابة، والإعادة، والتداول، تخيف، لأنها تُفقد الكلمات معناها، فالكلمة نفسها قيلت في سياقات مختلفة، وبمشاعر مختلفة، وبحماسة مختلفة. لكن اللغة عمياء في تكرارها، جاهزة أبداً ودائماً للاستعمال. اللغة لا تقول «لا» أبداً، فهي طيعة في يد مستعمليها. يكفي النظر إلى المواقع الإلكترونية التي تقترح عليك جملاً وتعابير لجميع المناسبات: لصديق في ضيق، ليوم العشاق، ليوم الزواج، للأم في عيد الأم… بهذا المعنى فإن اللغة سبقت عالم البضاعة وعالم النقود في قدرتها على إخضاع القيم المختلفة نوعياً وجوهرياً لقاسم مشترك يلتقي فيه الجميع. في عالم البضائع، كل شيء سلعة وقابل للشراء في مقابل المال؛ الأشياء تفقد تفردها الخاص أمام منطق المال الذي يسعى لأن يحول كل شيء إلى سلعة قابلة للتداول، كما تسعى الكلمات لتحويل كل فكرة أو مفهوم أو حتى المشاعر إلى أمور قابلة للتداول والتكرار.
خوف الأشياء من التحول إلى سلع يوازيه خوف المشاعر العميقة من التحول إلى كلمات. بهذا المعنى فإن القاموس لا يعج بالمعاني، بل هو مقبرة منظمة لها. الإنسان كمصدر للمعاني يجب أن يبقى مبهماً، غامضاً، متمرداً على اللغة، وليس دليلا ً للهاتف مفتوحاً على مصراعيه.
اللغة عبر الكلمات والمفاهيم تسعى لهيمنة كولونيالية شاملة، ولإخضاع كل شيء، فهي لا تقبل شيئاً عصياً عليها، وخارجاً عنها. هذا هو الخوف؛ خوف المعنى من ترويضه اللغوي، وخوف العيني المشخص المتفرد بذاته ولذاته من هيمنة التداول والتكرار.
هذا هو الخوف الذي يسيطر بين حين وآخر على «آدم» في أثناء محاولاته الكتابة. الكتابة نوع من الخيانة لأنها تحاول ترويض التجربة العينية المشخصة ووضعها في قوالب من كلمات. الكتابة تذكّره بالموت، والفن يذكّره بالكفن. آدم لا يريد الكتابة، ولا يريد أن يتحول إلى رمز:
«أنا هو أنا، ولا أريد أن أتحول إلى رمز. أنا أكره الرموز، وهذا كان أحد الأسباب التي دفعتني إلى التخلي عن مشروع كتابة قصة الوضاح» (ص 138).
غير أن آدم الذي يكره الرموز، والذي تخلى عن الاستعارة، والذي يعتبر الكلمات والفن كفناً، لم يجد أمامه في نهاية الأمر ما يفعله سوى الكتابة.. يهرب من الكتابة ليعود إليها، ثم يكتب ولا ينشر، ويستنطق الجميع ثم يندم.
الصمت/الكلام والحب
لماذا يعود آدم على الرغم من ذلك كله إلى الكتابة؟
يعود الراوي إلى الكتابة لأن الصمت حين يكون مطبقاً تماماً يحنّ إلى الكلام، الصمت حين لا يُرى موت. بهذا المعنى، صحيح أن الكلام يحنّ إلى المعنى السابق عليه، غير أن المعنى لا يجد طريقة إلاّ من خلال الحضور والتداول. التداول شرط المعنى والخطر عليه في الوقت نفسه. أحياناً نصمت لكننا نريد من الجميع أن يعرف أننا صامتون. وكي يكون الصمت ذا معنى فإنه يحتاج إلى التواصل، والأطفال حين يغضبون منا، يتدثرون بصمتهم ويقفون في زاوية الغرفة. يصمتون وينتظرون نظرتنا كي نكون شهوداً على صمتهم واستيائهم. ومنال صمتت، لكنها كانت بحاجة إلى عينَي آدم الطفل ليرى صمتها ويسجله في قلبه ويحمله معه طوال حياته كي يصير لصمتها معنى. الصمت تفرّد، واكتمال المعنى، لكن لا معنى لهذا المعنى من دون وجود الجماعة، من دون وجود الآخرين الذين يشهدون صمتنا. المعنى بحاجة إلى التواصل، والقدرة على التكرار والتداول، فما يهدد المعنى هو شرط حضوره أيضاً.
هذا هو المستحيل الذي يصارع فيه آدم بداية، وإلياس خوري لاحقاً. خوري شعر بثقل المهمة، فألقى بها على كتفَي «آدم»، لكنه قرر نشر الدفاتر، فهو لا يستطيع الهرب من مسؤولية الكتابة والنشر.
إلاّ إن الصمت لا يحضر فقط بصفته مخزن الذاكرة وحارسها النبيل، بل إن المؤلف يأخذنا أيضاً في حوار عن ثنائية الصمت/الكلام وعلاقتهما بالحب. وهو موضوع ليس جديداً لدى الكاتب الذي أشار إليه في روايته السابقة: «سينالكول»، حين كتب أن «الحب ترجمة للكلام، وحين ينتهي الكلام ينتهي الحب.»
