أن تحبك جيهان، مكاوي سعيد (مصر)، رواية الدار المصرية اللبنانية - 2015

, بقلم محمد بكري


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977


جريدة العرب
نُشر في 25/10/2015، العدد: 10077، ص(12)
الصفحة : ثقافة
ممدوح فرّاج النابي


مكاوي سعيد وروايته ’أن تحبك جيهان’

الروائي المصري قدم صورة للوسط الأدبي والفني بأنه وسط منشغل بالمؤامرات والغيرة والحقد والأنانية والخيانة


مكاوي سعيد روائي مصري صدر له من قبل مجموعة قصصية بعنوان «الركض وراء الضوء» ثم رواية «فئران السفينة»، لكن النقلة الحقيقية له كانت بعد روايته «تغريدة البجعة»، التي دخلت القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2007.
من أعماله أيضا «مقتنيات وسط البلد» و«عن الميدان وتجلياته»، صدر له حديثا رواية «أن تحبك جيهان» عن الدار المصرية اللبنانية 2015. يعود في روايته الجديدة إلى منطقة وسط البلد من جديد، فمعظم أحداثها تدور فيها، خاصّة الجزء الأخير عند قيام الثورة، وتمركز الأبطال؛ أحمد الضوي، وجيهان العرابي، وبسمة وخيري، وإبراهيم وفريد وإمبابي في الميدان والذي يشهد أيضا نهاية أحمد الضوي بطل الرواية قبل أن تتحقّق أمنيته بأن «تحبه جيهان».
الرواية التي تتألف من 706 صفحات، محورها الأساسي أحمد الضوي المهندس المعماري الذي تحوّل إلى مدني بفضل زوجته الأولى جليلة، التي تزوّجها رغم أن إناءها مثقوب، وهو الأمر الذي لفت انتباه أمه فلمّحت له، لكنه تغاضى عنها إلى أن اعترفت له هي، فقبل الزواج منها ليؤكّد حالة انفصاله عن بيئة الصعيد التي ينتمي إليها، وهو ما أكمله بتنازله عن ميراثه لأبناء عمه بعد وفاة والده.

يرتبط أحمد الضوي بعلاقتين متناقضتين مع ريم مطر وجيهان العرابي، وقد دخل فيهما بالمصادفة، الأولى عبر مشهد سينمائي بامتياز، فبعد المـشادّة التي حدثت معها في الفندق استغلّ الموقف للاقتراب منها ونجح بمساعدة صديقه عماد الذي أعاد لها حقّها المسلوب، فتبدأ بعدها علاقة بينهما لا حدود لها تبدأ بالحب وتنتهي بالعدوانية، والثانية هي جيهان العرابي ابنة المستشار والعائلة ذات الوضعية الاجتماعية المرموقة، يحدث اللقاء عبر بحثها عن فيلا لتصوير بعض المشاهد في فيلم، ويتمّ التعارف بينهما وإن كانت مشاعرها تجاهه متذبذبة.

أحمد الضوي هو واسطة العقد بين هاتين الشخصيتين اللتين يدور في محيطهما، ومن حدود هاتين الشخصيتين تدخل السّرد شخصيات لا حصر لها، كثير منها مرتبط بريم مثل: ملك ابنتها وزوجها علي المنصوري وأصدقائها استلا وهايدي ومصطفى صلاح ثم إمبابي السمسار، وإبراهيم أبوالعيش المغرم بالطبيعة والموسيقى. ومن ناحية جيهان تدخل شخصيات رنا وتميم وبسمة وريتاج ورحمة، وأحمد الوشاحي وداوود عبدالسيد ومحسن أحمد وغيرهم من الفنانين الذين لهم مرجعية واقعية. على كثرة هذه الشخصيات إلا أنها جاءت كهوامش أصابت الأحداث بالترهل والدخول في تفصيلات وتفريعات لم تدعم حركة السّرد. الشخصيات الرئيسية في علاقاته مع بعض أخذت علاقة ضدية، فتقع جيهان الواقعية والعاقلة في مقابل ريم الحسية والمجنونة، وعماد النزق في مقابل أحمد الضوي المتزن والدقيق.

