جريدة المدن الألكترونيّة
السبت 16-06-2018
الصفحة : ثقافة
محمود الزيباوي
أنماط السينما الوثائقية : من كريس ماركر إلى جايمس لونغلي
<article4769|cycle|docs=5668,5669>
في الجزء الثاني من سلسلة “بدايات” لتعريف الفيلم الوثائقي، تقدم نوي مندل، رئيسة المعهد الأسكتلندي للأفلام، عرض لأنماط “الوثائقي الإبداعي” (يطلق عليه أحياناً “الوثائقي الروائي” أو ببساطة “الوثائقي الفني”)، معتمدةً في تصنيفها على كلاسيكيات السينما الوثائقية في القرن الماضي، وبشكل خاص تلك التي أعقبت عقد الخمسينات، الذي شهد تطوراً تقنياً، سهل حركة الكاميرا والتسجيل الصوتي، ما حرر المخرجين مكانياً وزمانياً، سامحاً لهم بالتصوير في أمكنة لم تكن متاحة في السابق.
طبعاً مسارات الوثائقي الجديدة ارتكزت بجزء منها على أعمال المخرجين المؤسسين في النصف الأول من القرن وتحديداً العشرينات، مثل روبيرت فلاهرتي وتسيغا فرتوف، إلا أنها استفادت من موجات سينمائية معاصرة، كالموجة الفرنسية الجديدة التي أعطت الفيلم الوثائقي زخماً نقدياً عزز وظائفيته الإجتماعية والسياسية والتزامه بقضايا جديدة لم تكن مطروحة في السابق.
أول هذه الأنماط وفق نوي مندل هي “الفيلم الرصدي” Observational الذي يعتمد على الإقتراب من الشخصية، مراقبتها، وإقامة حوار بينها وبين عناصر المشهد، بأقل تدخل ممكن من قبل المخرج خلال التصوير. أحد النماذج المعروفة فيلم Grey Gardens الأميركي الذي سجل فيه الثنائي آلبرت ودايفد مايزلز يوميات امرأتين تعيشان في عزلة داخل منزلهما التاريخي الفخم، لكن المتهالك، في أحد أحياء نيويورك الغنية، وقد أصبح الفيلم أحد أولى أيقونات نمط “السينما المباشرة” Direct Cinema وهي التسمية الأميركية لسينما الرصد التي أصبحت شائعة في التلفزيون أيضاً، وتظهر الحياة كـ"تدفق" Flow لا ينقطع أو يتشتت (يسمى أسلوب التصوير أحياناً “فراشة الجدار” لأنه يحاول إظهار الواقع من وجهة نظر فراشة تقف على جدار).
طبعاً عدم التدخل ليس فعلاً سلبياً، ولا يلغي تحكم المخرج بما يريد إظهاره على الشاشة. يعتبر الأميركي فريدريك وايزمان أبرز من وظف هذا النمط إجتماعياً وسياسياً، خاصة في سلسلته التي يوثق فيها الحياة داخل مجموعة من المؤسسات الأميركية، حيث يراقب تفاعل الناس في المكان (لا يرى وايزمان تأثيراً فعلياً للكاميرا على سلوكيات الناس في هذه المؤسسات، بل أداءً لما يرونه أدواراً تناسب المكان الذي يتواجدون فيه) وذلك من أجل فهم آليات هذا التفاعل وبالتالي آليات عمل المؤسسة المتحولة إلى شخصية واضحة ومتسقة.
النمط الآخر الذي تحدثت عنه مندل ويراه البعض تطويرا لسينما الرصد، هو النمط التشاركي Participatory الذي يعلي من قيمة تدخل المخرج وضروريته، حيث يقوم الأخير بالتحدث من وراء الكاميرا ويفتعل أحداثاً تغيّر من سلوكيات الشخصيات. في فيلم Lift لمارك إسحق يسأل صانع العمل امرأة تدخل معه إلى المصعد عن الحلم الذي راودها في الليلة السابقة. ورغم أن المرأة تأخذ الموضوع بمزاح في المرة الأولى، إلا أنها تعود لتجاوبه بصراحة عندما تراه للمرة الثانية، بعد أن زرع الفكرة في رأسها. المثال الآخر فيلم Leader, Driver, Driver Wife لنيك برومفيلد، الذي يظهر سرعة غضب الشخصية الرئيسية، يوجين تيري بلانش، زعيم اليمين الأبيض المتشدد في جنوب أفريقيا، بعد تأخر المخرج عن موعد التصوير 5 دقائق فقط.
أحد أول الأفلام التي وضعت في هذه الخانة(Chronicle of a Summer 1961) الذي نرى ونسمع فيه المخرج الأنثروبولوجي جون روش، وقد التصقت تسمية Cinema Vérité بهذا النمط من الأفلام منذ ذلك الوقت، لتوضع لاحقاً بمواجهة السينما الأميركية المباشرة Direct Cinema التي “تخدع المشاهد بسبب إخفاء نوايا الشخص الواقف خلف الكاميرا”.