ثنائية الصمت والحب والكلام والحب، تبدأ مع وضّاح اليمن الذي يمكن القول إن قضيته تراوح بين صمتين: صمته الأول حين أضاع «روض»، وصمته في الصندوق الذي ذهب فيه إلى موته صامتاً بعد قصة عشقه لأم البنين. ففي الحالتين يلتقي ضياع الحب وانتهاؤه مع ضياع الكلام، وإن كان هناك مجال للتأويل بشأن معنى صمته الثاني: هل فقد معنى الحياة فصمت، أم إنه أراد أن يحمي عشيقته من الفضيحة فآثر الصمت؟ هل دخل في الحكاية وذهب فيها إلى نهايتها كمَن صدّق أن حياته مجرد استعارة؟ صحيح أنه عندما هجره العشق، لاذ بالصمت، لأن كل شيء أصبح بلا معنى، فهو، مثلما تصفه الرواية، عندما عاد إليه الحب، عادت إليه الحياة، و»سال منه الكلام كالماء» (ص 58).
ما علاقة الحب بالكلمات إذاً؟ هل تحضر الكلمات عندما يحضر العشق؟ أم يحضر العشق عندما تحضر الكلمات كما قال إلياس خوري في «سينالكول»؟
يقول خوري في روايته:
«لا شيء يشبه الحب سوى الحب. عصف يعيد تأليف العالم من جديد، كأن الأشياء تولد مقمّطة بالأسرار والغموض، وتتراءى جديدة كأنها لم تكن قبل أن ينبثق الحب من ماء العيون» (ص 72).
غير أن الأشياء المفعمة بالأسرار والغموض هي أقرب إلى الصمت والعتمة منها إلى ضوء الكلام. فما علاقة الكلام بالحب إذاً؟
يبدو الحب كمستحيل آخر، لكنه ضروري. يحتاج الحب إلى الكلام لا ليكون، فالحب سابق على الكلام، لكن ليعلن استحالته، بعكس ما كتبه إلياس خوري في «سينالكول».
كلام العاشق لعشيقته محاولة مستمرة ليقول لها أنه يحبها؛ محاولة محكومة بالفشل عادة، لكن الكلام الذي يقال هو محاولة متكررة لبناء جسر معلق من الكلمات في الهواء كي يصل بين روحين. هذا الفشل المتكرر هو الذي يحثّ على استمرار الكلام. يفيض الكلام ضمن محاولة لعثور الشعور الغامض على مفرداته الملائمة كي يتواصل مع شخص الحبيب ضمن محاولة متكررة وفاشلة، لكن نجاحها يكمن في فشلها، لأنها تغري الشاعر بتكرار التجربة من جديد.. الرغبة في الكلام واستحالة وصول المعنى هما اللتان تجعلان التجربة تكرر ذاتها من جديد. بهذا المعنى فإن الحب ومحاولة التعبير عنه هما ما يزودان اللغة بحيويتها، وما يمنعان الكلمات من أن تنام مرتاحة في فراش معانيها، ويحرّضانها على التمرد على ذاتها، ويطالبانها بما هو فوق طاقتها، فعلى بساط الحب تولد المعاني من جديد.
بهذا المعنى، فإن الحب دائماً نوع من الجنون، أو كما تقول الرواية: «الحب أن نعيش ما لم نعشه كأننا عشناه» (ص 108)، وبالتالي فهو وهم، لكنه وهم حقيقي. ولأنه كذلك يصير العاشق أبله، أو ساذجاً. يوافق دون أن يفكر، ولأنه كذلك أيضاً فهو خارج المألوف والمبتذل لأنه «لا عشق من دون هذا الهوان الذي يكسر ظهر الرجولة» (ص 59).
إن هذا الجنون السابق على الكلام يشكل مصدراً آخر للمعنى، فهو شبيه بصمت منال الذي يمدّ الكلمات بالمعنى، وهو مؤهل لأن يؤثر فينا ويغير شيئاً جوهرياً حين تعجز الكلمات.
ليس مصادفة أن التغييرات الكبيرة والمفارق المهمة تجعل حياة آدم نتاج أحداث على طرف الكلام، ونابعة أساساً من علاقته بمنال ودالية. لقد فهم «آدم» من نظرات أمه أن عليه أن يرحل، لم تقل له أن يترك البيت، لكنها عرفت قراره بالرحيل ولم تقل شيئاً، فأدرك من صمتها أن عليه أن يذهب: «قرأت ذهابي في عينيها» (ص 295). والمرة الثانية كانت حين انتهت علاقته بعشيقته دالية.. دالية «مضت، وجعلتني أكتشف في صمتها الذي غطى الفصل الأخير من حياتي أن الحب الذي ولد في سياق اللعبة انتهى، وأن عليّ أن أمضي كي لا تتحلل روحي في الأسى» (ص 291).
مضى آدم ليبحث عن نفسه، بعد أن انتهى الحب وساد الصمت، فهو ككل حب كان عبارة عن سوء تفاهم، ولم يكن في إمكانه أن يفهم وأن يواجه نفسه إلاّ عندما انتهى سوء التفاهم. الفهم بدأ عندما انتهى سوء الفهم، غير أنه ليس ممكناً الوصول إلى هذا الفهم ومواجهة الذات من دون «سوء الفهم» الملازم لكل قصة حب، لأن سوء الفهم هو المرايا التي نرى أنفسنا من خلالها. منال في حبها وصمتها، ودالية في حبها وصمتها، قذفتا بآدم إلى حيث قذفتاه، وفي حبهما وفي صمتهما كانتا مرآة للذات في طور البحث عن هويتها ومعنى وجودها. والدور الذي يؤديه الحب في الرواية يُلزمنا إجراء مقارنة بين أحداث غيتو اللد، وبين نيويورك حيث «تبدأ» الرواية. «آدم» في نيويورك الملأى بالبارات والمقاهي غير قادر وغير مؤهل للحب، لكن غيتو اللد كان لا يزال قادراً على احتضان قصة حب تولد على هامش المجزرة بين رجل جاوز الستين وامرأة في أواخر العشرينيات ليعلنا زواجهما، على الرغم من أن الرجل متزوج من قبل، وأب لأولاد. إيليا بطشون الرجل الستيني المتزوج والخارج من المجزرة، يذهب إلى زواجه العاشق، أمّا «آدم» العازب النيويوركي فيدخل في يأسه، وهذه مقابلة تستدعي التفكير في عمق الهزيمة بين جيل الآباء وجيل الأبناء.