الرواية مع طولها وكثرة شخصياتها، إلا أنها خالية من الحدث الجوهري الذي تدور الشخصيات في فلكه على اختلاف تنوعاتهم وطبقاتهم وأيديولوجياتهم وأيضا معتقدهم الديني. فالرّجال والنساء على حدّ سواء في صراع في ما بينهم، ويعيشون في دوائر من الوهم، تنتهي بجميعهم إلى اليأس وافتقاد الطريق الصحيح، وهو ما آل بالشخصيات لتكرّر واقعها ولا تتجاوزه، ريم بعد كلّ ما حدث تعود إلى زوجها القديم، ورنا بعدما حاربت من أجل موهبتها ترجع إلى زوجها فؤاد، وتميم يكرّر وفاة حسام اليساري دون زيادات، وجيهان بعدما لانت لأحمد، كان أحمد قد مات دون أن تتنازل وتقبل به دون أن يقول لها «أنا بحبك يا جيهان» وهو الشرط الذي وضعته لتقبل بمن يتقدّم إليها، وبالمثل تعود كارولين لعماد بعد الأزمة التي تعرّض لها بعد الثورة.

ينهض بناء الرواية على التعدّد، حيث تنتمي إلى رواية الأصوات، وكل شخصية تسرد بضمير الأنا، وفي أحيان كثيرة تسرد الشخصيات عن بعضها، ويميل السّرد إلى جانب انسيابيته إلى الوصف، حيث عين السّارد تصف كل ما تقع عليه عيناه، من أفعال وحركات وغمزات وأيضا تعبيرات الغضب والوله والشبق، مثلما كان التنوّع هو قرين الرواية جاء الزمن ـ أيضا ـ متنوّعا بين الماضي والحاضر.

فكلّ شخصية تذهب إلى النقطة الأبعد؛ النقطة الكاشفة لتكوين الشخصية، أحمد الضوي يذهب إلى علاقة أمه وأبيه وزواجهما في أدفو، ثم انتقالهما إلى القاهرة، وحكاية الخال حسام، وريم تعود لطفولتها وعلاقتها بوالدها الذي كانت سببا في انفتاحها، ثم موته في السجن وهو ما سبب عارا لهم، وجيهان تعود لوالدها القاضي الذي كان يقيم العدالة الزائفة على نفسه، متطهرا بالصّلاة والحج، وبداية علاقتها بمعهد السينما ودور أمها في الأمر، وإن كان الزمن يبدأ من نقطة حاضرة، تتمدّد رويدا رويدا لتتصل بالأحداث الكبرى التي مرّت بها مصر منذ تفجير كنيسة القديسين في رأس السنة الجديدة من عام 2011، وصولا إلى الثورة، وهي الأحداث التي لفّقت للرواية دون مبرّر.
ثمة تعدّد أيضا على مستوى الشريط اللغوي الذي مرّره الكاتب بين الفصحى الغالبة على السّرد والعامية المسيطرة على الحوارات، وإن كانت اللغة العامية تميل إلى الفجاجة في بعضها خاصّة في نوبات انفعال عماد ضابط الشرطة، وموجات غضب ريم. ومع هذا فمع طول النص إلا أن السارد كان متحكما في شخصياته وفي تنقلاته السردية، بين أزمات شخصياته وتوتراتها، ومرحها وصخبها، وكذلك غنجها ودلالها. فقد كان ممتلكا لناصية السرد ورسم الشخصيات داخليا وخارجيّا، وهو ما يحسب له.

محنة اليسار

تتعرض الرواية في أحد جوانبها لأزمة اليسار المصري، وقد مرّرها هنا عبر شخصيتي خاله حسام محمد التركي، وجاره شريف الذي كان امتدادا له، وهو ما جعل أحمد متعاطفا معه لحد بعيد، لأنه كان يذكره بخاله. في تناول مكاوي سعيد لأزمة اليسار كرّر ذات الأخطاء التي رصدتها السينما (السفارة في العمارة) والدراما (أستاذ ورئيس قسم) في نظرتهما لليسار، وركّز على حالة الفوبيا التي أصيب بها اليسار من الدولة وأجهزتها الأيديولوجية كأن يرفض الخال حضور حفل الزفاف لأنه سيجرى في إحدى النوادي التابعة لهذه الأجهزة.