النمط الثالث الذي تخبرنا عنه مندل هو السينما الوثائقية الشاعرية، التي تتسم مشاهدها في العادة بعدم التتابع وعدم الالتصاق بمسار سردي أو قصصي واضح. طبعاً النماذج كثيرة ويعود بعضها إلى العقود الأولى من عمر السينما، مثل فيلم “المطر” (1929) للمخرج الفرنسي جيل إيفنز، وحتى بعض أفلام تسيغا فرتوف مثل We: Variant of a Manifesto 1922 التي تحول العالم إلى كلّ متناغم، على إيقاعات متشابهة.
تركز مندل على الأفلام الشاعرية ذات البعد السياسي، ربما لإثبات قدرة هذه السينما على معالجة الواقع ومواجهته كأي نمط آخر. ينطبق هذا على فيلم سانتياغو ألفاريس “الآن” (1965) الذي يضيء على حياة الأميركيين من أصول أفريقية في سياق الحراك الحقوقي الذي شهدته الولايات المتحدة في الستينات. استخدم المخرج لقطات من الأخبار وصوراً صحافية، من دون تعليق كلامي، مكتفياً بإيقاع أغنية لينا هورن “الآن” التي كانت ممنوعة خلال تلك الفترة لتحريضها على الثورة.
أحد الأفلام البارزة التي ظهرت مؤخراً وتنتمي بوضوح إلى هذا النمط Iraq in Fragments (2006) لجايمس لونغلي، وقد اكتسب شهرة كبيرة عالمياً بعد نقله صورة عن مجتمع عراقي متشظٍ وخائف بسبب انتشار الميليشيات والفوضى بعد سنوات قليلة من دخول الجيش الأميركي وسقوط نظام البعث. وكما أفلام هذا النمط غير المتسقة زمنياً من ناحية المشاهد البصرية (لا ينطبق هذا على الصوت بالضرورة)، يحاول الفيلم نقل المشاعر والأحاسيس الداخلية لشخصياته المضطربة والخائفة عوضاً عن الأحداث والحقائق.
أما الوثائقي الفكري Essay Film فرغم أنه ابتكار الموجة الفرنسية الجديدة حيث انتشر على يد كريس ماركر ومخرجين فرنسيين وألمان آخرين، إلا أن التسمية ظهرت للمرة الأولى على يد الفنان الألماني هانس ريختر الذي كتب في العام 1940: “الفيلم الفكري يسمح بإخراج عالم الآراء والأفكار إلى العلن. ينتج أفكاراً وانعكاسات غير مقيدة بالعالم الواقعي بالضرورة، بل مناقضة، غير منطقية، وخيالية”.
تقول مندل إن هذا النمط من الأفلام يلاحق فكرة معينة، ثم يحاول تطويرها إلى أن تصبح نقاشاً فلسفياً، سياسياً، أو الإثنان معاً. غالباً ما يحوي هذا النوع من الأفلام نصوصاً شاعرية أو نثرية، ويعتمد على الخلط بين أنماط فنية متعددة. أحد أبرز أفلام النوع Sans Soleil لكريس ماركر الذي اختير من قبل “سايت آند ساوند: في العام 2004 كثالث أفضل فيلم وثائقي في التاريخ، ويقدم وفق مندل”مقاربة عالمية للفلسفة من خلال محاولته جمع ثراء العالم في فيلم واحد".
من الأنماط الأخرى التي تتحدث عنها مندل، فيلم المذكرات Diary Film الذي يتابع حياة المخرج وتفاعلاته خلال يومياته، وأحد مخرجي هذا النمط جينيفر فوكس صاحبة Flying Confession of a Free Woman. ومن الأنماط الأخرى “الفيلم الإنعكاسي” Reflexive الذي يحوّل المخرج إلى موضوعه، مثل فيلم أغنيس فاردا Les glaneurs et la glaneuse، الذي تتحدث فيه المخرجة عن تقليد جمع البذور عند النساء، الذي يختزل الكثير عن وضع المرأة في المجتمعات التقليدية، وتتحول المخرجة خلاله إلى واحدة من تلك النسوة، حيث نراها تعيد تمثيل مشاهد جميع البذور التي تظهر في عدد من الرسومات.
عن موقع جريدة المدن الألكترونيّة
حقوق النشر
محتويات هذه الجريدة محميّة تحت رخصة المشاع الإبداعي ( يسمح بنقل ايّ مادة منشورة على صفحات الجريدة على أن يتم ّ نسبها إلى “جريدة المدن الألكترونيّة” - يـُحظر القيام بأيّ تعديل ، تغيير أو تحوير عند النقل و يحظـّر استخدام ايّ من المواد لأيّة غايات تجارية - ) لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر تحت رخص المشاع الإبداعي، انقر هنا.