الذاكرة والنسيان
الثنائية التالية التي أنوي الإشارة إليها هي ثنائية الذاكرة والنسيان وتشكّل الهوية، وهي ثنائية مأزقية من الصعب الإشارة إلى مخرج واضح منها. «آدم» يراوح بين رغبته في أن ينسى، ورغبته في أن يتذكر، وبين هذه وتلك يحاول أن يستجمع أشلاء روحه المتناثرة. دائماً يبدأ من جديد، فكما يقول في الرواية: «أعدت تأليف حياتي ست مرات» (ص 118)، رجل تعب من الذاكرة ويحن إليها، يهرب منها فيجدها أمامه، ويذهب هو إليها لكنه يخاف أن يكتبها. «رجل بلا انتماء ولا لغة، رجل تجاوز الخمسين، يبدأ حياته من لحظاته الأخيرة، وينتشي بالموت» (ص 111).
آدم يحاول البحث عن هويته. يحاول أن يتحرر من الذاكرة، لأن ذاكرة كذاكرة المجزرة «عبء ثقيل لا يستطيع أحد تحمّله، لذا أتى النسيان كي يحررنا منه» (ص 96). فيتقمص بداية دور اليهودي ويقول: «اخترعت لنفسي أباً يُدعى يتسحاق… مات أبي في ‹حرب الاستقلال› وترك أمي وحيدة» (ص 269)، وهكذا «نجحت، وكنت إسرائيلياً كالإسرائيليين. لم أُخفِ هويتي الفلسطينية، لكنني خبأتها في الغيتو الذي ولدت فيه» (ص 104).
يحاول أن ينسى، يعشق دالية اليهودية التي تريد أن تعيده إلى هويته، لكنه يصطدم بذاته مجدداً ويصرخ: «أريد أن أمزّق ذاكرتي كي أخرج من شرنقة الحنين، وأنظر إلى المستقبل» (ص 191).
رغبته في تجاوز الذاكرة مفهومة، والتعثر المستمر لتلك المحاولة مفهوم أيضاً.
غالباً ما تكون الذاكرة عبئاً ثقيلاً، لأنها تذكّرنا بواجباتنا تجاه مَن قضوا أولاً، وتجاه أنفسنا ثانياً. الذاكرة دين علينا، تسلط سيفها الأخلاقي على رقابنا، وتذكّرنا دائماً بما يتوجب علينا أن نقوم به. الذاكرة تأتي من بطن التاريخ، تلقي ثقلها علينا، تجثم فوق الإرادة، تطلب منا انصياعاً، وتُحضر معها سجلاً حافلاً بالمطالب الأخلاقية والواجبات تجاه الأهل والوطن والأقرباء والأحباء. الذاكرة هي الأرض الخصبة التي ينمو فيها الشعور بالذنب الذي كثيراً ما يكون عائقاً أمام معانقة الحياة، وحجر عثرة في الطريق إلى الاحتفاء بها. عندها يصير اغتيال الذاكرة ضرورة حياتية كي يستمر الأفراد في حياتهم، فهذا الدين العميق كفيل أحياناً بأن يشلّ القدرة على الحركة، فتصبح الذاكرة عائقاً أمام المستقبل وأمام الحرية والسعادة، ويجب التخلص منها بأي ثمن.. بأي ثمن؟
لا تكون الذات ذاتاً إلاّ بصفتها كائناً تاريخياً يراكم تجاربه ويتواصل مع ماضيه. الذات ليست لحظة، وإنما خيط متواصل يجمع بين «أنا» اليوم و»أنا» البارحة، محولة إياهما إلى ذات واحدة. هذه الاستمرارية للذات هي الوحيدة المؤهلة لكي تجعلنا ذوات لها هوية، ولأن تربط الحلقات المنفصلة في وحدة واحدة اسمها «أنا»، وأن تجمع الشظايا المتفرقة والشخصيات المتناثرة. فمن دون هذه الـ «أنا» المتماسكة لا يمكننا حتى أن نفكر أو نسعى أو نطمح إلى مستقبل أفضل، فلماذا نخطط أو نأمل بأن تكون الـ «أنا» المستقبلية هي «الأنا» نفسها التي تتحدث إليكم الآن، و»الأنا» نفسها التي نسعى لسعادتها؟ حين نطرح الماضي والذاكرة جانباً فذلك لا يعني بالضرورة أننا نستطيع التحرك إلى الأمام بسرعة أكبر، ولا أن نعانق الحياة أكثر، ولا أن نستشعر السعادة بعمق أفضل، لأن السعادة حين تأتي عليها أن تجد «ذاتاً» في انتظارها، قادرة على استيعابها وتقبلها ومعانقتها وفهمها. السعادة غير اللذة، فهي بحاجة إلى ذات كي تسكن فيها، والذات لا تستطيع من دون الذاكرة.