والأهم حالة الفوبيا الخاصة بالقتل والتربص كما في حالة شريف، مكرّسا لشخصية نمطية، تبدو صورتها مهزوزة ومصابة بأمراض نفسيّة تودي بحياتها في النهاية، تاركا تاريخا حافلا من تجربة اليسار ودوره المهم في الحراك السياسي وعلى الأخص النقابي. كما تجلّت في شخصيات ممثلة لليسار مثل الدكتور إسماعيل صبري عبدالله وأحمد عبدالله رزه والدكتور فؤاد مرسي الذي أسّس مع الدكتور إسماعيل صبري عبدالله الحزب الشيوعي المصري، ويوسف درويش والمحامي وميشيل كامل وأحمد الهلالي.
الشيء اللافت على مدار الرواية وتعدّد شخصياتها، أنه لا توجد صورة إيجابية للمرأة سوى شخصية كارولين التي كان يطاردها الضابط عماد للزواج منها، ما عدا ذلك فصفة الأمومة منعدمة من جميع الشخصيات على مستوى الجيل الأكبر (أم أحمد الضوي، وأم رويدا وريم) أو الجيل الأصغر (ريم / رنا / بسمة / رحمة)، افتقاد الأمومة كان نتاجه غياب الشخصية القدوة في الرواية، فلا فرق بين الأب أو الأم، فكلاهما غائبان، والد الضوي كان يصطحبه إلى البارات والحانات، ووالد ريم كان يأخذها لصالات القمار، ووالدة أحمد كانت في غيبوبة مع أخيها الذي فقد الأم فصارت أما وتركت ابنها، أو والدة ريم التي تفرغت لعملها وأهملت بنتيها ريم ورويدا للخادمة.

قدم الكاتب صورة للوسط الأدبي والفني، وإن بدأت سلبية بعض الشيء، بأنه وسط منشغل بالمؤامرات والغيرة والحقد والأنانية والخيانة، العجيب أنه كرّر هذه الصّورة المشوّهة عن الوسط الفنيّ والأدبيّ عبر ثلاث شخصيات رنا وعلاقتها بزوجها فؤاد وحالة الغيرة بينهما، وريم التي تركت التمثيل في مصر لأن الجميع يريدونها مطيّة في غرفهم الخاصّة قبل إسناد الدور لها، ولهذا قرّرت أن تعمل معهدا للتمثيل، والنموذج الثالث كان عبر شخصية تميم، وحالة الحقد التي آلت به إلى مرض نفسي قضى عليه.

لم يكن حضور الثورة وأحداثها مبرّرا، فالأحداث في مجملها بعيدة عنها والشخصيات ليست محمّلة بجينات التمرّد باستثناء ريم وإن كانت حذّرت أحمد من المشاركة، ورنا التي انحازت للسلطة، ومن ثم جاءت الثورة كنوع من الرفاهية، فالمشاركة في التظاهرات جاءت كنوع من المجاملات، بسمة تحاول أن ترضى خيري وأحمد الضوي لبسمة وخيري وجيهان لبسمة التي دعتها للمشاركة، وليس بناء على إيمان حقيقي بالثورة ومطالبها، ومثلما كان حدث الثورة غير مبرّر، فإن انفصال ريم عن أحمد ثم اتصالها به وقبول ردّ أحمد غير مبرّر، نفس حالة ترددات جيهان في قبول أحمد كشخص يحبّها وتعاملت معه على طول خط الرواية بتحفظ.

الرواية فشلت في تبرير ضخامة الحجم، مع كثرة الشخصيات التي جاءت دون بناء حقيقي يجمعها، ولكنها أكّدت على حقيقة مهمة أنّه من الصّعب أن تبني عملا جديدا على أمجاد جوائز تمنح وفق أهواء مانحيها وليس للأجود.