حاول «آدم» القفز في الهواء إلى الأمام، فلم تنجح المحاولة، والآن يحاول العودة إلى الوراء، فهل تنجح المحاولة؟
لا تفصح الرواية لنا شيئاً عن هذه المحاولة، وتُبقي الباب مفتوحاً أمام الرواية المقبلة.
مجزرة اللد
ليس ممكناً الحديث عن رواية كهذه من دون الحديث عمّا جرى في اللد من هول المجزرة، وعن جميع ما رافقها من آليات الصمت والإسكات والإذلال، واختلال المعاني، وفقدان اللغة والبوصلة. الرواية تعيد نسج الأحداث، وكتابة تأثير الأحداث في الشخوص والنفسيات والأخلاقيات: ما الذي فعلته بنا المجزرة الرهيبة، وكيف تعايشنا معها، وكيف خرجنا منها، إن خرجنا، وكيف خرجت، إن خرجت.
هول الصدمة في سنة 1948 لم يكن على بال، وفاق سيناريوهات الرعب كلها. لم يتعامل معه الفلسطيني باعتباره حقيقة، وإنما باعتباره كابوساً موقتاً، حدثاً خارج الحياة وليس جزءاً منها. غير أن أشد ما يلفت الانتباه في النص ليس عدد الضحايا وتفصيلات المجازر، بل العامل الإنساني الذي رافق عمل الجلاد وعمل الضحية، وتفاعلهما مع الأحداث.
ليس غريباً أن تحارب الشعوب وتخسر، وتلك هي الهزيمة، لكن هناك الذل الذي يأتي بعد الهزيمة. والذل يكمن في تلك المشاهد التي فرضت على الفلسطيني ليس فقط أن ينفصل عن أقرب الناس إليه، وحتى أن يسرق بيوت جيرانه وينتشي بعملية السرقة باعتبارها نوعاً من الروتين اليومي وتنفيذاً لمهمة ملقاة على عاتقه، بل حتى أن ينفصل عن نفسه، ويغترب عن جسده، وهما أكثر الأشياء حميمية. وفي الرواية نوعان من هذا الاقتحام للذات بأكثر صورها الحميمية منعا الفلسطينيين من التواصل مع وجودهم. الأول هو هذا المستوى من التحكم في الذات الفلسطينية، والذي لا يُبقي لها ولا حتى الحد الأدنى من الشعور بكونها ذاتاً، ذلك بأن الذات التي لا تستطيع البكاء محرومة من ذاتيتها.
النوع الآخر، وهو الأسوأ، لا يقع في سياق المنع، لكن في سياق الإجبار على القيام بأعمال معينة؛ إجبار الفلسطينييين على دفن الجثث، على إفراغ البيوت من محتوياتها ووضعها في سيارات تقوم بنقلها إلى المخازن الإسرائيلية، أي تحويل الفلسطينيين إلى شركاء في عملية نهبهم الذاتية. غير أن الأسوأ من هذا وذاك هو الإجبار على الرقص، وهو موضوع تعود إليه الرواية في عدة مناسبات وتشير إلى حدوثه ليس فقط في مذابح اللد، بل خلال مذابح صبرا وشاتيلا أيضاً، والتي أُجبرت فيها الضحية على الرقص وعلى ترديد شعارات مثل: يسقط أبو عمار ويحيا بشير الجميل.
في كتاب صدر قبل بضع سنوات وصف جندي احتياط إسرائيلي ممارسات الجنود على الحواجز، وتفنّنهم في إذلال الفلسطيني، فأشار إلى ظاهرة كان يجبر فيها الجنود الإسرائيليون المواطنين الفلسطينيين الذين يرغبون في عبور الحاجز بأن يقوموا بأداء أغنية للمغني زوهر أرغوف بالعبرية بعد أن يقوموا بتلقينهم كلمات الأغنية بالعبرية.. أن تُهزم أمام الآخرين وأن يحولوك إلى مجرد أداة لخدمة أهدافهم شيء، أمّا أن تقبل الذات على ذاتها أن تتحول إلى أداة في عُرف نفسها فذلك مستوى آخر من الذل وفقدان الهوية الذاتية هو أقرب إلى إجبار الذات على الانتحار الجزئي. الهزيمة شيء والإجبار على الانتحار الجزئي الذي تستعمل فيه الذات ذاتها ـ جسدها، أو صوتها لأداء مهمة ليست من خيارها، فذلك منتهى الاغتراب؛ اغتراب عن الجسد في حالة الرقص، واغتراب عن الصوت في حالة الإجبار على الغناء: فهذا الصوت ليس صوتي بعد الآن ولا يعبّر عني، وهذا الجسد ليس جسدي بعد الآن، لأني رقصت حين لم أرغب في الرقص.
الرقص والغناء تعابير حميمية عن المزاج والذات، واقتحام المزاج هو اقتحام للحميمية الإنسانية، إلاّ إن خلود وسط هذا الذل الذي لا مفر منه، تجد نفسها تقاوم. كيف تقاوم؟ بالجنون؛ رقصت، رقصت تماماً أمام الجنود، وبدا كأنها ترقص من رغبتها وليس فقط خضوعاً لهم. حرّرت إرادتها ورقصت رقصة الموت، لكن مَن يرقص حول الجثث سوى المجانين؟ بالجنون أعاد الفلسطيني اكتشاف حريته. المرة الأولى رقصت خلود بالجنون، والمرة الأُخرى رقصت في عرسها رقصة الفرح، فاستعادت جسدها، ورقصت هذه المرة حين رغبت في أن ترقص. لقد انتقمت لجسدها وحرّرته، وهذه المرة بالفرح وليس بالجنون.
الحضيض الذي وصل إليه الفلسطيني، يتجسد في المشهد الذي رواه مراد عن “المصري” الذي كان أحد أفراد المجموعة التي نفّذت أوامر نهب البيوت، فوجد نفسه مساهماً في نهب بيته. لكن حين وصل أمام مرآة كبيرة، وشاهد صورته منعكسة فيها، رفض نقلها، وتمرد على أوامر الجنود، فتعارك الشباب مع الجنود، وسقطت المرآة فوقهم، وتهشمت محطمة صور الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين. لقد كشفت المرآة للفلسطيني عمق الذل الذي أوصله إلى الحضيض، فقال “لا”. هنا ولدت الذات الفلسطينية من جديد، فالذات تولد عندما تقول “لا”، وتسوّر نفسها بـها.
في هذا السياق يقدم إلياس خوري تصويراً لما يمكن أن تؤول إليه الذات البشرية في الحالات القصوى ـ ـما يستطيع المجرم أن يفعله وما تستطيعه الضحية من التحمل: المجرم يوغل في الإجرام، والضحية توغل في قدرتها على التحمل من أجل اجتراح حياة جديدة وسط الموت والدمار، كي تحتفل بفرح صغير على شكل اكتشاف بئر جديدة، أو بضع بقرات حلوب، أو إيجاد بعض الكهول في قيد الحياة في البيوت المهجرة. هذا هو زاد الحياة الذي تبدأ معه الحياة في غيتو اللد. الحياة في حالاتها القصوى تؤجل كل شيء، حتى الأخلاق، لأن “الضرورات تبيح المحظورات” كما قالت العرب، ولأن “الضرورة القصوى لا تعرف قانوناً يحكمها” كما في القانون الروماني.
أمام مثلث الموت -الحياة – الحب، كم يبدو الوعظ الأخلاقي والسياسي تافهاً.
إلياس خوري: “أولاد الغيتو ـ اسمي آدم” (رواية).
بيروت: دار الآداب، 2016. 423 صفحة
صحيفة القدس العربي هي صحيفة لندنية تأسست عام 1989.
جريدة العرب
نُشر في 07-05-2016، العدد : 10268، ص(17)
الصفحة : ثقافة
العرب - محمد المطرود
أولاد الغيتو حكاية مجزرة أصبحت ماضيا وبقيت مستمرة
لا تسكن حكاية وضاح اليمن في عشقين وجنون إلاّ في صندوق الخليفة، ثمّ في جبّ القصر كما تقول المرويات، ليدفن السرّ، حاكتها مرويات عديدة، كما لو أنّ طاقة تفجيرية في العودة إليها أو إلى ما يشير إليها يكمن في الاسم والحكاية معا.
أراد إلياس خوري في روايته الأخيرة “أولاد الغيتو/ اسمي آدم”، محاكاة حكاية وضاح اليمن الشهيرة كما أراد محاكاة متشائل إيميل حبيبي، لكنه وجد نفسه في مروية أخرى يؤرخ لمجزرة فلسطينية حقيقية، ويبرئ خوري نفسه من كونه صانعا متخيلا للشخصيات والأمكنة والوقائع، مؤكدا أنه المؤتمن سعيد الحظ على أوراق وصلته تسرد هذا العمل برواية حكائية، تتنقل بين أزمنة وأمكنة مختلفة تتوزع على فلسطين وبيروت وأميركا، وإنه بذلك يثوّر ذاكرة قارئه المنكوب، سليل “مجزرة اللد” فيما لو كان فلسطينيا، أو فيما لو كان عربيا إذا علم القارئ أنّ مفاصل الحكاية تنسحب على حال الكثيرين منهم.
الحزن في “أولاد الغيتو” الصادرة عن دار الآداب 2016، ليس ندما، لكنه ذاكرة، كما أنّ “الذاكرة ليست حنينا، بل وشما منغرسا في أعماقنا”، هذه شحنة احتفائية بالحنين، يمكن من خلالها تصيّد جمال بطل الرواية وهو يستعيد ذاكرته في شكل آخر، ويعود ليؤسس رؤيته للمجزرة مرة أخرى وأخرى.
آدم دنون (ابن الغيتو) هو بطل الحكاية، ومن البداية لنا أن نلاحظ ما للاسم من طاقة إحالية من حيث الولادة الأولى لمخيم يبزغ من النار ليبقى فيها، ويحيل بقدر كبير إلى تلمس رحلة الأنبياء وتعثرهم وانكساراتهم ومن ثم انتصاراتهم، غير أنّ الانتصار في حال بطل إلياس خوري في “أولاد الغيتو” ملتبس وغامض وربما فلسفي أكثر ممّا هو واقعي.
الحكاية تقدم الأحداث كما أنها الحقيقة على لسان ساردها، الذي يظهر مثقفا ومحملا مادة قراءته ورؤيته للحكاية التي أصبحت ماضيا وبقيت مستمرة، وإن كانت اللغة حكيمة ومأثورة فهي لا تدّعي ذلك، إنّما يلحظ مجيء المقولة متزنة ومضبوطة، بحيث لا يمكن الاقتطاع من الجمل المتواترة ومن أماكن لا على التعيين، فالقارئ سيعلم الدقة التي ارتآها الراوي أو صاحب الأوراق المنتحر، وهنا ستكون الأمانة أو التواطؤ بين الروائي وبطله يصل إلى حدّ التطابق في الإخلاص للحكاية/ الحقيقة والتاريخ من خلال المعرفة ووعي الذات.