عن موقع جريدة العرب اللندنية

المقال بالـ PDF


العرب : أول صحيفة عربية يومية تأسست في لندن 1977

صحيفة العرب© جميع الحقوق محفوظة

يسمح بالاقتباس شريطة الاشارة الى المصدر



جريدة الحياة


الخميس، ٨ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥
جريدة الحياة
يسري عبدالله


مكاوي سعيد يدفع شخوصه الى الحافة


على حافة اليأس والتشوه حيناً، والقدرة على المقاومة حيناً آخر، يقف شخوص رواية «أن تحبك جيهان»، (الدار المصرية اللبناينة) للروائي المصري مكاوي سعيد. شخوص موزعون ما بين عوالم مختلفة، وتناقضات اجتماعية فادحة، يتحركون في مساحة زمانية قصيرة نسبياً، فتصل ما بين السنوات التي تسبق الثورة المصرية في يناير 2011، ووصولاً إليها، عبر الحضور الواعد للشخوص في ميدانها (أحمد الضوي/ جيهان العرابي/ بسمة/ خيري/ إمبابي) أو معاداتها كما في حالة «رنا» القاصة التي راهنت على السلطة لا الكتابة. فالزمن المرجع للرواية يبقى إذاً زمناً دالاً قادراً على تفجير جملة من الأسئلة عن الواقع المصري وتحولاته السياسية/ الثقافية العاصفة.

ينفتح عنوان الرواية على إمكانات تأويلية متعددة، يتشارك المتلقي في بلوغ دلالاتها الوسيعة، حين يكمل تلك الفراغات النصية الكامنة خلف معنى «أن تحبك جيهان»، كما يدفع الكاتب أيضاً بإحدى شخصياته المركزية منذ العنوان «جيهان»، في رواية تحتشد بزخم من الشخوص والتفصيلات والحكايات الفرعية والمسارات السردية المتقاطعة. ويستهلها الكاتب ببطله المركزي «أحمد الضوي»، الذي يأخذ مع «جيهان» و»ريم» الحيز الأبرز في متن السرد، وإن ظل «الضوي» رابطاًً مركزياً ما بين الفصول السردية المتنوعة والتي تقترب من الستين فصلاً. هذه الفصول لم يمنحها الكاتب أي ترقيمات، واكتفى بعناوين فرعية تحيل إلى أسماء الشخوص المركزيين الثلاثة في الرواية: أحمد الضوي/ جيهان العرابي/ ريم مطر.

مسارات حكائية

وظل الكاتب شغوفاً في بنائه الشكلي للعمل بالجدل ما بين المسارات الحكائية التي يرويها الضوي والمسارات الأخرى التي ترويها جيهان العرابي، بحيث نقرأ فصلاً يرويه الضوي ثم يعقبه فصل آخر ترويه جيهان. وظل حضور ريم عبر مستويين متجادلين في السرد، فتارة يحكي عنها السارد/ البطل ( أحمد الضوي)، وتارة تحكي هي عن نفسها كما في الفصول التي تتسلم فيها مقاليد الحكي.

وهذا كله يفضي بنا إلى أن نصبح أمام رواية تدرك ذلك المنطق الديموقراطي للسرد. فثمة أصوات متباينة يتواتر حضورها في السرد، فتحكي من وجهة نظرها، ووفق زاوية رؤية تخصها وحدها صوب الحياة والعالم والأشياء، ومن ثم تبرز التماسات والاختلافات الجوهرية ما بين الشخوص المختلفين تارة، وتتخلق الرؤية السردية من جدل الأصوات المختلفة وتقاطع حكاياتها، وتتكامل لتشكل جدارية السرد في الرواية. فهناك فصول كثيرة تنتهي عند حادثة ما، ثم يأتي الفصل التالي والمروي على لسان شخصية أخرى ليكمل الحكاية، وهذا ما رأيناه عند الإشارة إلى الاستعداد لليلة رأس السنة الميلادية في فصل ترويه جيهان العرابي، ثم نرى استكمالاً للحكي على لسان أحمد الضوي بوصفه أحد المدعوين الأساسيين في منزل جيهان ليلتها.