يعتمد خوري على السردية الفلسطينية وتعقيداتها، لذا نجد الأحداث متشابكة في ما بينها، فإلى جانب اللغة التي تزاوج بين الشعرية والحكمة مشعرة قارئها بوعي الرواة ومعرفتهم لمآلات الكارثة التي مازالت مستمرة، يصبح من المتعذر تلخيص الحيوات المتصارعة في حياة الراوي، وتبقى الشخصية الرئيسية آدم بما يحيط به من منال، أمّه غير البيولوجية، إلى أبويه غير البيولوجيين، أحدهم عابر يأتي ذكره كزوج أمّ، بينما الثاني مأمون الأعمى يدخل الحياة كشاهد عليها، وما إغماضة عينيه عن البصر إلا تفتيح للبصيرة ولذاكرة آدم التي ارتضت الخمول لصالح الرضا بالقسمة الفلسطينية خلاصا من الفلسطيني المعطوب في غيتو اللد/ وارسو.
يحاول صاحب “باب الشمس”، والتي قد تكون حكاية الغيتو تكملة لها، إدراك رائحة المخيم بما أشاعته همجية الإسرائيلي وهو يحوّل الأرض إلى جحيم، ليصنع من الكذبة والأسطورة التي تتقاطع فيها الشعوب رواية تاريخية تخصه.
إنّ التشظي الهوياتي للبطل بل لمجموع الشخوص، إذا عرفنا إن إحدى الثيمات الأخرى المعززة لوعي الرواية هو توزع البطل على أبطال وما آدم المحتفى به كوليد أول للمخيم ودوران أسمائه في فلك نسبته إلى أبيه زوج أمه منال حسن دنون الشهيد، وحمله لهذا المجد الذي لا يرفضه ولكنه يجده ثقيلا أو حمله لاسم ناجي بوصفه الناجي من مجزرة قضت فيها أمه تحت شجرة زيتون، بينما بقي ضرعها في فمه إلى حين العثور عليه.
هذا الالتباس النَسبي، خلق هويات عدة للبطل وما محاولاته في ما بعد في إيجاد حكايته ليقصّها وعدوله عن قصة وضاح اليمن أو محاكاته لإميل حبيبي وإدوارد سعيد ودرويش والشاعر راشد حسين باختياره مصيرا يشبه مصيره محترقا بعيدا، ما كل ذلك إلا محاولة بناء هوية جديدة، تعيد رسم القصة من جديد، ليس بالظاهر فيها والعلني وبالروايات المتضاربة والتي استطاعت إسرائيل تعمية الجزء الأكبر منها لصالح أكذوباتها وتواطؤ العالم معها تحت هول “مظلوميتها” المزوّرة، فرسم السرد ما هو مخفي بتلك المساحات الصامتة والفواصل التي لم تلق اهتماما لكنها كانت الأهم حين يغيب المؤرخ.
إلياس خوري في روايته يؤرخ ببطله وحدثه الفلسطيني ووعي بطله في ما يخص الذاكرة وأيضا الحنين والعطب اللذين يصيبانها، ويشكل ذاكرة لا ترتد للماضي بقدر ما هي مستشرفة للحال العربية وثوراتها المقموعة في أكثر من بلد، ربّما تكون سوريا المثال الأكثر فتكا ضمنها.
العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977
صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة
يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر
الأربعاء، ٢٣ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٥
جريدة الحياة
مايا الحاج
الياس خوري يسرد مجزرة اللدّ بنَفَس حكائي
لا ندري إن كان الياس خوري تعمّد تقديم جزء ثانٍ من روايته الشهيرة «باب الشمس» فكتب «أولاد الغيتو - اسمي آدم» (دار الآداب)، أم أنه تابع بحثه عن حكايات عالقة في حناجر فلسطينين فقرّر أن يحكيها في عمل إبداعي جديد. ولكن في كلتا الحالتين، تأتي الرواية الجديدة استكمالاً لمشروع خوري في إحياء قضيةٍ أيبسها الصمت، فما عادت ترتوي إلاّ حينما تُروى.
الحكاية هنا ليست بديلاً من الحياة، بل هي الحياة نفسها. هذا ما يتوصّل اليه بطل الرواية، آدم دنّون، في نهاية الرواية. وهو الذي يصف نفسه مراراً بأنه «ابن الحكاية». وكم كان دقيقاً في وصفه هذا، بحيث يخال القارئ للحظات أنّ «آدم» شخصية من ورق خرجت من نسيج حكاية أخرى أوردها الكاتب نفسه في رواية سابقة. لكنّه تحوّل من طيفٍ في صورة عابرة إلى بطل الرواية والسارد الرئيس فيها.
وقبل التوغّل في حكاية «أولاد الغيتو»، يستحضرنا هنا ذاك المشهد من رائعة خوري «باب الشمس»: «كانت المرأة تنام تحت شجرة الزيتون، اقتربت منها، وكانت تتغطّى بشعرها الطويل. انحنيت، أزحت الشعر، فرأيت المرأة متجمّدة بالموت، وشعرها يغطّي طفلة صغيرة تنام متقوقعة فوق أمّها... وهناك خلف إحدى الصخور، رأيت ثلاثة رجال مرميّين في العراء». نعم، قد يكون آدم دنّون في «أولاد الغيتو» هو نفسه ذاك الطفل الجاثم فوق صدر أمه الميتة، ولنفترض أنّ راوي هذه الحكاية في «باب الشمس» قد أخطأه النظر، فظنّ المولود أنثى من فرط ذهوله وسط قوافل الموت والشتات.