وعلى رغم المساحة الزمانية القصيرة نسبياً والتي يتحرك فيها الكاتب في روايته إلا أن ثمة لعباً زمنياً دالاً في النص، حيث يوظف تقنية الاسترجاع في مقاطع عدة. وتحضر الإشارات الدالة إلى زمن السبعينات من القرن الماضي وأثره في التحولات الفارقة في بنية الواقع المصري. ويقدم الروائي منحى الزمن هنا عبر شخصيته الثرية «شريف» المناضل الذي نسيه الحلم، وأكله الخوف، واعتقل أيام السادات، وخرج من المعتقل ليجد كل شيء قد تغير، فصار مكتئباً، شاكّاً في كل من حوله، بمن فيهم جاره (أحمد الضوي) الذي أحبه لشبهه بخاله الراحل (حسام)، الشاعر الذي لم ينجز شيئاً، وماتت أم الضوي حزناً على فراقه.

على متن الرواية إذاً وعلى حوافها أيضاً ينهض شخوص هامشيون، يمنحون الرؤية السردية بعداً إنسانياً ودلالياً عميقاً، من بينهم (شريف وحبيبته الأولى شويكار/ أم الضوي وأخوها الراحل حسام/ إمبابي المرتحل في الزمان والمكان الروائيين والمرتبط بريم والضوي والميدان وكثيرين).

ويتسع الحيز المكاني في الرواية قليلاً، ليضم القاهرة بأحيائها المختلفة، وإدفو حيث مسقط رأس البطل المركزي «أحمد الضوي»، وإن ظلت منطقة وسط البلد المكان المركزي في الرواية، بوصفه منطقة أثيرة في نصوص مكاوي سعيد كافة، وندَّاهة سحرية تجذب ناسها دوما. وتظل حركة الشخوص في المكان وتفاعلهم المادي/ الأنطولوجي، والنفسي معه بمثابة آليات جمالية يعبر بها مكاوي عن رؤيته للعالم، تلك الرؤية المكسوة بقدر عارم من الأسى والإحساس بوطأة الهزائم الصغيرة، واختلاس البهجات العابرة لبطله المركزي أحمد الضوي، حتى لو كانت ليلة في حضن عشيقته ريم، أو سهرة مع صديقه الضابط «عماد».

تتعدد لغات الشخوص في الرواية، ويعبّر كل منهم عن تصور أيديولوجي محدد، وهذا ما يبدو في الجمل التي ترد على لسان الشخوص مباشرة، أما اللغة التي يستخدمها الكاتب في السرد فإنها تتسم بتلك البساطة الآسرة، كما تتسم بالسلامة اللغوية، وربما كانت اللغة هنا مختلفة في بنيتها عن الرواية السابقة لمكاوي «تغريدة البجعة»، خصوصاً في ما يتعلق بالجزالة اللغوية والتصور الكلاسيكي عنها.

حكايات متعددة

تبدأ الرواية بأحمد الضوي وتنتهي به، إنه الخيط الواصل ما بين أحداثها المختلفة، وحكاياتها المتعددة، رابط تقني مركزي ينفذ من خلاله الكاتب إلى شخوصه الآخرين، فيصل إلى الشخصيتين المركزيتين: ريم وجيهان، المرأتان المدهشتان في تفاصيل البناء الفني للشخصية الروائية بأبعادها الثلاثة (الجسدية، والنفسية، والاجتماعية)، حيث يهتم بهما مكاوي سعيد كثيرا، وينزع كثيرا في توظيف السرد التحليلي في ما يتعلق بهما من مقاطع سردية، وكأنه يوقن بصعوبة المهمة. وقد يفضي المستوى الظاهري في فهم النص وتأويله إلى القول بأن (ريم وجيهان) وجهان متعارضان، فريم النزقة المحبة للحياة والجنس حد الوله: «لقد عاشرت ريم وأكاد أحفظها غيبا ويفتنني منها تناقضها المرعب... منظرها وسلوكها الخارجي ولسانها الأرستقراطي وما يستتر خلفه من وقاحة وقبح وهوس جنسي». (ص 190). تقابلها جيهان التي تعاقب نفسها إن أحبت، والتي تمثل علامة على تكوين تقليدي محافظ إلى حد ما، غير أنهما يبقيان في جوهرهما علامة على عالم محبط ومأزوم ومثقل بالخيبات والإخفاقات، ومسكون بالتصور الذكوري عن العالم.

وكلما اقترب الإيقاع السردي من الركود في نص ضخم (نحو 700 صفحة)، يدفع الكاتب إحدى شخصياته التي تمثل ما يعرف بالشخصية الحافزة أو المحركة والتي تدفع بالموقف السردي الراكد إلى الأمام، وهذا مانراه من خلال شخصية «إمبابي» المثيرة للدهشة والتساؤل.

ثمة إشارات لأحداث واقعية وشخوص حقيقيين في الرواية، يتجلى عبر هذا الجانب التسجيلي الذي يضفره الكاتب في متنه السردي، وبما يشي بالإيهام بواقعية الحدث الروائي: «كنت أنا وجيهان ضمن المجموعة الواقفة أمام جروبي في مواجهة مجموعة مكتبة مدبولي، وكان جنود الأمن المركزي يتشكلون بهيئة نصف قوس أمام كل مجموعة. وكانوا أقرب إلى مجموعتنا التي تقف حرة من دون متاريس بينما المجموعة المقابلة كانت ترتكز على المتاريس الحديدية. وكان منظر الجنود مرعباً بتجهمهم وبنظراتهم المندهشة والكارهة لنا، وبخوذهم وبنــادقهم وهراويهم وعصيهم الكهربية. ورأيت على الجانب الآخر الأديب بهاء طاهر والشاعر أحمد فؤاد نجم وكنت أعرفهما من وسائل الإعلام». (ص 657).

وبعد... في روايته «أن تحبك جيهان» يوظف مكاوي سعيد تقنية الأصوات المتعددة، فيروي الحكاية عبر أكثر من منظور، واللافت أن الحكايات هنا تتكىء على التلاحم في ما بينها، مثلما يعتمد السرد على آلية التوالد الحكائي، حيث تتناسل الحكايات من بعضها بعضاً، وتتجادل المســــارات الــسردية في نص يحفل بالتوتر المكتــوم الذي ينتهي بالثورة، ويحتــشد بزخم التفاصيل، وجسارة الإيروتيـــكي، وتأزم «ريم» رغم قدرتها الهائلة على الفضــح، وتعثر «جيهان» في عالمها، واغــتراب «الضوي» رغم التحامه بالمجموع في النـــهاية، هذا الإلتحام الذي يظل مفتوحاً بدوره على سؤال أساسي: هل يمكن للــفعل الثوري أن يقضي على إشــكاليات ومـــآزق طبقة اجتمـــاعية (الطبقة الوسطى) في سبيــلها للأفول والنسيان؟ هذا السؤال الجواب الذي يظل عنواناً على نص مفتوح، متعدد الدلالات والتأويلات.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.



إيلاف


الأربعاء 15 يوليو/تموز 2015
إيلاف - أول يومية إليكترونية صدرت من لندن عام 2001
محمد الحمامصي


في “أن تحبك جيهان” مكاوي سعيد يشكل أحوال مصر


“أن تحبك جيهان” عنوان الرواية التي صدرت أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب والروائي مكاوي سعيد، الرواية تدور فى أجواء ما يحدث في مصر فى السنوات الأخيرة من خلال شخوصها النابضة بالحياة، ومن خلال الإبحار بداخل العوالم المختلفة الثرية بين “ريم مطر” و"جيهان العرابي" اللتين يتشكل منهما عالم الرواية المتدفق، ليس لكونهما امرأتين وحسب، بل باعتبارهما مثالين لتقلبات واختلافات النفس الإنسانية في تجلياتها المتباينة، ونافذتين كاشفتين لأحوال مجتمعهما، وتشابكاتهما مع آخرين بالمحيط الذي تعيشان فيه.

“ريم” و"جيهان" امرأتان من طبقة متوسطة تهرَّأت خلال العقود الفائتة، وانفرطت معها بالضرورة نظممهمة كانت تنتظم، عاداتهما وتقاليدتهما، وأكثر ما تأثر بالسلب الاتجاهات السياسية التي كانت تشغل أغلبية الطبقة المتوسطة، فبدا المجتمع من خلالهما مفككًا، تسوده الفردية، والانغماس في الهموم، والانكفاء على الذات، ولا تظهر في حياتهما ولا حياة الشخصيات المحيطة بهما أية قضايا مشتركة، ولا اهتمامات جمعية، فكل منهم يبحث عن خلاصه الفردي، وطموحاته، وربما ملذاته الخاصة.