حكاية مُستعادة
لكنّ آدم، أوّل طفل ولد في «الغيتو» (ومن هنا استحقّ اسمه)، لا يكتشف حقيقته إلاّ بعد خمسين عاماً حينما يلتقي به مأمون في نيويورك، صديقه الأعمى ومنقذه ومربيه، قبل أن يغدو باحثاً وأستاذاً جامعياً معروفاً. «قال إنه رفعني عالياً، وهو يصرخ بالجميع قائلاً إنه وجد هذا الطفل مرمياً تحت شجرة الزيتون في حضن أمه التي فارقت الحياة، ولكن لا أحد توقف ليستفسر، أو ليأخذ الطفل من بين يدي الأعمى... قال إنني ابن شجرة الزيتون» (ص 115).
حكاية الطفل آدم لا تمرّ عابرةً. بل إنها تتكرّر، مرة على لسان الراوي (آدم) نفسه، ومرّة على لسان مأمون، ومرّات على لسان آخرين. ويُعدّ تكرار الأحداث، أو المشاهد، خاصّة من خصائص الكتابة السردية عند الياس خوري. إنه يُكرّر صوراً معينة داخل النص الواحد، وأحياناً على امتداد نصوص مختلفة، ليُقدّمها كلّ مرّة في إطار حكائي جديد يكشف جزءاً غامضاً فيها.
وإذا كان التناص يعني في جزءٍ منه وراثية النصوص أو تداخلها، فإنّ هذا المصطلح النقدي لا يقف هنا عند تماثل بعض الأحداث أو حتى الشخصيات بين الروايتين، بل إنّ الياس خوري يُقحم، عبر لعبة فنية ذكية، روايته «باب الشمس» كمادة أدبية يُحاججها البطل وينتقدها، ثمّ يُعارضها أيضاً. «هناك رأيت كيف تحولت قصة دالية صديقتي الى أشلاء، ثم رأيت مؤلف رواية «باب الشمس» يقف الى جانب المخرج الإسرائيلي الأصلع، ويُقدّم نفسه بوصفه خبيراً في الحكاية الفلسطينية، ويكذب» (ص 24). ويتسّع هذا التناص لاحقاً ليشمل الشعر العربي والآداب العالمية، بيد أنه يتجلّى بوضوح في حكاية الشاعر وضّاح اليمن، شخصية ينتقيها الكاتب من كتاب «الأغاني» ليتخيّل لها حكاية لم تُكتب عنه.
يغوص الكاتب في حياة وضّاح العاشق والشاعر ليصير شبيه البطل/ الراوي آدم دنّون، أو قرينه. يُسهب في حكاية حبّه المستحيل لروض أو أمّ البنين كما يُسميها، ويجعلها مرادفاً شعرياً لعلاقته مع دالية. ومن ثمّ يسرد حكاية عطشه لتصير انعكاساً لعطش منال، أمّ آدم بالتبني أيّام الحصار في الغيتو، وقبلها عطشه وهو رضيع متعلّق بصدر أمّه المتيبس، بعد مجزرة اللدّ في صيف 1948. وتأتي قصة مقتل وضاح مختنقاً وصامتاً في الصندوق الأسود لتتقاطع وقصة موت فلسطينيين قضوا صمتاً واختناقاً داخل «صندوق» كبير مسيّج بالأسلاك الشائكة، أطلق عليه الإسرائيليون إسم «الغيتو». واللافت أنّ مفردتي العطش والصمت تتلاصقان إلى حدّ التماهي في النصّ، حتى تبدو الواحدة انعكاساً للأخرى: «العطش بيكسر الأصوات، وبيصير الكلام بيشبه حشرجة الموت»، وفق تعبير مأمون بلكنته الفلسطينية المحببة. وهكذا، يُمكن القول إنّ ما فعله آدم دنّون، الراوي/ الكاتب في النص، عبر اجترار شخصية وضّاح اليمن هو استدعاء ذاتي تماماً مثلما يحدث في تداخل الصور على سطحي مرآتين متوازيين تماماً حيث يكون الاستدعاء الذاتي لانهائياً.
لعبة البدائل
وإذ يستعير آدم حكاية وضّاح اليمن ليكتب رواية مستعارة عن فلسطين، يفشل في إكمال نصه المتخيل ليجد نفسه منساقاً نحو كتابة سيرته، وبالتالي سيرة وطنه أو الأصحّ «نكبته». وهو يقول في «دفاتره» أنّ هذه المذكرّات التي لا يجد لها تصنيفاً أدبياً (سيرة، رواية، قصة...) ليست إلاّ بديلاً عن رواية أخرى كان يصبو اليها، تماماً مثلما كانت الأشياء كلّها من حوله بديلاً لأشياء أخرى. «بيتنا لم يكن بيتنا، لكنه بديلاً للبيت الذي احتلّه قادمون من بلغاريا. وأبي الذي مات قبل ولادتي صار أباً في الحكاية، بينما هذا الرجل الأعمى هو أبي اليومي...» (ص 129).
وما يُمكن إضافته في هذا السياق، أنّ آدم الذي درس الأدب العبري وسافر الى نيويورك واصطنع هوية يهودية وعمل في محل «فلافل» اسرائيلي ما هو إلاّ بديل آدم الفلسطيني الذي مات والداه في مجزرة اللدّ وتبنته شابة مات خطيبها حسن دنون شهيداً، فجعلته ابناً مفترضاً له. ويتسّع مفهوم «البديل» أكثر في الرواية حين يصير «الغيتو» نفسه بديلاً عن الوطن الحقيقي، أو حين يغدو «غيتو» اللدّ الفلسطيني بديلاً سيكولوجياً لـ «غيتو» اليهود في وارسو. «لا تعرف منال معنى كلمة غيتو أو من أين أتت. كلّ ما تعرفه أنّ سكّان اللدّ، المدينة المسيَّجة بالأسلاك، سمعوا الكلمة من الجنود الإسرائيليين، فاعتقدوا أنّ كلمة «غيتو» تعني حي الفلسطينيين، أو حي العرب، كما قرَّر الإسرائيليُّون تسميةَ سكّان البلاد الأصليين. وحده مأمون كان يعرف: «الغيتو هو اسم أحياء اليهود في أوروبا». «يعني إحنا صرنا يهود؟» قالت منال بسذاجة».