“ريم” فتاة مزاجية ذات تكوين نزق، نشأت في وسط مترف، هيأ لها كل سبل التعليم الراقي والثقافة، والتحقت بمعهد المسرح، لكنها لم تكمل دراستها وتزوجت من أستاذ في المعهد على وعد أن يساعدها في التمثيل، وزج بها في أدوار هزيلة أحبطت طموحها تدريجيًّا، وسافرت معه إلى دولة خليجية، وأنجبا بنتًا تعاني مرض التوحد، ثم انفصلت عنه بالطلاق وعادت لتبحث عن مشروعها الخاص، وتحاول تأسيس معهد للتمثيل، وتمارس حريتها مع «أحمد الضوي».
و"جيهان العرابي" خريجة معهد السينما، وبدلًا من العمل بالتصوير السينمائي، اختارت التصوير الفوتوغرافي، الذي كان سببًا في تعرفها على “تميم” الفنان التشكيلي الواعد، وتزوجا عن حب، وبقدر طموحه الإبداعي، وجموحه، كان انهياره، فلم تحتمل روحه لهفته الجامحة على تنفيذ مشاريع فنية هائلة، وسرعان ما انهار جسده ومات، وبقيت “جيهان” منكفأة على ذاتها، تتعامل مع الرجال بصدود، وريبة مفرطة، وتدور هي وصديقتان لها من سنوات الدراسة، في فراغ الحياة الذي يتسع عليهن بلا راتق، لكنها تظل شخصية محيرة، لايستطيع أحد الإمساك بملامحها، وربما لاتستطيع هي شخصيًّا تحديد أهدافها في الحياة بشكل واضح.

وبالمقابل لـ “ريم وجيهان”، هناك “أحمد الضوي” بطل الرواية الرئيسى، المهندس المقاول المطحون بين عوالمهم وعالمه الخاص الفقير فى أحداثه، فهو الذي نشأ في حي عابدين، يتجنب السياسة، لكنه اتصل بالثقافة عبر خاله “حسام”، المناضل وشاعر العامية المثالي الذي مات في سن مبكرة، وتشاء الظروف أن يحل “شريف” - وهو مناضل ومثقف تعرض للاعتقال أكثر من مرة - محل خاله حسام في الشقة الملاصقة، وفي المكانة الأدبية عند “أحمد الضوي”. وصديقه “عماد” ضابط الشرطة الشرس الذي لا يتورع عن فعل أي شئ، لكنه بقي صديقًا مخلصًا لأحمد، يؤنسان بعضهما ضد وحشة حياتهما الخالية.

خطوط كل هذه الشخصيات، وغيرها أيضًا، تتداخل وتتباعد، لتشكل حياة ملأى بالتفاصيل المتباينة، من الجموح والطموح، إلى الآلام والمتعة، بين حب الحياة والموت المباغت، ما يوحي بأن الحياة أصعب كثيرًا من كل نظرات التبسيط الساذجة، خاصة حين تبدو أنها تعطي وجهها لأحد، وحين يقترب منها يتضح أنها توليه الأدبار بجفاء.

مكاوي سعيد.. كاتب وروائي مصري.. بدأ رحلته مع الكتابة الشعر في أثناء دراسته الجامعية.. ثم اتجه إلى السرد وأصدر مجموعته القصصية الأولي “الركض وراء الضوء” عام 1982، ثم توالت أعماله الإبداعية في القصة والرواية وأدب الأطفال. ومن أشهر أعماله رواية “تغريدة البجعة » التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2007، وكذلك كتاب”مقتنيات وسط البلد" و"كراسة التحرير" ومجموعته القصصية “البهجة تحزم حقائبها” الحائزة على جائزة ساويرس في القصة القصيرة للكبار عام 2015. وقد حصل على جوائز وتكريمات أخرى في مصر والبلاد العربية، كما ترجمت مجموعة من أعماله إلى اللغة الإنجليزية والألمانية والفرنسية.

عن موقع ايلاف على الإنترنت


ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :

  • مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
  • يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
  • كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.

عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)