ينطلق الياس خوري في روايته التي وضعها تحت عنوانين «أولاد الغيتو» و»إسمي آدم» عبر مقدمة، هي أشبه بتوطئة، يستدعي فيها نفسه، مشيراً إلى أنّ هذه الرواية التي أرسلها إلى «دار الآداب» كي ينشرها ليست إلاّ «دفاتر» آدم دنّون، رجل التقاه في مدينة نيويورك، حيث يعمل أستاذاً في الجامعة. أمّا هذه الدفاتر الخاصة جداً، كما نكتشف بعد التوغّل في قراءتها، فوصلت اليه من خلال تلميذته الكورية سارانغ لي. هذه الفتاة كانت تتردّد إلى مطعم الفلافل الإسرائيلي حيث يعمل آدم، الخمسينيّ الوسيم والغامض، إلى أن صارت صديقته المقربة، وربما حبيبته لولا أنّ آدم اختار نهاية أخرى لحكايتهما.
يتنصّل خوري من الرواية وكأنّها من صنيع أحد آخر، ثم يعترف بأنّه سينشر النص الذي تمنّى أن يكون كاتبه. «لقد استحوذت فكرة جهنمية على تفكيري، وهي أن أسرق الكتاب وأنشره باسمي، هكذا أكون حققت حلمي في كتابة الجزء الثاني من رواية «باب الشمس»، وهو أمر عجزت عن القيام به. ماذا أكتب بعد مقتل شمس وموت نهيلة؟» (ص 15).
كتب آدم مذكراته قبل أن يموت منتحراً على طريقة الشاعر الفلسطيني راشد حسين في نيويورك، الذي قضى محترقاً في شقته بعدما غفا وهو يُدخّن سيجارته مستلقياً على الفراش. كتب نصوصاً غير مكتملة أحياناً وخاطب فيها قارئاً لا مرئياً لأنه كان قد أوصى بحرق أوراقه وجثته ونثر رمادهما في نهر الهادسون. كان يريد أن يلتقي بأرواح الغرباء لأنه غريب ضائع نَسَبه. وعلى رغم مأساته وصمته وأزماته، ظلّ آدم يُقاوم بالكلام. هو الطفل الذي عاش على «فُتات الحكايات التي لا تُقال إلاّ همساً» ثمّ استطاع أن يُسمع العالم حكايته.
«أولاد الغـــيتو» ليســـت حكاية آدم دنون وحده. بل هي حكاية الفلسطينيين الذي ذاقوا الذلّ في وطنهم والسمّ خارجه، على ما تقول اعتدال في الرواية. الجميع تائه بين موت وصمت وعطش وغربة وشتات. لكنّ الأمل الوحيد يبقى في الكلمة. تلك الكلمة التي لا معنى لها بالضرورة، هي أثمن ما يملكه المرء أحياناً. «نحن منملكش إشي غير الكلام» تقول منال لابنها. لذا، فإنّ الحكاية هي دوماً عند الياس خوري مجموعة حكايات، تتوالد وتتناسخ باسلوب شهرزادي، لتنتهي تاركةً في القارئ رغبة في سماع المزيد.
ليس سهلاً أن تستوعب مقالة محدودة الكلمات كلّ ما وضعه الياس خوري في هذه الرواية الضخمة (420 صفحة) من أحداث وشخصيات وتقنيات وأساليب... فالرواية ترصد واقعة تاريخية عُرفت بـ «مذبحة اللدّ»، أشهر مجزرة نفذتها قوات البالماخ الإسرائيلية في تموز 1948، ضدّ كلّ ما هو حي ومتحرّك على أرض اللدّ الفلسطينية. لكنّ خوري يتجاوز الحادثة ببعدها العسكري، ويهمل لغة الأرقام التي يرسخها التاريخ، على اعتبار أنّ المجزرة أسفرت عن مقتل مئتي وخمسين شهيداً، علماً أنّ العدد الفعلي قد يفوق ذلك بكثير. فهو يبحث عن الشواهد، ينقّب الصور ويلتقط الكلمات. إنه باختصار، يبحث عن الإنسان وسط كلّ هذا الخراب والألم. الطفل الناجي فوق صدر أمه، الفلسطيني المأمور بحرق الجثث المتآكلة بعيد المذبحة، المغترب التائه في شتات الذاكرة والوطن... أمّا حكاية آدم دنّون، فتتجاوز بصدقها وقسوتها فردانية الشخصية الروائية لتُلامس كلّ فلسطيني، بل كلّ عربي أنهكته هموم جغرافيته وتاريخها، فعاش تائهاً بين وجع الداخل وغربة الخارج.
رواية الياس خوري الجديدة حقيقية وموجعة، لكنّها فريدة ببنيتها السردية ولغتها السلسة والمنسابة وقضيتها المهمة. والأهم، أنها تُعيد إلينا فلسطين - الأرض والأم - في زمن الذاكرة العربية المفقودة.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.
Elias Khoury